منذ زمن بعيد " مش بعيد أوي" تفتح وعيي مبكرا للقراءة وإدراك ما يدور حولي بسرعة فاقت قدراتي كطفلة، و كنت غالبا ما أتسلل إلى مكتب جدي ادقق في أوراقه المتناثرة فوق سطح المكتب او اختار كتاب التهم بنهم ما يدور فوق صفحاته.
ذات يوم وانا امارس هوايتي وعادتي السرية، وفجأة وانا على تلك الحال ورد إلى سمعي صوت جدي مقبلا فاختفيت كهرة تسعى للامساك بفأر تحت المكتب وخوفا من غضبه حيث انه نهاني اكثر من مرة عن دخول مكتبه لكن على رأي المثل " نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب " فهولا يحب ان يعبث بكتبه احد حتى لو كان هذا الاحد أنا "حفيدته المفضلة" وانا ابدا لا انتهي من حبي للكتب.
المهم، كان من الواضح ان جدي غاضب وكلماته الساقطة القاسية تسقط كشلال فوق رأس أبي المستكين: ازاي ياولد تعمل كده، انت مش عارف ان دي قلة قيمة، تمسك ايد مراتك قدام أمك وعيالك وتبوس فيها وكمان تقولها بحبك ياسٌكيننه!! يانهار اسود ياجدعان هو الدنيا جرا فيها ايه؟؟ دا انا بقالي 40 سنة متجوز امك وعمري ما عملت العملة السودة دي، هم اللي اختشوا ماتوا، وبعدين ايه بحبك دي، هي كلمه بحبك دي تقولها على الفاضية والمليانه، اخس ياشيخ والله كسفتني، اسمع انا مش عاوز اسمع قلة الادب دي مرة تانية، عايز تحب ابقي اقفل علىك باب غرفتك بعيد عن امك والعيال مش ناقصيين نفتح عينهم على اشياء مش كويسة من دلوقت.. ولازم تكون حمش قدام مراتك عشان ما تركبكش وتدلدل رجليها، اشخط وانطر وشوف النتيجه قيمه وسيمه وهيبه واحترام.. فاهم كلامي ولا اعيد.. آل بحبك آل.. دانا نفسي عمري ما قلتها..
تعجبت من الكلام وانا التي تدرك مدي حنان جدي ورقته وظننت بأن الذي يتحدث شخص اخر غيره وتمنيت في تلك اللحظة ان يرد والدي برد يشفي غليلي ويقنعني وخاصة بأنني وهو وجدي ايضا نحب امي..
وتلاعبت كالعادة الاسئلة في ملعبها الواسع " عقلي " لاتساءل: وما هو العيب في ان يعبر ابي عن مشاعره تجاهها امام اي احد وعلى نحو لائق؟
وما هو الحد الفاصل بين العيب والممنوع؟
ولماذا يجب على الرجل ان يبدي سيئاته وسوء اخلاقه امام اولاده وزوجته والاخرين ويخجل من ابداء مشاعره الرقيقة امامهم؟
ولماذا وعلى اختلاف قواعد التعبير لا تتعلم شعوبنا ومن خلال بعض التوجيهات الواضحة والخاطئة الا التعبير عن الالم والقرف والاشمئزاز والتسلط والقمع؟
وهل الاداب الاجتماعية ترفض لنا اظهار مشاعرنا الحقيقية تجاه من نحبهم؟
ان التوافق في الامزجة هو جوهر علاقة الالفة، فلماذا على الرجل العربي ان يعمل على هدم هذا التوافق ويمضي مغمضا خلف مقولات تاريخية بائدة عن اثبات الذات والرجولة والحرب على امتلاك قياد السلطة وخاصة امام زوجته واولاده " مع العلم انه يصبح العكس تماما لو كان مع احداهن يعبث بشرف الاسرة وميثاقها "؟
وهل اتت الاديان بمنكر عندما حضت على المحبة والمودة بين الرجل وزوجته؟
تقول دراسة سويدية نشرت في عام 1941 " طبعا قبل ما اتولد " ان معدل الوفيات فيمن يكبتون مشاعرهم تتضاعف ثلاث مرات بينهم عكس الذين اعتادوا على حياة مليئة بالتوافق العاطفي المشحون بالاقوال الرقيقة والافعال الحميمة ".
ولماذا على المرأة ايضا ان تتواري خلف خجلها " مع العلم انه اختفي هذه الايام وجاري البحث عنه " فلا تبيح لنفسها اظهار رغبتها وحبها لزوجها؟.
ولماذا تصبح انسانة اخري امام الاخرين تمطر رقة ونعومة وامام زوجها واولادها تمطر اعاصير وصرامة وقلة قيمة؟.
اذن هناك خلل في تربيتنا ومفاهيمنا لابد وان نعمل على تغييرها، ومن وسط غابة الاسئلة التي احاطت بي ومرت بخاطري قبل ان اسمع صوت والدي العملاق يرد بهدوء على جدي: الا تحب امي ياابي؟
رد جدي: وده دخله ايه في اللي بقوله لك، وبعدين اذا حبيتها يعني لازم كل شوية اقول لها " بحبك " عشان تضيع هيبتي قدامها، وبعدين ضمنيا هي عارفه اني بحبها وانتو كمان عارفين!
فجأة وقع المحظور عندما عطست وقال جدي لابي " يرحمكم الله " فرد والدي وعلى غرار " على بابا والاربعين حرامي " مش انا اللي عطست يامعلم..
سحبني جدي من تحت المكتب كعصفور منتوف ريشه وقال: انا كام مرة حقولك متدخليش مكتبي
وكم مرة اقولك اياك والتجسس.
اخذتني العزة من هذا الاتهام الجلل وقلت: انا اسفة ياجدي والله مش حدخل تاني، وبعدين انا مش بتجسس ومعاك في كل اللي قلته لبابا دي حتي تبقي مسخرة وقلة قيمة، ازاي يحب امي ويبوس ايدها ويتبع الشعرا والمجاذيب والمنفلتة عواطفهم من البشر ويطبق كلام سي " احمد رامي " ويستمع للست ثومة " وهي بتلعلع وتقول
" مادام تحب بتنكر ليه؟؟ دا اللي يحب يبان في عنيه. غريبة والله
وكل حب وانتو طيبين