وضع علاء بشير حين عرض اكثر من مرة تخطيطاته ولوحاته ومنحوتاته امام مشاهدي اعماله ونقاده مرجعا بدا ضروريا لهم، كما سنلاحظ ذلك في الوصف الذي سنقوم به منذ ان اخذ الاهتمام يتزايد بما يعرضه بعد انتقاله من اثار جماعة الانطباعيين العراقيين الى نوع من الرسم ينطلق من وجهات النظر التي يؤيدها خيال متحرر (ومؤجل ايضا في اساليب التحكم التي هي ليست قليلة في فنه بسبب مراجعته للمسكوكات الرمزية في الادب التاريخي العام والخاص؛ مثل: التفاحة والغراب والحية..).
اعتاد هذا الفنان ان يوجه دليلا الى عمله بتوسيط عناوين عامة ومقدمات فلسفية موجزة، وقد تركت العناوين بالذات انطباعات مرجعية في ذاكرة الجمهور والمعنيين مثل: quot;افكار من تراب -1992quot; و quot;حوار اليقظة 1994quot; و quot;محنة الانسان -1995 quot; و quot; ظلال الحقيقة -1997 quot; ثم quot; حبر على ورق quot; وهذا العنوان دليل مطابق الى حشد من التخطيطات الكثيرة جدا (اكثر من مائتي معروض) وهيكل من حديد البناء (الشيش)، كما ان quot; حبر على ورق quot; علامة ndash; من حيث كونها عبارة لغوية ndash; على مفارقة وكناية بمعنى من المعاني، فهي تلميح الى المجانية التي ربما شعر بها الفنان وهو يقارن بين نفوذ ما هو غير فني وغير تلقائي وبين التهميش وعدم الاكتراث بالفن وعفوية الحياة، وفي كل حال من الاحوال، فان علاء بشير وفر فرصة للاطلاع على خلفيات رسمه ونحته بتقديمه دراسات اولية quot; كروكيات quot; لعدد من لوحات المعارض السابقة ولمحاولات النحت، كما انه اعطى المشاهدين نماذج من ارتجالاته، التي سنرى قيمتها في تمثيل اسلوبه، اضافة الى التعليقات التخطيطية على بعض لوحاته، أي: البقايا التاثيرية للاعمال المنجزة.
لقد غطت التخطيطات عشرين عاما من العمل المتراكم مع شخصيات رمزية، فردية وجماعية، تتنوع بين التشرذم والانكماش والياس العارض والامل الاصلي بطبيعة الجسد الانساني وتلطيف مرونته، والارادة النفسية التي تعمل على تحريك دلالات الحواس والاعضاء في المصائر والحظوظ العاثرة المشوشة، وقد تاخذ شخصياته طابع الحكمة quot; المتفق quot; عليها من مسكوكات في نقص التجربة وانتقالها بين المازق والنجاة، كما لو ان احدهما مرآة للاخرى؛ وهذا هو حقل العلامات المهيمن على رسمه منذ زهاء ربع قرن (الحية، الغراب، التفاحة).
من الواضح ان وجهة النظر في الوجود الانساني العام هي الموجه الاصلي لاعمال علاء بشير وقد تتجاوز وجهةُ النظر الانشغالَ التشكيلي عنده وتجعله ثانويا بالقياس الى موجهات الراي، وهذا هو السبب المباشر وراء جماهيرية ما يعرضه، فالمشاهدون الموسوعيون يستطيعون الالتقاء بما يمثل وجهات نظرهم ايضا او في القليل بما يقبل التداول في اثناء معارضه، من غير ان تصرفهم التفاصيل التصويرية عن ذلك، وهكذا فان وجهة نظر الفنان، بقدر ما هي مشتركة او خصوصية، مارست تاثيرا على بناء اعماله وطبعتها بشئ غير قليل من التنفيذ التقريبي بين التعبيرية والسوريالية والبدائية، مع تفضيل العمل على واجهة اللوحة والاجزاء المباشرة من المنحوتات؛ حيث لا تتجادل المشكلات الاسلوبية ولا تتمظهر، وعلى هذا النحو تتكشف الاصول الانطباعية لرسام كان دائما، على غرار القاعدة الكلاسيكية، يفكر بالنحت تصويريا خلال الرسم، كما ان الاسكتش (sketch) والكروكي (croquis) يتنافذان هنا وهناك، بدرجة وباخرى؛ في لوحاته، وفي هذه الحالة يمكن ان نفهم، وبالتبادل، العلاقة بين اسلوب الفنان التقريبي والتقبل الموسوعي الذي تحظى به منجزاته، حتى ان بعض النقاد والمعلقين جربوا طريقتهم في سوريالية التلقي، متجنبين التوقف فقط عند تلك اللمحة السوريالية في عمل الرسام، وواصلوا اسقاط رؤيتهم الجزئية على كامل المجاميع المعروضة، فاعتبروه سورياليا بالتمام، وكان اكثر ما يحرك النقاد والمعلقين هو وجهة النظر التي تنتشر في ما يعرضه على الدوام وليس ما يقرره الاسلوب الذي قد يجدونه ضئيلا حين يبالغون في الخواطر التي تتمادى عادة في هذا النوع من المشاهدة الاسقاطية للاعمال التي تشجع وجهات نظر المشاهدين لانها نفسها (الاعمال) محكومة بترويج وجهة نظر تجعلها البؤر السردية والرموز المعلنة جاهزة للمداولة.
يوجد الانسان، ذكرا وانثى في تخطيطات الحبر على الورق، وجودا ساحقا، سواء اتم ذلك في تخطيطه بالكامل ام باجزائه المجازية التي تعطي فكرة عامة عن وضعه النفسي او البيولوجي، وفي الاوراق الصغيرة توضع في الغالب شخصيات كثيرة او اشتقاقات متعددة لشخص واحد، وتكون هذه الاوراق محاكة بخطوط ناعمة، كثيرة، نشيطة، وقد يتحول اللون الاسود، الذي يسيطر على التخطيطات، الى اخضر او ازرق، كما ان الحبر المخفف قد يمر ببقع تلوينية متجانسة مع التخطيط، اما الاوراق الكبيرة، والتي كثيرا ما تكون تخطيطاتها مستقلة ومرتجلة، فان الموضوع المركزي ndash; عدا تخطيطات المرأة ndash; يطرد التفصيلات، ويكفي ان تكون هناك لحظة انفعالية او وجهة نظر ثابتة يقوم جزء من الشخصية بالدلالة عليها، في خطوط عريضة سوداء قليلة مع انها تسيطر على مساحة كبيرة، لكن الفراغ يلعب فيها دورا تصويريا، كما في لوحة الرسم. ان تلك الاجزاء كافية حقا لتدل على بقية المجموعة العضوية للانسان، مع القرائن البلاغية لمجاز تصويري quot;مُرسَل quot; في اعلان الجزء وارادة الكل، فهناك افواه مصطنعة من حديد اوخرسانة اسمنتية، ورقاب فاغرة كالانابيب، وعيون لم تعد مخصصة للرؤية، وآذان تثور بها الهلوسات العصبية. ان هذا، مع قليل اوكثير من التصرفات التي تند على حذافير المقاطع الجسدية، يصح ان يكون دليلا كافيا لتآمل يتعايش مع الجسد الذي تعترضه التحولات والتعديلات ومضاعفة الوسائل الحسية او طمسها، وقد يكون المفيد هنا الاشارة الى انتقال الجراحة، و علاء بشير جرّاح، من حيث كونها تآملا عيانيا في الموت، كما يقال، الى مفهوم عام عن حياة يكمن تآزمها الجوهري في الدفاع عما هو ميئوس منه. ان الامراض تتجلى اخيرا في المرضى وان بعض الاصول النفسية والخيالية والوهمية تنعكس على ابطال هذه التخطيطات (واللوحات كما سياتي) في نوع من السيكودراما العلاجية او المحكاة من طريق سرد كاريكاتيري ينقصه التشهير بالشخصية، ولكنه يتجه الى تجريح الظرف العام فنحن لانتذكر ظرفا خاصا ولانراه بين الخطوط.
ان تاويلات المعنى لا تقف عند هذا الحد، بل قد يكون التفسير كافيا ولا يبرر تداعيات المشاهدة، فالرموز (مثل: الحيّة والتفاحة والغراب)مكفولة بالضوابط التوجيهية للتفسير الاسطوري او التاريخي للبدايات او الصيرورات الملتبسة، والمقترحة، في العادة، لتعيين دليل ضائع في تاريخ انسانية الانسان ووجوده الناقص.
ومع ان التخطيطات بمجموعها لها علاقة مباشرة بتصويره وبنحته، ما يسبقهما وما يليهما، الا ان المرتجلات المستقلة على اوراق كبيرة والتي فيها من مفردات الشغل ما هو اقل ازدحاما، تعيد تمثيل اسلوبه التصويري تخطيطيا وبقدر ما يتحمله التخطيط، فالتكوينات كبيرة وجوفاء (الوسيط فيها هو الخط والفراغ) وهي تحتل الواجهة العلوية او السفلى، والفراغات رحيبة ايضا، والخطوط ذات درجة لونية واحدة، لكنها تعوض الاطياف بالتكّسر هنا وهناك او بالضيق والغلظ، وبدل الاطنابات تتمتع التخطيطات بموحيات الحذف وبلاغياته، وهذه هي بعض خصائص فنه، وقد يكون هيكل الحديد العاري، وهو شخص ممطوط الاعضاء في حركة بسيطة، مختلفا عن نحته التجريدي، ونزوع النحت الخزفي، لكن دلالته على وجهة النظر قاطعة، فالحركة البسيطة هي استجابة اكثر من كونها تحديا يقبل بها الهيكل الهرقلي الذي يبدو وفي حديده هشا على شفا جرف هار؛ متورطا في التدحرج على قاعدة مستوية اشبه بمطبات الكوابيس.
ليست التخطيطات التي نوهنا بها في الملاحظات السابقة مستقلة بكاملها عن تصوير علاء بشير، ان تصويره متعلق كثيرا بنزعته التخطيطية، سواء من ناحية البناء او من طرف الموجهات المعنوية.
علينا ان نلتفت بشكل خاطف الى الوراء:
لقد كان ضروريا ان يتحكم هذا الفنان بتطور موهبته تحكما يسير بها نحو الصياغة التي عُرف بها، وهي مزيج من ميل متحرر الى بناء لوحة ذات اسلوب، وارادة عصامية اوقفها عند حدها حتى لا تبقى هواية فحسب لا يستطيع تقصيرُها تجاوزَ اولويات التنفيذ، و قد نجح منذ وقت مبكر في حسم ما يمكن ان يصير عائقا واضطرابا بين الاخذ والرد في موضوع اصلي كهذا، وكان عليه ان يتاكد من ميله الحر ضمن الجماعة العراقية الانطباعية التي كان حافظ الدروبي ملهما لها، والتي عانت في النهاية من المبادرة والتجريب المحدودين، وان يتطوع للدراسة الاكاديمية الفنية المقتضبة التي منحته ظرفا اضافيا تصاعدت معه موهبته الى الصقل، وهكذا انصرف شيئا بعد شيء نحو تمثيل موضوعات وجودية وثقافية تصويرياً، وقدم علامات مجازية ورمزية على مراجعه الصامتة، التي ينبغي للاتصال بها، تقدير عدد جم ّ من مفردات الافكار والاداب مع تفلسف تاملي حرّ، وقد ترك ذللك صداه على السطح التصويري بشكل نواة لها محيط واسع، وهو في الغالب محيط لوني متجانس، تمهيدي او ختامي يشير الى القصص والافكار التي لم يجر تدوينها في اللوحة ولكنها تركت اثارها وغابت هي في الفراغ الذي يموج بين اونة واخرى متعرضا لاطياف تلوينية ndash; بلا

عبدالرحمن طهمازي بريشة علاء بشير

تحزيزات ndash; سرعان ما تنحسر تاركة المشاهد عند تقدير وتاويل المرجع الصامت.
توجد في اعمال علاء بشير التصويرية ndash;بشكل عام ndash; ثلاث خصائص رئيسة حتى الان، وهي خصائص مختلفة النوعية ومتفاوتة الدرجة، مع انها تشترك في كونها ممثلة تصويريا وان كل واحدة منها تشتمل على خطوتين تنفيذيتين، اولى هذه الخصائص هي: تحويل المرجع - ويمكن تسميته مرجعا ثقافيا واصطلاحيا ndash; الى تصوير، ويدل على المرجع العنوانات العامة والرموز الجزئية. ثانية الخصائص تتعلق ببناء اللوحة وتثبيت الفراغ بلون متجانس لا يقبل انتشار علامات التكوين (ال figure) او طابعه التلويني. آخرة الخصائص هي المكتسب الخاص بين تحويل المرجع وتثبيت قيمة الفراغ، وهذا ازدواج بين اسلوبين متداخلين لا بد من تغليب احدهما على الاخر، وقد قام النقاد باستثمار ذلك لغويا، والاسلوبان هما: تحرير المخيلة سورياليا، وتعيين موضوعها فطريا ndash; مما يزود اللوحة بالانطباع التعبيري ndash; ويمكن ان نتصور هذه الآلية في العمل مع نتيجتها على انها هي ما يقررالاسلوب بالنسبة لرسم هذا الفنان، وان اشتباك الخصائص في علاقات متناوبة بين الاسلوب العام والموضوع والمضمون يجعل سوريالية الخيال، وهي اكثر المظاهر مباشرة، ذات سلطة على المشاهد في حين لايمكن فصل سورياليته عن فطرية المضمون وتعبيرية السرد، كما ان عدم تحفظه في استعمال بعض المواد بشكل استفزازي، ثم تعبير السطح التصويري عن الفضاء، والامتداد النحتي احيانا، كل هذا شجع المشاهد على ازاحة ما هو غير سوريالي وهذا اختيار، قد يكون مضطربا لسوريالية التلقي على ما عداها من غرائبية وفطرية، فتحقيق اللوحة لدى هذا الفنان هو عبارة عن تمثيل واعادة تمثيل الخصائص المذكورة مع مضاعفاتها، ويجب عدم الغلط في اعتبار التمثيل توازنا في الانشاء، فالتوازن يقرره توزيع اخر، هو تجاوب المساحة المخصصة للتكوين مع المساحة الكلية للوحة، وازاء ايماءة خاطفة تقع على مبعدة من التكوين، وهي عادة تكون نتفة لونية، وسيظهر السطح متفاوتا استجابة للمفارقة التي تعرضها اللوحة، وهكذا يكون التنفيذ فرضا توضيحيا فيما تكون مشكلات البناء المعزولة تثبتا تصويريا، وبعبارة اخرى: التصوير مضبوط والدلالة افتراضية.
وكلما كان ال quot;الفكر quot; figure، واضحا وهادئا، احتاج الى اقل ما يمكن من الالوان، في نوع من اقتصاد لوني، وحين يزيد زخم quot; الفكر quot; وتتململ دلالاته فان ممارسة التلوين تصير اشد نشاطا وتتعدد الاطياف اما الالوان فلا تتنوع قدر زيادتها تعبيرا، وكأنّ التلوين ورمز الفكر يتصارعان ويتواسطان بمقاومة واستسلام متبادلين من اجل انفراج افق اللوحة، لان خصائص البناء المذكورة تعمل على تلاحم اللون والرمز مما يعطي انطباعا عن سطح متاثر بيقظة حالمة، وهذا ما يجعل للتاويل مراجع نفسية او ثقافية او قصصية، فمبادىء الواقع المعطاة في اجزاء اللوحة ستوفر حقلا يستحق التتميم ويساعد ذلك الطابع اللامحلي للموجودات، فعلاء بشير لا يزج السمات المحلية دليلا الى هوية رافدينية، بل يقدم ما يتقبل وحدة موضوعات الدلالة.
هناك مستوى آخر من الاتصال والانفصال، وهو المستوى التشكيليّ، الذي يضاف الى مستوى تضمين الشكل للمعنى العام المحتمل، فمع عدم تحفظه أحيانا على مواد الرسم وكيفيات استعمالها، نظاميا او حشريا، نتلقى في بعض عروضه، الموضوعات الجامحة بتطلعات نحتيّة، وليست هي تطلعات نظرية، فسرعان ما نجدها الى جنبنا منفذة على شكل نحتي مستقل يأخذ مساحته من خلال الاستطالة او التكور او الانشقاق او الامتداد عموديا او افقيا، وهي اضافات تتقيد بالفراغ والمرونة وانحراف الكتلة التي تخفف من ثقلها الظاهري بالحركة وتوزيعها نحو اتجاه ثابت او متوقع، حسب ثقة المشاهد وحيرته من التاويل، وقد يزدوج التصوير بملحق نحتي ماخوذ الى خارج الاطار المتعارف عليه، لتأكيد مفارقة موحية:عن خفة الكتلة ازاء درع التصوير المجنح، وهذا الاجراء، سواء كان مستقلا ام مزدوجا، ليس هو من قبيل اتباع الوصية الاكاديمية التي تقترح للرسام تقليد النحت، لان التمثيلات التصويرية والنحتية في هذه الاعمال متطرفة وغير تقريبية، فهناك، اولا، علاقة وثيقة بين السكتش والمرونة داخل اللوحة المنجزة الى النهاية، وهناك الخطوة المتعلقة بالموضوع الفطري الذي يفتش عن خيال سوريالي يتحرر بوساطته، خيال غير روتيني يوقظ الموضوع، ويزيحه احيانا، فلا مجال هنا لنموذج ثانوي يتدخل بين مرونة التنفيذ والوثبة الخيالية.
ان انتقال الموضوع الى مستوى خيالي يحتفظ فيه بمساحة تصويرية على السطح، هذا الانتقال ليس ذريعة لظهور السمات البديعية في تلوين الرمز، كالجناس والطباق، وكالسرد الذي يتدرج من الرمز الى محيط الشكل التكويني، كما انه ليس كانتقال الخيال السوريالي الى موضوع فطري، اما الخطوة التي تلتزم بماضي اللوحة من خلال تنمية الاسكتش او الكروكي، فمن المناسب الاشارة بصددها الى ان التصميمات الاولية موجودة على انها تجهيزات للعمل الختامي، وهي اشبه بعلامة على وجود بديل للوحة، أي ان التكوينات متجهة الى ما هو خارجها، واننا امام تصوير يجعل من كمية الرموز التخطيطية المسبقة وافكار ما قبل تنفيذ اللوحة مبررا لتحريك الدلالات التشكيلية باتجاه التاويل الذي يسير بالتوازي مع التفسير القاطع، فاللوحة مصممة بالاساس على ان يكون لها رمز صريح في مكان ما من السطح، اما بقية العناية فسينالها، بقصد تقني وتكويني، ما هو ثانوي.
ان رسم المقاطع المجزأة يعوض عن التصميم الكامل الرتيب ويمنع فضول السكتش من التغلغل في تضاعيف الصيغة النهائية، فهو يتوقف عند الرمز، وبقية المحيط متروكة لتلقائبة اللحظة، حتى ولو اعطت عنه انطباعا عابرا.وما قد يكون مفهوما من هذا الوصف هو التطفل العنيد للسكتش، لكن ما يحصل حقا هو ان البروفات التي تقدم تحديدات اولية ستتقلص في التنفيذ ولن تبقى عبئا على اللوحة من حيث كونها مرجعا ضعيفا قدر كونها من بين العلامات الدالة على اصالة من نوع: دورة تاريخ التنفيذ.هي في كل الاحوال احد المراجع الداخلية للتنفيذ.
ان التقطيع المسبق والضمني، ثم تتابع الانشاء هما ما يميزان الشعر، وهما يهيئان لوحة علاء بشير لاكثر من ارتباط بالصياغة الشعرية، لكن الرسام لا ينفعل بتكرار اللازمة الايقاعية على طريقة الشعراء الذين ينضبطون في قالب يبصبص دائما في نسغ النص، انه اشبه بناثر اخذته رعدة الشعر واخلد لحظة اليها مع مقاومته للفوضى الممكنة في هذا الازدواج وتشعباته اللانظامية، وهي مقاومة المواد والخبرة...واشباح المشاهدة.
لقد صار لنا عدد من التحويلات التي يحفل بها عمل هذا الرسام، ولابد انها ـ مع المزدوجات التي ذكرناها ـترجع الى نظرية في البناء وتنطلق نحو تصور للوجود، فالفيضان التكويني الذي ينفلت من محيط التكوين يترك اثرا على ما هو ثانوي ويوفر غطاء من الجدية عليه، فهناك طابع المشاركة، عبر اللون، بين الثانوي وغيره، وهذه المشاركة ليست من طبيعة لون القماشة الخام او اللون الابيض، اذ انه لا يوجد مثل هذه الوسائط ـالتي قد تبدو بديهية عند الرسامين ـ في عمله. وقد يكون هذا ضمن قواعد السرد الكلاسيكية للتصوير والتي ظلت معمولا بها دائما. ومن جهة ثانية، الجهة التي جعلت اعمال هذا الفنان جذابة، خاصة لجمهور المشاهدين الموسوعيين، فان كل الاشياء في لوحاته تعبر عن تصور وجودي للمصائر المشتركة، لهذا الشاهد او ذاك، لتلك الاسطورة او ما يقابلها من تحقيق، وليس هناك دعابات في المصير ولا امل في نسيان مؤقت للمحنة ـكما يطلق عليها في احد معارضه ـ وان المدهش بالنسبة للمشاهد هو على الارجح مزعج بالنسبة للرسام. كل شئ يهم بالتهام السطح التصويري مثل عفريت يقلبه ويتقلب عليه، تكوين يتجاسر على تكوين اخر، ومحاولات لاخراج الحقيقة الدفينة وهي تنتفض بين ما علق بها، وهذا التناوب مع المراجع المقهورة، يعمل تشكيليا على التلويح بان ذلك يحدث للمرة الاخيرة في كل لوحة، وان الشعور قد تحرر من ردهة اللاشعور.
واذا اخترنا لهذا التفاوت في التركيب وعلاقات الاستبدال جهازا اصطلاحيا، فقد يكون التوفيق حليفنا لو اخترناه من حقل البلاغة العربية حيث تعمل الاستعارة بشكل عام على تحفيز اليات انشاء اللوحة، وتعمل مرة اخرى على تجميع اثار المشاهدة وما يتبعها من وصف، كما هو في مجموع الملاحظات المقدمة في اعلاه، ولكن الاستعارة نفسها قد تقع في quot;طاغوت المجازquot;، وهي منه، على حد تعبير بعض مفكري الدين المسلمين المتعمقين في العلوم العربية.
ناتي الان الى المنحوت من اعمال الفنان، فقد درس علاء بشيروعالج في عرضه النحتي المعروف بquot;لوعة الذاكرة quot; موضعا تاسيسيا ذا اثر سحيق، هو التفاحة، مشكلا تركيبا اضافيا مع الانسان، عرضت التفاحة وحدها في بعض الاشغال وقام النحات بتعديل الحامل (=ما يربط الثمرة بالشجرة) الى رمز ذكوري، اما الانسان فليس معروضا لوحده على قاعدة ما، انه بشقيه الجنسيين يرتبط بضرورة التفاحة، لذلك كانت التفاحة موضوعا تاسيسيا، وهي ايضا مضمون الذاكرة الدلائلية، كما انها ليست معروضة بوصفها متعلقة مباشرة بحادثة الاثر السحيق، أي موضوع الشجرة المحرمة، بل هي تفاحة بلاغية تبادلية تظهر غالبا لصالح تاويلات وقرائن، فهي مرة وسيط غير مستقل بين شقي الانسان (الذكر والانثى)، أي الوسيط المؤثر والمتاثر، ومرة كانها هي التي التهمت الانسان، التهام المجاز، ومرة مكتفية بكمالها الطبيعي الطازج، لا يتطفل عليها تركيب ثانوي، الخ... وبهذا وبغيره ndash; كما سياتي ndash; حققت quot; الذاكرة quot; اشكالا من التحرر مما هو مباشر والانتقال الى مستوى النحت ومن غير أية معاناة من التراكيب الاضافية التي كثيرا ما تحشر انفها خلال الانتقال من المراجع الصامتة، وقد عولجت الرتابة ndash;من حيث كونها تهديدا متوقعا لعدد المنحوتات البالغ ثلاثين عملا ndash; ببعض التنويعات سواء في الحجوم او في القرائن ndash; الكرسي على سبيل المثال ndash; او الاوضاع الاستعراضية كاستلقاء الشخصية الواحدة على عدد من التفاحات او تشكيل التفاحة بهيئة طين او شمع مضغوط، هذه التنويعات قليلة العدد لكنها ذات طابع واضح.
ان القضية الاستعارية التي هيمنت على تلك المجموعة هي في ذلك التبادل العنيف بين التفاحة والانسان، فليست هناك براءة تكوينية؛ فالاصل هو كالاتي: الانسان قد اكل التفاحة ومنذ ذلك الحين لعبت التفاحة دورها الغريزي في الانسان، وبهذا النحو تشكلت بنية الذاكرة اللاارادية في ظل موروث تبادلي يتحول فيه الماكول الى آكِل اننا نملك معظم التاويلات لهذا ونفضل تجميع الحكمة من الذاكرة فاذا كان الانسان قد اكل التفاحة اكلا حقيقيا فان التفاحة افتتحت افقا لا محدودا لمعاقبة الانسان، ومنذ ان صارت التفاحة ماكولة انتقلت الى نوع من الديون المجازية التي لا يستطيع الانسان الوفاء بها على جهة الحقيقة. هكذا يدخل الانسان الى قضية quot; اللوعة quot; هذه مسلحا ndash; ولابد- بالاستعارات واعادة تمثيل الحقيقة مجازيا، بعيدا عن الحادثة الاولى، وسيكون الموضوع التاسيسي نفسه علامة اسلوبية، بعد ان تُسَد الثغرات، لان الاسلوب لايخفى. وبما ان فن علاء بشير، سواء اكان تصويريا ام نحتيا، هو فن وجهة النظر من خلال المسكوكات (التفاحة من بينها، وهذا ليس اختزالا لاعماله) ومن خلال تحير المخيلة تلقائيا، فان اسلوبه يعرض خصائصه في هذه المنحوتات وكانها اشياء لصيقة بالموضوع، وذلك في اثناء تعريض الموضوع الى تقلبات محتملة خياليا، تكتسب بالتنفيذ كمية من الدلالت المتحركة، وبهذه الدلالات تكون الذاكرة قد تخلصت من الحادثة quot; التاريخية quot; التي لم تعد منيعة على الفنان حيث لا ذاكرة تسهر على خياله وتمسك بتلابيبه، بل يجتازها تجاوبا مع انجازه. ويختار التحري في جوف التفاحة او يترك اثرا على قشرها، بدلا من ان يصير شيئا من مخلفات الذاكرة.
بنى علاء بشير اعماله الكبيرة من الجبس، والصغيرة صهرها من البرونز، واستعار للجبس الوانا لا تمثل طبيعة الموضوع، اما البرونز فقد ترك له لونه، حتى في تلك الاعمال التي هي نسخ من الاعمال الجبسية الكبيرة، وقد ركز جهده البلاغي في الاعمال الكبيرة، واشبع الاعمال الصغيرة ndash; عدا النسخ المذكورة ndash; بالنحت، بكل ما تستطيع الكتلة (كتلة الموضوع التاسيسي) من قدرة على تمثيل الفراغ ومن مرونة على اعادة تشكيل الصورة.
في عمل واحد من بين الاعمال الكبيرة تكررت التفاحة في حجوم سردية مبالغ فيها، لكن المبالغة والتكرار ليسا خارج الممارسة البلاغية التي تهدف الى تثبيت الموضوع. في اعمال الجبس الاخرى سيتعرض الموضوع الى تحويل، حيث تاخذ التفاحة اهاب البالون المضغوط باربع ايدٍ لرجل وامراة يتعانقان وكانهما يقاومان وسيطا مشتركا يعاني هو ايضا من العصر، انها حالة من صراع للفكاك من الخنثوية التي تلعب التفاحة فيها دور المركز الوحيد بين الاثنين، وفي عمل اخر سيكون للتفاحة نسيج الحجر الذي عالجه ازميل او قلم حديدي. وستظهر عليها في عرض اخر اثار اقدام بشرية كما لو كانت ارضا مبصومة. ان اللون يؤيد هذه الايماءات فتوجد مردودات لونية من المعادن والاحجار والفخاريات.... وقد تجلى المجاز والكناية معا في تمثال الرجل المنتصب ذي الاقدام المتعددة والذي يهم في كشف قناعه الخانق عن راسه. لقد تم اطلاق هذا الجسد بالكامل ثم حصلت الاضافة الكنائية للاقدام والحذف المجازي للراس.
ان المجاز والكناية (وهذه تتضمن حقيقة ومجازا) كليهما يشكلان حقلا للتاويل ولتحريك الدلالات، فاكثر من قدمين قد يكون رمزا اضافيا للقوة او لتعدد الخطوات او للريبة في الاتجاه.. الخ... اما حذف الراس فقد كان حذفا بالتعيين، حيث اخذت التفاحة موقع الراس، وهكذا ينشط الطابع الرمزي للحذف وذلك بوساطة التعيين.
ان اعمال الجبس تزخر بمثل هذه العلاقات البلاغية، فالتفاحة تنحرف عن كونها فاكهة لتظهر في حجوم واوضاع تتثاقل نفسيا مثل القيود والحواجز والزنزانات... تربض فوق الانسان او تتوسط انفاسه وكانها غصة لا تُشهَق... الخ.؟.. واحيانا لا يساعد الموضوع التاسيسي على التاويل: هل هذه التفاحة هي الرحم التي لا تسمح بالولادة؟ وولادة ماذا: اهو انسان كبير لم يطلق سراحه بعد من مخبأ الجنين؟ ان علاقة التشبيه، سواء اكانت عقلية ام ملموسة تشكيليا، لا يمكن ضبطها الى النهاية، فكل تاويل انما يشجع تاويلا اخر... ومهما حاولنا تقييد البلاغة اللسانية فاننا لا نكشف الا عن قيود المعاني اللغوية التي ننصرف نحوها؛ اما المنحوتة فهي بلا لسان...واذا وضعنا لها لسانا فعلينا ان نحول انفسنا الى منحوتات لكي نلعب الادوار معا، وكأن علاء بشير يستطرد: هل نحن الا في ادوار متبادلة؟ ونطارد، اذن، صمتنا الممتنع؟
ثمة ملاحظات تساعد على التاويل: فالتفاحة التي فيها دليل لغوي انثوي، يبرز حاملها (ما كان يربطها بالشجرة) مثل علامة ذكورية مقترنة بمبيض الثمرة، واذا كان هناك شخص واحد فهو ذكر، أي لا تظهر امراة وحدها، كما لا يوجد في العرض شخصان الا كانا رجلا مع امراة فليس من رجلين معا او امراتين معا، اما التفاحة فان وجودها ضروري في كل عمل، مما جعلنا نسميها موضوعا تاسيسيا، بل هي موضوع توليدي كما في عمل ذرية التفاح المتتالية صعودا وهبطا في الحجوم.
في اعمال البرونز الصغيرة، عدا ما نعتبره نسخا من منحوتات الجبس، سيعالج النحات موضوعه بتجاوز سهولة القرائن البلاغية، وخليط الحقيقة والمجاز (الكناية = حيث يتغذى شئ من شئ) كما سيتجاوز الشغل على سطح التفاحة بالعلامات او التلوين او القطع، سيوقف تشغيل التاويل بواسطة علامة خارجية بين شكلين مستقلين يدور حولهما معنى ما (الانسان والتفاحة) وسيكون لتجاوزاته هذه طابع تشكليي لا يحفل بالقرائن الا لماما، فشكل التفاحة هو هدف اعادة التشكيل الخارجي كما في الشكل المضغوظ بالكف ليعطي صورة عمود شمعي متعرج، او هو هدف للتحري في الجوف كما في الكهف المحفور والذي يتدلى منه شكلان انسانيان، وهناك ايضا التنقيب على شطائر التفاحة او تمثيل الانسان من خلال جمع واعادة توزيع عجينة التفاح. واعمال البرونز هذه اقل احتفالا بالاستعارات وليس لها ذلك الامتداد التلميحي العاطفي الذي ظهر في اعمال الجبس ذات القرائن اللونية والحجمية فهي اكثر اكتفاء بمعالجات النحت وتبدو هذه الاعمال الصغيرة موضوعات متخصصة بالكتلة وقابلية الفراغ اللامحدودة، وهي موضوعات لا ينضب لها معين.
ان قلة العناصر التشبيهية، و الاقتصاد بالموحيات؛ والاعتماد على مادة واحدة ذات لون اصيل؛ و الشغل اكثر و اكثر على امكانات الكاتلة الرمزية (: التفاحة)؛ وعدم زج التراكيب الاضافية في العمل (هذه التراكيب الطفيلية العابرة)، جعل من الاعمال البرونزية نصوصا مكتفية بمجالها التشكيلي فحسب.

تنبيه:تخطيطات علاء بشيرالمنشورة مع المقال مأخوذة من مجموعة عبدالرحمن طهمازي الخاصة. ممنوع اعادة نشرها ونشر المقال من دون ذكر المصدر إيلاف