مقهى يبحث عن حل quot;للوقفquot; الذي حطم تاريخه ومستقبله
عبد الجبار العتابي من بغداد: حين مررت به يوم الجمعة الماضي سمعته يناديني، وحين نظرت إليه... مد إلي يديه المتعبتين، كان نداؤه شجيًا، وكانت يداه عاريتين فظهرت عليهما ندوب الجرب (عافاكم الله) واضحة بشكل مقزز، وحين اقتربت منه رثيت لحاله، حاولت أن أسدَّ أنفي أو أغمض عينيَّ، لكنني لم افعل ذلك احترامًا لكبريائه، توقفت في الباب، كان المنظر غير قابل للسرد او الوصف، وقبل ان اتكلم، سمعته يقول: هل تحكي من اجلي مع من يهمه امري، هل من طبيب يداويني؟ تيبست اطرافي وجفت عروقي وهذا وجهي كما تراه قبيحًا، وعيوني اصابها الرمد وعظامي دب فيها الوهن، وصرت اسعل كأنني مصابة بالتدرن،انا الان اعيش في ارذل العمر، قل لهم ان يهدموني ويمحون وجودي بدل هذه (البهدلة) التي اعيشها، مددت خطواتي داخله، وسرعان ما توقفت.. وانا لا ادري إلامَ أنظر واي صور معتقة بالخراب اتأمل، لكنه دعاني إلى أن اجلسوألتقط صورًا له عسى ان تكون كافية لاعادة الحيوية إليه أو فنائه!!.
هذه هي حال مقهى حسن عجمي، المقهى الشهير في بغداد، مقهى الادباء والمثقفين، المقهى التراثي ذات التاريخ والنكهة والمزاج الرائق،الذي يقع على الضفة اليسرى من شمالي شارع الرشيد، بمنطقة الحيدر خانة، في منتصف الطريق بين ساحة الميدان وساحة الرصافي وعلى بعد خطوات من شارع المتنبي. وكان علي ان اعيد تصوراتي السابقة عنه وانا ارتمي على (قنفة) متهرئة تغطيها حصيرة ممزقة، وامامي ينحني ذلك (الميز) الذي تغيرت ملامحه من بقايا الشاي وضربات قطع الدومينو، كانت العتمة تغطي اجزاء كبيرة منه ما عدا المساحات التي تقع تحت (المنور) الذي اصبح زجاجه قطعة من وسخ، وانا كنت اتطلع اليه.. ارى هذه الذكرياتوقد جلستْ متهالكة وسط سكون مريع، فلا فوقها سليم ولا تحتها صحيح، وكل ما يتراءى عتمة ورماد، لا اعرف كيف اصف المكان فهو مما لا يوصف، على وشك الانهيار... انك تتوقع ان البناء سيقع بين لحظة واخرى، كنت اسمعه يقول: منذ سنوات وعيوني تترصد الرائح والغادي، بحثًا عن منقذ ولكن كل يوم ازداد الأسى وانا بهيأتي البالية وشيخوختي المتعبة ورائحتي المترعة بالرطوبة والعفونة، انادي عبر الايام ولا اجد سوى الصدى منكسرًا يتردد في ارجائي الهامدة.
ربما يتساءل بعضهم عن سر الاهتمام بهذا المقهى، والجواب عند الادباء الذين يقولون انه جزء من التراث البغدادي، وقيمته من قيمته، بل انه مدينة الذكريات الجميلة المترفة بحكايات الشعر والمناظرات واسرار وبصمات ابداعات الادباء على اختلاف ازمنتهم ومماحكاتهم التي لا تقاس بمتعة.
اغمضت عينيّ للحظات فشممت من ثناياه عبق رائحة تاريخه المعتقة بأنفاس الادباء ومطارحات الشعراء وحكايات لها بداية وليس لها نهاية، تذكرت الوجوه العديدة التي كانت تتوزع مقاعدها بحيث لا يوجد شاغر فيها، وارى لمعان الحياة في كل شيء فيها، حتى عامله الاثير (ابو داود) كانت هالته تشبه هالات اهل الادب والثقافة، بجراويته البغدادية وشاربيه المعقوفين وصمته، وكل (استكان) شاي يقدمه كان يقدم معه جملة شعرية او لفظة او يسرق انتباه الادباء حين تنزل من بين كفيه (الاستكانات) في لحظات عجيبة من الاستكانة والهدوء، لكنأبا داود رحل مطلع عام 2003،إلا أنّصورته لم ترحل.
على الطريق اليه.. يعد هنالك من الحياة سوى انفاس ضئيلة يبثها العابرون وبعض محال الريافة وبائع كتب على طرف ليس بالبعيد، وثمة مطعم شعبي، اتحدث هنا عن يوم الجمعة الذي كان يمثل للمقهى عرضًا اسبوعيًا مثيرًا بطقوسه، المشهد لا يدعو الى السرور، حيث اقفرت الارصفة وغطى الغبار سطح الشارع، الطريق اليها صار ساذجًا، لا تمتلك تلك المتعة الشاهقة بحيوية المكان، لا تسمع فيها سوى صدى خطى خافت ليس لها طعم، لانها احادية الرنين وذات هواجس مشتتة، وعلى رصيف المقهى لم تكن هنالك الا مجموعة من الجالسين على (القنفات) العتيقة، وقسم منهم نزل بالكراسي والمنضدة الى نهر الشارع، يلعب الدومينو، وهؤلاء من كبار السن او الذين يرتبطون بالمقهى، كما هي الحال داخله. كان الظلام يخيم على مساحات واسعة منه
، مثلما الخراب الذي طاله، هنالك مجموعة من الاشخاص يتناثرون في الارجاء الصحيحة والسليمة منه، بعضهم يبدو عليه التعب الجسدي والنفسي، وربما وجد في حالة المقهى السيئة ملاذًا هانئًا، رأيت شابًا يؤدي دوره في اعداد الشاي وتقديمه لزبائن المقهى على قلتهم، كنت ابحث عن (ابو داود) فيه لكنني لم اجده، كانت الاشياء متراكمة على بعضها بشكل يثير الدهشة والارتياب ان المقهى ما عاد يؤدي دوره كما كان، فغياب الادباء واضح، وكما قال لي احدهم: لم يعد المقهى صالحًا للجلوس والادباء تحولوا الى مقهى الشابندر.
في وقفتي المتأملة لانحاء المقهى استرجعت صورته قبل سنوات بعيدة قائلا: (مقهى حسن عجمي.. هو متنفس الادباء وغايتهم، او هو بيتهم الذي طالما لمَهم وحوى اسرارهم وحفظها بأمانة، فلا اختلاف.. الا وكانت تبدده، ولا عداوة الا وكانت تتلاشى عند عتبتها، والجميع في احضانه احباء، اصدقاء وادباء، عند مستوى المسؤولية).
نظرة في ارجاء المقهى، نجد الكثير من اشيائها الاولى ما زالت في امكنتها وكأنها تجمدت، بيد ان يد الايام امتدت إليه وغيرته، عصرت رونقه وجففت نضارته وتركته يباسًا في يباس، ترى اصابع الزمن المتورمة مرسومة على جسده كله، ما زال المذياع (الجوزي) الكبير القديم كما هو وفي المكان نفسه، لم ترفعه يد من مكانه مذ كان لا قبله قبل ولا بعده بعد، وحتى حين زاحمه التلفزيون في مكانه لم يشغل التلفزيون رواد المقهى ولم يلتفت اليه احد، والذي اصبح فيما بعد مجرد ديكور!!، وايضا ما زالت مراياه
الكبيرة منحنية من الجدران على الرغم من شيخوختها وبصمات الزمن فوق وجهها المكتئب وضعف بصرها، فالمرايا ما عادت فاعلة ولا قيمة لوجودها، وما زالت رؤوس (الغزلان) تزينها وتمنح الناظرين ابتسامات بغدادية قديمة لكن الغبار اثقلها، ومازالت جرذانها محمية بالخشب الذي تهرأت اوصاله، وبانت على الحيطان اثار الرطوبة وفقاعات الجص منها التي صارت تنثره على الارض، وغابت (السماورات) التي كانت ترتفع فوق مواقد النار الغازية، بعد ان فقدت كبرياؤها في زحمة الخراب او ربما احتجت هازئة بالاستغناء عنها، مثلما غاب ابو داود.. ولكنه ما زال يدور في الارجاء ماثلا امام العيون وقد عتقته الايام وجعلته جزءًا لا يتجزأ منها وقد بصم الزمن عليه تداعياته وجعلته ينوء حتى صار لا يقوى على حمل (استكان) الشاي، فيما ظلت (قرقرة) النارجيلات مثل موسيقى عتاب والجمر الملتهب في رؤوسها ينفث دخان الحنين.
سألت مثلما في كل مرة: لماذا لا تتم اعادة بناء واعمار المقهى بما يتلاءم مع اهميته وتاريخه كونه يمثل صورة بغدادية مهمة، فجاءني الجواب ذاته: ان المقهى يقع ضمن املاك (الوقف) ولا يمكن التصرف بها!!، وكنت احاول ان اجد اجابة ابدؤها بتساؤل: الى متى يظل الوقف حجر عثرة في طريق اعادة بناء المقهى، الا يمكن ان تنظر امانة بغداد الى الوضع السيئ وتجد حلاً لتحريره من (الوقف)، الا يستفز المنظر احدًا ام انه بنظر بعضهم هولوحة سريالية مات رسامها؟!!.