عبد الجبار العتابي من بغداد: نعى الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق القاص العراقي محمود عبد الوهاب الذي وافته المنية في مدينته البصرة عصر يوم الاربعاء، عن 82 عاما، بعد ان كان قد تعرض الى أزمة صحية محرجة منتصف الشهر الماضي أدخل على اثرها الى المستشفى التعليمي بالبصرة. وأمضى الايام الاخيرة مسجى على سرير المرض عسى ان ينتابه الشفاء، ولكن يبدو ان الازمة الصحية كانت تتفاقم اذ ان جسده النحيل لم يعد يقوى على يحتمل ضربات القلب العاشقة للحياة.
ويمكن.. في اللحظة التي جاء النعي لا يتأتى للسامع سوى النظر الا الى وجه الراحل وهو مسجى على السرير، بشعره الابيض ووجه الصامت والمعبر بصمته ونظاراته التي ربما تقرب ملامحه لتفتح ابوابا غير حزينة، بل مفعمة بالامل، كما لا يمكن سماع نبأ الرحيل دون قراءة كلمات الشاعر ياسين طه حافظ التي كتبها له قبل ثلاثة ايام من رحيله، والتي هي بعنوان (بدءُ رحـلــتــنـــا أم وصــــولْ؟، ويقول في مطلعها:

(أنتَ هنا!
هذا السريرُ شاطئٌ صعبٌ
فقد يجتذبُ النائمَ فوقهُ الماءُ
وقد تهرب أنتَ منه طالباً ملتجأً آخرَ
لا قرارَ فوق هذي الضفة الصخرية البيضاءْ
أراك صامتاً
تنظر في وجهي كمن أضاع خاتماً،
كمن رأى عيباً على قميصِهِ، كمنْ
فاجأهُ خذلانْ!
خيَبْةٌ هذه أم كَلالٌ
كأنك تطفو على زورقٍ يا صديقْ.
في الظلام العميقْ.
نحن لا نسألُ ماذا كسبنا
قدْرَ ما نسأل: كم قد أضعنا ؟)

وبالتأكيد ثمة حزن لابد منه يرافق ما اعلنه الناعي اذ ان الرجل قامة عراقية ابداعية مميزة باشياء كثيرة ليست في الكتابة فقط ولكنه يشبه مبدعي البصرة بكونه يبتعد عن اللقاءات الصحفية، ونادرا ما تجده يتحدث بل ان يشعر بالخجل حين يطلب منه احد ذلك ويحاول ان يتوارى خلف تواضعه.


القاص محمود عبد الوهاب من مواليد بغداد 1929، أكمل دراسته فيها، ويعتبر من رواد القصة العراقية القصيرة في العراق مع مهدي عيسى الصقر وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي مارس الكتابة في مجال القصة والرواية والنقد، قرابة ستين عاما، وترأس اتحاد أدباء البصرة لفترات، له عدد من الإصدارات منها ( رائحة الشتاء، رغوة السحاب، و ثريا النص، وسيرة بحجم الكف )، تخرج مطلع الخمسينيات من جامعة بغداد، ونال أعلى درجة في دفعته بكلية الآداب، وعين مديرا لإحدى المدارس في مدينة البصرة. كانت حقبة الستينيات، من أحلك السنوات التي جابهها، حيث فصل من وظيفته، وتعرض إلى السجن، إذ اضطر إلى العمل كقاطع تذاكر، ثم مديرا لسينما الكرنك في البصرة. وسافر إلى جامعة عين شمس لدراسة الدكتوراه لكنه لم يكمل الدراسة بسبب الحالة الاقتصادية.

عاش محمدود.. سنواته اعزبا، وان كان يقول: هذا لا يعني هذا أنني أخلو من تجارب مع النساء، فالعزوبية لا تعني النفور من المرأة..، ولكن ربما علاقته مع تلك الفتاة البولونية هي التي لا ينظر الا سواها، ولا يحاول ان يخلد الى الراحة مع امرأة غيرها تحت سقف واحد، ويمكن استنتاج ذلك من تصريحه ليحيى البطاط قبل سنوات (جمعتني في السبعينيات من القرن الماضي أمسية مع شابة بولونية في وارشو تتمطى بجسدها على درجة واطئة من درجات سلم قصر الثقافة والعلوم، ووسط مرج منبسط وهواء أيلول العذب، حدقت إلى عينيها قائلاً: quot;أنت تمتلكين عينين كرستاليتينquot; انتفضت الشابة وقالت: quot;أنت شاعر إذاً!!، ومن يومها ولسنوات لم نفترق. أرتني نصب (آدم مسكيوفيتش) شاعر بولونيا الكبير، وبيت الموسيقار (شوبان)، وبيت (مدام كوري) وأخبرتني أن اسم الشارع الذي تقع فيه شقتي هو اسم لكاتب قصص أطفال، شاركتها زيارة المتاحف والمعارض ودور الكتب، كنت أسميها مداعباً (الكتاب ذا الشعر الأشقر) ومن تلك اللحظة قادتني عيناها إلى كل ما هو جميل، لأنها علمتني أن الحياة مهما طالت فهي بمثابة رحلة قصيرة على هذه الأرض التي لا تستحق أحزاننا. تلك الشابة دخلت إحدى قصصي وربما امتدت ملامحها إلى عدد آخر من القصص التي كتبتها).

كان يقول (ولدتُ في دفترِ الإنشاء المدرسي) ثم يقول (نشأت أيضا في جدارية النشرة المدرسية)، بدأ الكتابة فعلا عام 1951 بقصة (خاتم ذهب صغير)،التي هي نقطة انطلاقه في عالم الكتابة، غير ان النقاد يرون ان قصته (لقطار الصاعد إلى بغداد) التي نُشرت في مجلة ( الآداب ) البيروتية عام 1954، تمثل انعطافة واضحة باتجاه التجديد في هذه المسيرة، كما يؤكد الناقد ناطق خلوصي الذي يوضح بالقول عنها (وبذلك يكون قد انضم إلى قصاصي الخمسينات الذين اعتمدوا المنحى التجديدي في القصة وفي المقدمة منهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، وكان قد كتب هذه القصة عام 1952 وهي قصة واقعية بامتياز تعد جديدة وفق معايير زمن كتابتها ونشرها في الخمسينات ولا تعتبر كذلك وفق معايير العصر الحاضر)، ومن ثم نشر عبد الوهاب قصة (القطار الصاعد الى بغداد) عام 1954 وترجمت هذه القصة الى اللغة الانكليزية، وضمها، لاحقا، الى مجموعة (رائحة الشتاء).

وينقل عن محمود عبد الوهاب انه لم يعر اهتماما ً للرواية، ربما بسبب قِصَر نَفَسه في الكتابة، كما يؤكد النقاد، لذلك اكتفى بالتواصل مع القصة القصيرة وأبدع فيها، وان كان قد بدأ كتابة رواية حملت عنوان (تخطيطات بالفحم الأسود) عام 1953، لكنه صرف النظر عنها مثلما صرف النظر عن رواية أخرى لم يتم منها سوى ثلاثة فصول، الا انه اصدر عام 2001 رواية تحمل عنوان ( رغوة السحاب)، لعبد الوهاب ايضا كتاب نقدي تحت عنوان (دراسات نقدية في الحوار القصصي) وعدد من التراجم لقصاصين كجون شتاينبك، ارسكين كالدويل، وهيمنغواي، وقصائد من الشعر الصيني، كما ان نشاطاته لم تقتصر على الكتابة فقط، بل انه اشتغل في الاخراج المسرحي فأخرج مسرحية ( أهل الكهف) لتوفيق الحكيم عام 1957،ومسرحية (عرس الدم) للاسباني الشهير للوركا، ومسرحية ( سوء تفاهم) للفرنسي البير لكامو عام 1958، كما اشترك لاحقا مع الشاعر كاظم نعمة التميمي عام 1973 في تقديم برنامج تلفزيوني بعنوان (مسائل ثقافية) لصالح تلفزيون البصرة، كما مارس ترجمة القصة والرواية عن الانكليزية في الخمسينات فترجم (قطة في المطر) و (المخيم الهندي) و(العجوز على الجسر) لهمنغواي، و(هروب) و (سارق الحصان) لكادويل، و(سارق عربة الشحن) للبيرتو مورافيا.

يقول عنه القاص محمد خضير: لا اعجب ان يتعكز القاص محمود عبد الوهاب على عصا لا عن تقدم في السن وانما عن ثقل في الافكار , فرأسه مملوء بالافكار، وان شخصيات قصص محمود عبد الوهاب غالباً ما تكون غير مسماة وتعيش حالة من الوحدة تختلف عن شخصيات فؤاد التكرلي مثلاً التي تعيش حالة اغتراب، وحدة شخصيات محمود وحدة إنسانية عاطفية تصادفية، وربما انعكست هذه الوحدة على محمود نفسه، وحدة المؤلف مع وحدة شخصياته تؤلف كمثرى موسيقية تعزف اوركسترا الإنسانية، قصصه تشبه كمثرات الخطاط هاشم، أو بطغراوات محمد سعيد الصكار، هذه التي تتدلى في غابة الأسماء وتلتف بخطوطها كما تلتف شرايين قلب محمود عبد الوهاب.

* في الاربعينيات كان الاديب صادقا فكان هو الموجه والقارئ هو المتلقي المستفيد من نص الكاتب الان في هذا العصر هناك علماء كبار مهندسون اطباء علماء فلك علماء ذرة , فكيف يمكن لهذا الاديب ان يقنع هؤلاء العلماء بما يكتبه , وحتى اطلق ما يسمونه بعلم الادب وكأن الادب علم والعاطفيات عبارة عن انفعالات لا قيمة لها اذا كانت هي السائدة في النص , اما الجماليات تختلف عن العاطفيات , فالنص المعرفي يسمى بنص المفهوم , وكلمة العلمي تعطي للنص تخصص , اما الترجمة مهما كان المترجم قديرا لا يستطيع ان ينقل النص نقلا بليغا او كما هو في الاصل ولذلك يقال عن النص المترجم انه اقرب النصوص في القراءة فهو قرأة من القراءات.

- أعجز عن الكتابة في غير مدينتي البصرة، أشعر بصعوبة الكتابة في مكان آخر، جربت ذلك في أثناء سفري لبعض المدن والبلدان العربية مثل القاهرة، ودمشق، وبيروت والإمارات وغيرها، كما جربتها في مدن غير عربية مثل وارشو وبراغ وبودابست وسواها.. ولم أنجح. قد تبلغ الصعوبة أحياناً حد العسر، خاصة كتابة القصة بوصفها عملاً إبداعياً، اكتشفت أن الكتابة خارج البيت، وربما حتى في مكان لم اعتد الكتابة فيه في البيت نفسه، عملاً عسيراً.

- العنوان في النص القصصي يعد زاوية النظر التي يلتقط منها القاص ذروة العلاقات التي تتألف منها القصة. وبعبارة أدق يكون العنوان في القصة ضمن مجموعة القيم والأفكار التي تحكم عملاً أدبياً معيناً والكيفية التي يضمن بها الكاتب عمله الأدبي، هذه الافكار والقيم اذ انها لا ترد في النص بصورة مباشرة وانما تتغلغل في النسيج العام له، وتعلن عن نفسها بصورة غير مباشرة وبوسائل فنية مختلفة.

- عندما أحمل مستلزمات الكتابة أشعر بأن ما هو خارجي قد تلاشى تماماً، وأنني أصبحت كتلة متماسكة، أشعر ببراءة وبهجة الطفل الذي يحمل ألعابه وينزوي، في زاويته بعيداً عن ضجيج البيت. أكتب بالقلم الرصاص أولاً، وأسترجع المسودة مرات عديدة، وربما تكون المسودة الأخيرة بالقلم الرصاص قبل طبعها بالكمبيوتر، وفي أحايين أخرى أكتب المسودة الأخيرة بالقلم الحبر، ويلازمني في أثناء ذلك الضجر، ذلك أن الكتابة بمادة الحبر تشبه إصدار حكم نهائي على القصة، وعلى الرغم من رغبتي من نشرها أبقى ألاحقها. الكتابة بالقلم الرصاص قابلة للتعديل، هناك أيضاً عناصر طقسية أخرى تلازمني في أثناء عملية الكتابة، مثلاً أن لا تكون المنضدة فخمة لأنها تضفي أجواء رسمية. أنا أرغب بالكتابة على منضدة بسيطة وذات مساحة محددة، تكفي للأوراق. ومن الطريف أنني أحمل مع أوراقي مسطرة وممحاة ومبراة. أشعر أن أي مبدع حين يفقد دهشة الطفولة يفقد أيضاً تلقائية الكتابة.
والخاتمة في التأبين في اللحظة ذاتها تدعو الى العودة الى قصيدة ياسين طه حافظ المعبرة لنقتطف منها جزء معبرا اخر يوحي بما نفس الشاعر عن صديقه:

(انتهت الزيارة.
هذا القطار واقفٌ في غير ما محطةٍ
وأنت في سريرك الحديدْ
تنظر للدنيا من الشباكْ.
ظلُّكَ ربما
يجلسُ في شقّتك المهجورة الباردة
يكتب شيئاً، ربما خاتمةً لقصةٍ أبقيتَها
وربما أرسلتَهُ أنتَ لكي يغيّر السطورَ
بعدما اضطرَبْتَ، بعدما
أخافَكَ العبورْ.).