quot;اليوم، في العراق نعيش بداية ما، لا أعتقد أنها البداية المثالية لكنها بداية أولى، ربما تتراكم، وربما ستوضع في مدارات التأجيل وربما أيضاً سيكتنفها ndash; وكما نرى الآن في الواقع ndash; قدر كبير من الغموض، قدر غير قليل من الفوضى، حالة تشبه العدم التي تتفاعل فيها الأشياء باتجاهات عبثية...quot;(*)

حسين السكاف: في ذكرى رحيل المفكّر الشجاع، الرجل العارف بحقيقة الواقع المتلاطم بأحداثه، بغموضه وفوضاه وعبثيته، الواقع الذي اقتحمه بروح الفارس النبيل، الأمير المحارب الذي يهدف الخلاص رغم المرارة؟... لهذه الذكرى، يقدم الفنان التشكيلي العراقي عباس الكاظم عمله الفني الذي حمل عنوان quot;قدّاس إلى صديقي كامل شياعquot;... العمل يحاكي ظاهرة عرفها الإنسان منذ القدم، ولكنها ما زالت تحدث وباستمرار، إنها ظاهرة quot;اغتيال المبدعquot;، المبدع الأعزل إلا من فكره وثقافته وإنسانيته، وتلك أسلحة طالما أرعبت القتلة، واستفزت عقولهم الخاوية التي لا تعرف سوى منظر الدم ورائحته. فكيف لهذه العقول أن تعي أنها باغتيالها لهذا العقل المبدع قد أضافت له ميزة أخرى، هي الخلود؟... المصباح المنفلت عن حامله والذي يتوسط التكوين، ما زال مضيء محتفظاً بوظيفته... الشهيد الذي أراد له القتلة السكوت ما زال يحرك الضمائر ويحثها على العمل والتفكير من أجل ثقافة عراقية تليق بالعراق وتاريخه، ما زالت أفكاره وأبحاثه ماثلة أمام بصيرة القارئ وستبقى... هنا يختار الفنان مصباحاً من نوع خاص لا يمكن له الإفلات عن حامله إلا بفعل فاعل، إلا بيد القتلة... هل كان كامل يعرف قاتليه؟ quot;عندما دخلت الوطن شعرت فعلاً أنني قد طويت 25 عاماً من حياتي وبدأت رحلة جديدة، رحلة تضم الكثير من الدهشة والعذاب، الخوف والخطورة، إنها رحلة الخيارات الصعبة... اختيار المكان الآمن أم التاريخ القاسي وأحياناً القاتل... ويبدو لي أن هذا الخيار هو الخيار بين الحياة والموت... أنت تذهب إلى الحياة كمغامر ولكنك تواجه الموت يومياً وتدرك أن معنى حياتك يكمن تماماً في هذه النقطة الحرجة، النقطة التي تلتقي فيها حدود الموت مع حدود الحياة...quot;(*) هكذا نتيقن من أنه كان يعرف تماماً، أنه مشروع شهيد مؤجل، حين قرر ترك المكان الآمن ليخوض تجربة العمل بين حدي الحياة والموت، من أجل الحياة...
المصباح، يرقد فوق كرسي راسخ متين، كرسي يذكرنا بعمق التاريخ، بتلك الأشكال والنقوش التي ورثناها عن أجدادنا أبناء أرض الرافدين، متانة الكرسي ورسوخه ولونه الداكن يمنح برودة المكان وحشة مضافة، ولو تأملنا تكوينه قليلاً لوجدناه أقرب إلى تكوين القبر، تنتصب شاهدته بمحاذاة الجدار الموحش، إلا أن وحشة المكان تتبدد بفعل تأثير الضوء الأزرق المنبعث من الصورة في عمق التكوين، الصورة التي يظهر فيها الشهيد كامل شياع لحظة الاغتيال كما تخيلها الفنان الكاظم: quot;لحظة الاغتيال، والجلبة التي أحدثها القتلة بحركاتهم الهستيرية، دعت الشهيد إلى التركيز والإمعان، وبحركة كان كامل معتاد عليها، عمد على تقريب عدسات نظارته كي يرى بوضوح المشهد الأخير من حياته، والحقيقة إنها تشبه حالة تمسك الجندي بسلاحه، فهذا المفكّر الباحث والناقد العراقي المهم، لا يمتلك سوى نظارته سلاحاً، لذا تراه في حالة quot;استعداد للمواجهةquot;...quot;
quot;كل من لا يتمكن من خلع جلده، ولو بشكل مؤقت، من أجل أن يرى الآخر، من أجل أن يقترب من الآخر الذي هو غريم له في الفكر ومناقض له في التفكير، كل من لا يقدر أن يخرج من نفسه ليقابل الآخر في منتصف الطريق، لا أعتقد أنه سيتمكن في يوم من الأيام أن يتكلم عن الهوية... الهوية هي القدرة على الخروج من الذات... هي القدرة على الاقتراب من الآخر...quot;(*)... هذه العبارة التي تشير بوضوح إلى طريقة تفكير كامل شياع وإيمانه بضرورة التعامل مع الآخر، والتي كنا وما نزال نقرأها بين سطوره المنشورة، هل كانت السبب في اغتياله؟ هل الروح المثقفة المبدعة التي تؤمن بقدسية الحوار وتقبل الآخر منطلقاً لعملها وإيمانها رغم الاختلاف، يمكن أن تثير شهيّة القتلة وتغريهم صوب إزهاقها؟ هل العبارة خطرة إلى هذا الحد؟... لقد كان القتلة أول الخاسرين في غياب هذا العقل الإنساني المضيء، لقد خابت ظنونهم حين تأكدوا من أنهم لم يتمكنوا من إسكات صوت الحقيقة التي كان يحملها ويجاهر بها مؤمناً، ولم يتمكنوا من إطفاء نور أفكاره، التي أصبحت أكثر سطوعاً وتأثيراً بعد غيابه، هذه الأفكار التي صارت أكثر تداولاً بين الناس وعلى أجهزة الإعلام.
صورة العمل هذه ما هي إلا مشهد من عمل احتفالي يقدمه الفنان بطريقة quot;البيرفورمينزquot; performanceوقد تم عرض جزء منه وبتنفيذ ثلاثي الأبعاد D Animation) (3 على موقع اليوتوب ( youtube.com ) بعنوان ( Requiem For My Friend Kamel ) بمناسبة مرور عام على جريمة اغتيال الشهيد كامل شياع.

هامش:
(*) الحديث الذي ورد على لسان الشهيد كامل شياع مأخوذ من نص اللقاء الكامل الذي أجراه الفنان عباس الكاظم مع الكاتب والباحث كامل شياع في بروكسل، والذي استخدم كمادة أساس في بناء العمل الفني الخاص بالمناسبة.
[email protected]