مشهدان متناقضان نقلتهما شاشات التلفاز بالأمس من لبنان وإسرائيل. المشهدان يتعلقان بإتمام ما سمي بـquot;صفقة تبادل الأسرىquot; بين الحكومة الإسرائيلية وحزب الله. ففي لبنان عمت الفرحة الأرجاء حيث تم الاحتفال بإفراج إسرائيل عن خمسة أسرى أحياء من بينهم quot;عميد الأسرى اللبنانيينquot; سمير قنطار، فضلاً عن نحو مائتي جثة لمقاتلين لقوا حتفهم في معارك سابقة مع إسرائيل. وقد كانت عودة الأسرى مناسبة لتوحيد مشاعر لبنانيين من مختلف الطوائف والانتماءات في مشهد لم نره منذ احتلت قوات حزب الله قلب العاصمة بيروت قبل نحو شهرين. أما في إسرائيل فقد كانت الصورة مختلفة تماماً فقد ساد الحزن والأسف الشارع الإسرائيلي حيث تم تشييع جثتي الجنديين اللذين اختطفهما حزب الله قبل عامين. وقد ظهر الانقسام واضحاً في الشارع الإسرائيلي حيال صفقة الأسرى حيث تجرعها الكثيرون من الإسرائيليين علقماً واعتبروها حلقة جديدة في مسلسل الإخفاقات الإسرائيلية أمام حزب الله. وللحق فلم تكن الصفقة تبادلاً للأسرى كما سميت، وإنما كانت إفراجاً إسرائيلياً عن الأسرى اللبنانيين الخمسة فضلاً عن تبادل لجثث بعض من قضوا في معارك سابقة.

تعد الصفقة نجاحاً كبيراً لحزب الله، حيث كسب الحزب، هذه المرة، صراعه مع الدولة العبرية بالضربة القاضية. وقد أظهر رجال الحزب قدرات كبيرة في استغلال نقاط الضعف الواضحة التي اتسم بها أداء السياسيين الإسرائيليين خلال مفاوضات التبادل التي رعاها دبلوماسي ألماني بعثته الأمم المتحدة. وإذا كنا قد اعتبرنا أن حزب الله قد خسر معركته العسكرية مع إسرائيل في حرب تموز من العام 2006، فإن لرجال حزب الله أن يهللوا في تموز 2008 لنصرهم الدبلوماسي الساحق على إسرائيل. فقد نجح مفاوضو الحزب في فرض شروطهم المذلة على تل أبيب التي قبلت الإملاءات الإلهية صاغرة ومستسلمة!

تركزت أهم نقاط ضعف الإسرائيليين في مفاوضات الصفقة في رغبة الإسرائيليين في إتباع تقاليدهم العسكرية الصارمة التي تحتم عليهم إستعادة جنودهم المفقودين بأية ثمن. ويضاف إلى ذلك رغبة رئيس الوزراء إيهود أولمرت في إبرام صفقة تبعد الانظار عن سلسلة الاتهامات بالفساد التي يواجهها وتعرقل ولو مؤقتاً محاولات إزاحته عن رئاسة الحكومة.

كان قبول إسرائيل بصفقة تفرج بمقتضاها عن خمسة من أسرى حزب الله الأحياء مقابل استردادها جثتي اثنين من جنودها هزيمة سياسية كبيرة لإسرائيل. جاءت الهزيمة السياسية بعد عامين من فشل الآلية العسكرية الإسرائيلية في إنقاذ الجنديين في حرب تموز 2006. كما كان إفراج إسرائيل عن سمير قنطار على وجه الخصوص هزيمة معنوية سيبقى دويها يرن في أذان الإسرائيليين طويلاً. فقنطار الذي تعتبره أسرائيل أحد أسوأ الإرهابيين الذين صادفتهم منذ تأسيسها سبق لمحاكم إسرائيلية أن أصدرت بحقه خمسة أحكام بالسجن المؤبد إضافة إلى حكم سادس بالسجن لمدة 47 سنة. لم تكن إسرائيل لتفرج عن قنطار لو لم تكن قد فقدت كل أوراق الضغط على حزب الله، فقد سبق لتل أبيب أن رفضت مراراً وتكراراً الإفراج عنه في صفقات تبادلية سابقة. ويعود سبب الألام التي يخلفها الإفراج عن قنطار لإسرائيل إلى اتهامه بارتكاب جريمة قتل بشعة خلال عملية نهاريا في نيسان 1979، وهي الجريمة التي اعتبرت على نطاق واسع من أبشع جرائم القتل التي تعرض لها مدنيون إسرائيليون في السنوات الستين الماضية. فقد اتهم قنطار عندئذ بقتل رهينته داني هران أمام عيني طفلته التي كانت تبلغ أربع سنوات وذلك قبل أن يقوم بقتل الطفلة نفسها مهشماً جمجمتها فوق صخرة بمقبض بندقيتة.

على الجانب اللبناني فقد مثلت صفقة إعادة الأسرى الأحياء وجثث الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين نجاحاً منقطع النظير لحزب الله. غير أن الصفقة كانت فشلاً كبيراً للدولة اللبنانية التي غابت تماماً عن مفاوضات مهمة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي اللبناني. كان الاستئثار الإلهي الكامل بمفاوضات صفقة التبادل، والاستبعاد، الكامل أيضاً، للحكومة من حتى الاشتراك في المفاوضات تهميشاً وإهانة لهيبة الدولة اللبنانية. ويجدر هنا الإشارة إلى إقرار قادة حزب الله بأن استبعاد الحكومة من المفاوضات جاء نظراً لحساسيتها وللحفاظ على سريتها وعلى سرية مكان جثتي الأسيرين الإسرائيليين، وهو الأمر الذي كشف عن انعدام ثقة قادة الحزب بالدولة ورموزها. وقد عكس استقبال الرؤساء الثلاثة سليمان وبري والسنيورة للأسرى في مطار بيروت اعترافاً ضمنياً بقوة حزب الله واستقلاله عن الدولة اللبنانية، وكذا فقد عكس تأكيداً رسمياً على أن الدولة اللبنانية قد سلمت مقاليد الشأن الإسرائيلي بالكامل إلى رجال الحزب الإلهي.

لا يغفى على أحد أن حزب الله لم يكن ليتحمل مسئولية صفقة تبادل الأسرى بمعزل عن الجهات الشرعية المسئولة لو لم يكن بحق قوة موزاية للحكومة اللبنانية. ولقد عبر حزب الله عن إمكاناته الدبلوماسية بنفس الطريقة الذي عبر بها عن إمكاناته العسكرية من قبل. فالحزب الذي دخل منفرداً في حرب مع إسرائيل دخل منفرداً أيضاً في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. ولا شك في أن الحزب يسعى بحروبه ومفاوضاته لتكريس وضعه كقوة عسكرية وسياسية متفردة على الساحة اللبنانية. ومن المؤكد أن نجاح صفقة الإفراج الأسرى ستزيد من شعبية حزب الله ومن وضعه كقوة ترتعد أمامها فرائص القوى اللبنانية الأخرى بما ينذر باندثار حتمي لقوة ووحدة وسيادة الدولة اللبنانية. ولذا فإن ثمن الإفراج عن سمير قنطار ورفاقه باعتقادي لم يكن بسيطاً، فالثمن قد يكون الدولة اللبنانية إذا لم يتم احتواء حزب الله تماماً وسريعاً.

من سخرية الأقدار أن إسرائيل، العدو اللدود، لحزب الله كانت مرة أخرى المساعد الأساسي في صعود نجم حزب الله عبر هزيمتها السياسية المنكرة أمامه. ولكن هل تقبل إسرائيل بهزيمتها من دون انتقام. متابعة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تكشف عن أن الدولة العبرية تنتقم من كل من ينال منها. وبما أن حزب الله قد نال من كرامة إسرائيل في صفقة التبادل فإن إسرائيل ربما تنتقم من حزب الله وربما من لبنان بالكامل حتى تسترد هيبتها. وقد ارتفعت أصوات في إسرائيل في اليومين الماضيين تندد بالصفقة المذلة التي وضعت حزب الله في موقف الطرف المنتصر. وحذرت أصوات من تكرار الصفقة المهينة لإسرائيل مع حركة حماس التي تحتجز الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. كما طالبت أصوات إسرائيلية أخرى بالرد على حزب الله باغتيال سمير قنطار الذي أكد بعد الإفراج عنه على استمراره في مناهضته لإسرائيل. وربما تشكل كل هذه الأصوات الغاضبة ضغطاً على تل أبيب لاسترداد مافقدته إسرائيل في صفقة التبادل. من المؤسف أن أحلام المتفائلين بأن صفقة الأسرى ستعيد الهدوء إلى لبنان قد تتبخر سريعاً لأن ثمن الصفقة التي أهانت الدولة اللبنانية وأغضبت إسرائيل ربما يكون باهظاً.

جوزيف بشارة
[email protected]