البارحة سقطت حكومة لبنان العمرية، ولم يبق من بؤس المتربصين بها إلا حفنة من السياسين الذين يخلطون الحابل بالنابل ولا يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين هم ذاهبون وفي أي طريق سائرون. البعض منهم أجهش بالبكاء المفرح، الأخر أفلت لسانه الديمقراطي الوسخ ليقول: "إن الذين قتلوا رفيق الحريري عم يعملوا تحن...". زعيمهم وليد جنبلاط دعا إلى التهدئة وطالب بإستقالة رأس الأجهزة الأمنية كافة، ولم يظهر أي جديد في مواقفه سوى إبدائه التعاون للتفاهم حول حكومة إتحاد وطني ذات طابع دستوري فقط لتشرف على الإنتخابات النيابية. بعض البعض الأخر كان حالما إلى حد النوم الكهفي فطالب فجأة ببقاء التظاهر والإحتشاد حتى سقوط رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود. كلام جميل، ولكن إلى أين؟! إلى لا نهاية أكيدة وتمزق أكيد، تستطيع إستنباطه من إختلاف التصريحات وتباينها من جهة وليد جنبلاط أو ميشال عون والملحقات الفرعية لهما، إذ أكد الأخير على أنه لا يريد حكومة إتحاد وطني واعتبر أنها لا تقي بالغرض المطلوب، الغرض المطلوب هو إنسحاب سوريا الفوري من كل لبنان، وأبقى سقفه عاليا جدا إذ ليس في لبنان من هو حيادي وغير مسيس ومحسوب على أحد حتى الدرجة العاشرة، وكانت مطالبته بحكومة سياسية ضربا من التميز والتشتت بين ألوان الطيف الواحد المعارض.

إلى ذلك كله، ابقت الولايات المتحدة على انتقاداتها الموجهة لسورية بسبب "انتهاكاتها الخطيرة المتواصلة" لحقوق الانسان، لكنها اعتبرت ان لبنان يشهد "ثورة الارز" للتخلص من نفوذ دمشق. وقالت مساعدة وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون العالمية "بولا دوبريانسكي" خلال عرض التقرير السنوي حول حقوق الانسان للعام 2004 "نعيش فترة تقدم كبير بالنسبة لحقوق الانسان والديموقراطية"، وبعد ان ذكرت بـ"الثورة البرتقالية في اوكرانيا" التي تلت "الثورة الوردية في جورجيا"، اعتبرت امام الصحافيين "نشهد في لبنان زخما متزايدا باتجاه "ثورة الارز" التي توحد مواطني هذه الدولة في سبيل ديموقراطية فعلية والتحرر من النفوذ الاجنبي". وبذلك يتبين للمطلع أنهم يريدون رأس سوريا للولوج إلى غرف حزب الله المغلقة بوجه المعارضة الطامحة لإسقاط الحزب المقاوم باطنيا، وهو ربما يكون أخر حجر في حساباتها الورقية للولوج لخارطة الشرق الأوسط الكبير، ولم يعد خافيا أن كثرة التظاهر بأن "حزب الله" هو حزب مقاوم من طرف وليد جنبلاط لم تمنع ميشال عون أو بعض المعارضات الأخرى وأبرزها الجميلية من المجاهرة بأن دوره التحريري قد إنتهى وبأن مزارع شبعا ليست لبنانية بل سورية (ربما نسي أل الجميل أيضا أن مساحة لبنان الـ 10452 تدخل من ضمنها شبعا ومزارعها الـ 13، والمطلوب في القرار 1559 رأس لبنان المقاوم والممانع بالدرجة الأولى تحت أوراق وعناوين وسيناريوهات متناقضة ومختلفة، وباتت القرينة مؤكدة أن الحزب سيكون ورقة صراع بين قوى اليمين واليسار، وأن هذه الورقة سترسم مستقبل التكتلات والأحلاف الداخلية والخارجية، وستكسر ظهر من يقف في وجهها، ولن تصنف هي ذاتها من الأن فصاعدا في أي خط ثالث أو ما بين خطين أساسين (حتى ولو صنفت نفسها عمليا)، ولا من شك أن مقتل الحريري سيزيد في هذا الضغط نظرا للدعم الذي أعطاه للحزب في المحافل الدولية، والأوروبية منها خاصة، ولكنه لن ينفي مقولة بأن للحزب جماهيره وممثليه وهو من الطيف الإجتماعي والسياسي اللبناني وبذلك لا يمكن ان تدرج أحزاب المقاومة في كل بلدان العالم ضمن قائمة "الإرهاب" طالما جاء ذلك في الشرعة الأساسية لحقوق الأنسان وملحقاتها، وطالما أنها ممثلة بكثافة في مؤسسات الدولة التي تنتمي إليها، إلا إذا جاء البلاغ رقم صفر بأن رأس الدولة هو الذي بات مطلوبا، وبأن دور الدولة في المعادلة الأوسطية الجديدة هم المحور وإليه ينشطون.

البارحة سقطت حكومة لبنان العمرية، ولكن ليس تحت قوة وضغط الشارع، فهي صاحبة ثقة مجلسية
ودستورية، ولن نخفي بأن الشارع اللبناني كان منظما بالعلم اللبناني وبالكرنفال الكشفي الترفيهي، إلا أن مطالباته مطاطية جدا ولا يمكنك أن تتخيل المعارضة برأس واحد أو لون واحد، إنها إئتلاف متصارعي الحرب المهزومين في زمن ما قبل الطائف، ولم تعد لعبة الأحجام والتمثيل الزئبقية بين أطراف المعارضات والتي تنادى بها العماد الهارب ميشال عون ظاهرة للعيان، فهل حقا أن اللبنانيين باتوا اليوم موحدين في موت رفيق الحريري؟! السؤال الأخر الجريح، أنه لماذا لم يتوحدوا قبل موته، أو إبان رئاسته للحكومة طيلة 12 عاما مضت؟! هل تغير الحريري وصار لاعبا عظيما في المشروع الأميركي- الفرنسي وصارت عنده المطالبة بإنسحاب الجيش السوري من لبنان مطلبا لم يتجرأ به طيلة فترة حكمه؟! أم أنه بات في حكم المؤكد أن إتفاق الطائف الذي كان عرابا أساسيا فيه لم يعد يصلح لأن يكون أداة للحكم وهو لا شك عندها أنه قد صار ضد دستور الجمهورية اللبنانية التي تبوأ سدة حكمها منذ الطائف وإلى ما قبل الإستشهاد بقليل؟! أو أن معارضته حربائية رمادية لا يمكن أن تصلح لتشكيل الفسيفساء السياسي اللبناني في مرحلة مشروع الشرق الأوسط الكبيرفكان رفيق الحريري لغم البداية في مقتله لزيادة ضغط الشارع الطائفي الذي يأتمر به ضد سوريا ووجودها المشرع في لبنان؟! الأتي أعظم في النتائج!! الأسئلة محيرة، ففي لبنان كل شيء قابل للصفقات منذ ميثاق 1943 حتى الطائف وما بعد الطائف إلى يومنا الحاضر، وكل شيء يصلح وله أتباعه دوما، أو لا يصلح وليس له من أتباع ومناصرين، وذاكرة اللبنانيين يعلوها الضجيج الأتي من وراء البحار، والمسعورين في الداخل لا يريدون إلا أن يشتموا رائحة الموت لخصوم مخترعين ومزعومين كانوا حتى الأمس القريب حلفاء الصراع مع "إسرائيل" في معركة "الشحار" و"بحمدون" وكافة الجبل، أما اليوم فلا من ذاكرة ولا من مصلحة للطحلب أن ينبت في معركة المصير ولا من يتذكرون!!!

وتأخذك الذاكرة الحية لتسأل أصحاب العقل المثقوب وأصحاب الأقنعة الجديدة: ألم تكن حكومة رفيق الحريري هي من أجرى التحقيقات في محاولة إغتيال إيلي حبيقة؟ ألم تكن حكومته أيضا المحقق في إغتيال النائب مروان حمادة؟! لماذا لم يدع وليد جنبلاط إلى التظاهر وإسقاط حكومة رفيق الحريري أو حتى مطالبته بها رسميا؟ ألا يعني ذلك أنه واع لمشروعه وللخطة الموضوعة له، ولا يريد تمزيق حليفه الإنتخابي والمالي الذي يرسم دوره بإتقان ليقود المعارضة اللبنانية بالوكالة الجنبلاطية؟! لماذا الإلتفاف على دم رفيق الحريري وتشويه تاريخه وسجلاته وإنجازاته، ألم تحمله المعارضة تهمة الفساد والإفساد وطائفية التعينات التي يقوم بها منذ وصوله إلى السلطة؟!(لا ننسى يوم إتخذ مجلس الوزراء قرارا بمنع الوكالات الحصرية، إذ إعتبرتها المعارضة من الأعمال الطائفية الموجهة مباشرة إليها لأن أصحاب الوكالات الحصرية هم من لون طائفي واحد تمثله المعارضة اللبنانية). قيل من أصحاب السلطة الموالين عن المرحوم "إن رفيق الحريري هو رأس الأفعى في المعارضة"، وأن: "رفيق الحريري هو بركيل قريطم"؟! وهذا كلام سياسي إنتخابي ولكن كانت له مفاعيله على الأرض في ميزان الربح والخسارة الأنتخابيين فقط ولا يتعداه في إلى أكثر من ذلك في مشروع رفيق الحريري الوطني.. لماذا لم يطالب وقت كان وليد جنبلاط وحزبه ينهشون نعمة وزارة المهجرين والأشغال العامة (والخاصة أيضا) بمحاربة الفساد وخفض سن الإقتراع، وإقرار قانون الأحزاب، وقانون الزواج المدني الإختياري أو الإلزامي، وبوضع قانون صالح للإنتخاب لا يستثني منه جبل لبنان (لمرة واحدة تتكرر مرة كل أربع سنوات)، والمطالبة بإنسحاب الجيش السوري والنظام الأمني المركب في "عنجر"، وهل أن والي عنجر قد سحب الثقة متأخرا من باذخي السياسة والمسعورين بحملها، المنفوخين بنعمتها وبالتالي هو سيدفع ثمن السياسة الخاطئة؟!

للسياسة عند وليد جنبلاط شؤون وشجون.. للسياسة "كرخانات" أيضا، فمرة تكون قريطم ومرة حزب الله، ومن قبلها كانت "شراذم البعث"، وقبلها تمنى لو ان الصاروخ الذي أطلقته المقاومة العراقية على"بول ولفوفيتس" منسق الحرب على العراق قد أصابه وأدى إلى مقتله، وعلى إثرها وضع إسمه على قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة الأميركية.. اليوم يستقبل السفير الأميركي ومساعد نائب وزيرالخارجية الأميركية، وصار مرغوبا به في كل العواصم "السوداء" المصدرة للديمقراطية والمبشؤة بالعالم الحر.. السياسة عنده زئبقية يقيسها في ميزان الربح والخسارة الفئوية، إنه طحلب عفن يلتصق في كل مكان خصب للنمو ولو حتى على حساب الوطن الذي أثقل كاهله قتلا وتدميرا وتوزيرا وتزويرا، وحتى على جثث الأموات القدامى الذين ورث مجدهم وحطم مسيرتهم – أعني بذلك والده المرحوم كمال جنبلاط، أو على جثث الأموات الجدد الذين باع دمهم في المزاد العلني اللامتناهي غير أبه بحرمة الموت والميت وأمانات المجالس التي جمعته بهم، وسلخ ما تبقى من جلدهم المحروق ووزعه على أعداء الأمس- حلفاء اليوم (ربما أعداء ما بعد الغد أيضا)، الذين قتل ودمر وهجر أهلهم وأحفادهم ولم تكفه وزارة بكاملها ندفع أموالنا لخزينة الدولة منذ عام 1992 حتى الأن من أجل إرجاع 60 % ممن لم تتحقق عودتهم حتى الأن.. للتذكير فقط، أن رفيق الحريري كان مع إتفاق الطائف حتى يوم الإستشهاد، وليس صحيحا أنه كان معارضا أخر أيامه أو حتى موال بمنطق الفرز السياسي النهائي، وكتلته النيابية كانت مجموعة من الطامعين بمجد الكراسي ونهم السلطة ولا يجمع فيما بينهم إلا شخص رفيق الحريري، وتكاد تكون المناقشة داخل كتلته النيابية ضربا من الفلكلور المزين بالضحكات والهوبرات، وكان فيها من يدافع عنه حتى الموت السياسي أو الخروج النهائي من الكتلة (إسألوا النائب الذي أصبح بحكم السابق لمشاكسته رفيق الحريري عنيت به جميل شماس)، ولم تكن لعبة التوازنات العائلية واللعب على سياسة فرق تسد البيروتية إلا ضربة معلم نجح بها حتى الإستشهاد ( في ذلك يحضرنا سليم دياب وبهاء الدين عيتاني شاعر كتلته وذوادها الذي أخرج كغيره لضرورات إنتخابية من الكتلة). وكان بحكم المؤكد، أنه لم يكن لرفيق الحريري حلفاء دائمين ولا مناصرين دائمين، إذ إنه لم يأت بعقيدة ليحملها النواب الذين طردهم قبل أسبوع واحد من مقتله إلى خارج كتلته (باسم يموت، بشارة مرهج، عدنان عرقجي)، ولم يكن الوصول إلى المجلس والتبعية الساسية إلا العقيدة المثلى لتياره المسمى "المستقبل"، إنه السؤال الذي ينتظر أن يجيب على متاهاته المستقبل القريب والإستثنائي.

البارحة سقطت حكومة لبنان العمرية، ولم يسقط عمر!! إنها "ضربة معلم.."، كما يقول المثل، ومن يدري أن الوضع سيكون أفضل لمن يدعي أنه الفائز في جنازة رفيق الحريري كما عند سلخ جلدة أو لحظة التوزيع؟! حتما لم يسقط عمر، ولن تمحى من ذاكرة اللبنانيين شروط المعارضة العمرية في تزمتها ومشروعها الجهنمي.. حتما لقد أصبح رفيق الحريري في ذمة الله، التاريخ سينصفه، ولبنان سيقول كلمة البقاء، لبنان إرادة اللبنانيين وليس بعضهم، إرادة العلمانيين العقلانيين الذين يستمدون جذورهم من الأرض والشعب والتاريخ الجلي. لبنان القوي بإرادة ابنائة وإيمانهم، لبنان الذي ينتدب مقاومته للدفاع عنه وليس من يطالب بإنتداب دولي. لبنان النظيف، لبنان "سليم الحص" في أصعب الشدائد، وفي محنة التحرير، لبنان "عمر كرامي" الذي وقف بوجه القرار 1559، الذي لم يسقط احدا عندما سقط أخيه رشيد كرامي صريعا شهيدا على أيادي "القوات" و "الكتائب" في الزمن العميل. لبنان الأخضر العربي وأحمد قصير وسناء محيدلي ولولا عبود وهادي نصرالله.
لماذا لا يحق لنا أن نعتب على بيروت ونسجل سمفونية الغضب الأتي؟!.. على بيروت أن تسترجع ذاكرة التاريخ وتخرج من عقلها المثقوب، بيروت بطلة الويمبي مع الفاتح الشهيد خالد علون، بيروت سعيد فخر الدين شهيد الإستقلال الأول، والذي لن يكون الأخير.. على بيروت أن تدفن حقدها وعارها وتاريخها الحديث، بيروت التي استدفنت دم أنطون سعاده في حلكة الليل الطويل، بيروت الفينيق والبعث والنبوغ تذبح من جديد بأدوات التحرير، بأبجدية لم تخترعها صاحبة المداد الطويل... بيروت التي علمت كل الدنى أبجدية الفوز. لماذا لا يحق لنا أن نعتب على بيروت ونسجل سمفونية الغضب الأتي؟!.. بيروت!! "لن تكوني لسوانا يا شرايين دمانا"، وعلى المبشرين الجدد أن يبلطوا بحر أحلامهم وشرق أوسطهم، وأن لا يصبحوا ـ إلا على أجسادنا ـ على الديمقراطية المصدرة: ديمقراطية القتل الشعبية وألـB52، والموز الأميركي المطعم بالنكهة الإسرائيلية.
نضال القـادري
كاتب وشاعر سوري قومي إجتماعي
أوتاوا، كندا – 03/03/2005
[email protected] E-mail: