رغم أن التاريخ لا يعترف بالفرضيات فأحكامه الحادة و تقلباته الكارثية تفرض نفسها فرضا على مسيرة الأفراد و الشعوب ، إلا أنه يحق للمرء أحيانا تخيل فرضيات و إفتراضات قد تبدو للوهلة الأولى خيالية و حالمة ، و لكنها تصلح كأساس للإبحار في عوالم التاريخ الإفتراضية ، و في التخلص و لو مؤقتا من إشكاليات و وقائع الحاضر البائسة ، و إنقلاب الرابع عشر من تموز الأسود في العراق عام 1958 كان في الحقيقة و بعيدا عن العواطف و الرهانات الآيديولوجية و الفكرية و المواقف السياسية المعبئة سلفا هو تعبير عن إنتكاسة تاريخية و سياسية و مجتمعية حادة ، فهو كما أسلفت سابقا بوابة الجحيم و التي من خلالها دخل العراق في دوامة النكسات و الإنقلابات و التصفيات و الحروب و المصائب و تسلط الفاشيات العسكرية و العشائرية و الطائفية وصولا للسقوط العراقي العظيم بعد الإحتلال الأمريكي الذي لم يقدم المن و السلوى و الخلاص بل جلب معه كل رياح التاريخ الصفراء بعد أن تعلقت بأهدابه و تحت رماحه و حمايته كل الجماعات الطفيلية و المتخلفة التي كرست التخلف و أفرزت المحاصصة البائسة و عملت بكل قواها من أجل النهب و الخراب و العودة بالعراق و شعبه للوراء نحو مغارات التاريخ و رواياته البائسة و الخرافية ، ماذا لو لم يسقط النظام الملكي في العراق في فجر ذلك اليوم التموزي الأسود الدموي الذي رسم بأحداثه كل معاني الغدر و النذالة و نكران الجميل و برزت فيه كل الغرائز المتوحشة التي سنت منذ ذلك اليوم سنتها التدميرية الخبيثة... تصوروا منظر إمرأة عراقية وهي تحمل سكينا تقطع فيه أوصال الأمير الوصي عبد الآله بن علي و هو معلق على واجهة فندق في شارع الرشيد ؟ تصوروا مقدار السفالة التي دفعت بمرافق المرحوم الشهيد نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي الأسبق و أحد مؤسسي الكيان العراقي الحديث وهو المقدم وصفي طاهر لإطلاق الرصاص من غدارته على جثة رئيسه السابق في حالة غدر و جبن ، فنوري السعيد رحمه الله كان يمتلك من الرجولة و الكرامة بحيث أنه وضع حدا لحياته بيده بدلا من أن يتعرض لإذلال أهل الغدر و الجبن و هو موقف رجولي إفتقده الكثيرون من القادة الجدد في العراق وقتذاك و حتى يوم الإحتلال و السقوط الكبير!؟.


لقد رحل النظام الملكي بعد أن ترك للعراق شخصيته الدولية و الإعتبارية و بعد أن صان و حفظ حدوده و سيادته التي لم يستطع شاه إيران وقتها رغم قوة إيران أن ينتزع عروبة و عراقية شط العرب أو أن يفرض أهدافه ؟ لقد كان العراق يحظى بإحترام المجتمع الدولي برمته و كان يسير بتؤدة على طريق التنمية الشاملة بعد أن أقيم منذ منتصف الخمسينيات مجلس الإعمار عبر الإستفادة من أموال البترول التي كانت شحيحة وقتذاك و لكن الحكومات الملكية عملت جاهدة لتطوير العراق تعليميا و فنيا و أدبيا رغم رياح الحرب الكونية الباردة و الدعايات الشيوعية و الإنقلابية العسكرية الناصرية ، فكان العراق الدولة ألأولى في الشرق الأوسط الذي دخلته الخدمة التلفزيونية عام 1956!!، و كان جواز السفر العراقي وثيقة ثمينة ومحترمة قبل أن تتحول لزبالة في عصور الإنقلابيين ، و كان الدينار العراقي سيدا و محترما ، و كانت كل التطورات الإيجابية ستفرض تفسها و تجعل من العراق عملاق إقتصادي و تنموي قبل أن تهب عليه رياح إشتراكية التجويع و الفقر و النهب و تجارب المخربين من مغامري السياسة و متسولي الآيديولوجيا الرثة ، لقد حاول النظام الملكي العراقي تلمس أفضل السبل لإحداث نهضة علمية و إقتصادية كانت جميع شروطها و عواملها متوفرة في ظل الإستقرار الداخلي و المكانة الدولية المحترمة و النظام التعليمي الراقي المعتمد على إرسال البعثات و الإستفادة من الطاقات بعيدا عن حسابات الطائفية و المناطقية و العشائرية المريضة المتخلفة ، لو إستمر النظام الملكي العراقي في الحياة لتجنب الشعب العراقي كل تجارب و حقول الحروب التدميرية داخليا و خارجيا ، فالتمردات الداخلية كانت قد إنتهت فعليا ، و الحروب الخارجية مع الجيران كان لا يمكن أن تحدث في ظل علاقات النظام الدولية الراسخة و طبيعة العقليات و الشخصبات التي كانت توجه الأمور و تتحسب لكل الإحتمالات ، فقيادي من أمثال نوري السعيد أو فاضل الجمالي أو غيرهم من الذين ستنجبهم الماكنة الإدارية الملكية المقتدرة لا يمكن أن ينخرطوا في مشاريع تدميرية موجهة من أي طرف ؟ و من يشكك في كلامي فلينظر و يقارن بين حالة العراق في العهود الجمهورية و التي كان آخرها عهد صدام حسين و أسرته و الحالة في الأردن الشقيق الفقير بكل شيء من الموارد البترولية أو المائية و لكنه الغني بحنكة قياداته و بالعرش الهاشمي أيام الحسين الذي قاد الأمور بحنكة و كان يجوب الدنيا من أجل مصلحة بلاده حتى تحول الأردن الفقير لواحة أمان يتمناها أهل العراق؟ وهم الذين يتفاخر بعضهم اليوم بنهاية الحكم الهاشمي و يمجدون مجزرة 14 تموز المخجلة!!... مختصر القول إن إمارة دبي التي تعتبر اليوم مفخرة في إنجازاتها العمرانية و التحديثية كان يمكن للعراق أن يكون شبيها لها بل يتفوق عليها و لكن يبقى كلامنا في مجال العوالم الإفتراضية ، فأحذية العسكريين الأغبياء الثقيلة قد فرضت منطقها في نهاية المطاف..!! ، فرحم الله النظام الملكي العراقي بكل رجالاته و رموزه التاريخية التي أنصفها التاريخ اليوم بعد أن أفرز الزمن العراقي الأغبر و الصعب نماذجه البديلة.... و لا حول و لا قوة إلا بالله..

داود البصري

[email protected]