"ممرضات" يا شباب :

ياسمين علي: هي وظيفة لا أكثر، وظيفة كغيرها من الوظائف تتطلب شهادة جامعية وتقييم للكفاءة ومن ثم مواجهة إحتمال التوظيف أو عدمه .إلا ان طبيعتها جعلت منها حالة إستثنائية حيث يعتبر الرجل فيها "دخيلا".
..لعلها مفارقة لا تتكرر في مجالات عدة ، ففي الوقت الذي لم يعد من المستغرب أن تشغل المرأة مهنة ذكورية ، فإن إحتمال تواجد رجل في مهنة أنثوية "أمر غير وارد على الإطلاق "، وأي يقوم بتلك الخطوة ، فهو عرضة "للدمغ" بصفة معينة .
وإن كانت الصورة "المنطقية " إلى حد ما ،التي تتبادر إلى الأذهان لمهنة التمريض هي "نساء في ثياب بيضاء" فإن عدد لا بأس به من الرجال يشغلون مناصب عدة في هذه المهنة .

شبان بين "غفير من النساء"

لم يقدر ياسر على رفع نظره عن الحالة التي أدخلت حديثا إلى المستشفى لمرض ما في قلبها .وقف مشدوها أمامها ،ممرض شاب أمام مريضته الجميلة.وخلال بضعة أيام تحول الطابق حيث يعمل الممرض الشاب إلى غرفة واحدة ترقد فيها مريضة القلب التي "أضنت فؤادي".
"طلباتها كانت أوامر"، فما إن يرن جرس جهاز على مكتبه وتضيء لمبة صغيرة فوق رقم غرفتها حتى يهرع بثيابه البيضاء مجتازا الممر الطويل بثوان معدودة ليمثل بين يديها سائلا عن أي خدمة ،" حين كنت أختفي فجأة كان زملائي يعلمون أنني في غرفتها أو خارج الغرفة منتظرا أي طلب منها".
..وحين حان وقت الرحيل تضاربت مشاعر ياسر .تخلى عن أي مهنية من المفترض أن "تجمد أحساسيه".ففي الوقت الذي كان عليه أن يشعر بالسعادة لشفائها فان حزنه لرحيلها كان أكبر بكثير .
الوقت لم يعد إلى جانبه ، وخياراته باتت محدودة ، فإما مصارحتها أو تركها ترحل إلى الأبد .وهكذا إستجمع الفارس الأبيض شجاعته وأعلن لها عن إعجابه الشديد ..أمل بـ"أنا أيضا"، لكن "أسفة لا أبادلك الشعور نفسه " كانت "لكمة على فمي ..لكمةعلمتني الا أعيد الكرة أبدا".
فهذا النوع من العاطفة الذي فرضته عليه نوعية وظيفته التي تجعله محاطا بالنساء طوال ساعات الدوام الطويلة ، جعلته عرضة للحسد من ناحية ولجحيم النعمة من ناحية أخرى .."نحن أشبه ببالع الموس" .. يبتسم ويتنهد "نحن بشر لكن الوضع صعب جدا ".


"...ممرضات يا شباب"

لايستغرب غسان (27 عاما) ممرض مجاز من الجامعة الأميركية في بيروت ردة فعل الناس تجاه مهنته، "فإن كان أهل الإختصاص أنفسهم لا يتقبلون الفكرة ، فكيف تتوقع أن يتقبلها المجتمع".
يبتسم الممرض الشاب بإستهزاء ويمد ذراعيه بإستسلام .."كنا في مؤتمر للتمريض ،وكان لنا نحن الممرضون الشباب حصة الأسد من "التنقير".
وأمام ذلك التجمع "المخيف"للممرضات الإناث ، إختار الشبان "ملزمين" تشكيل حلف منعزل عن البقية الباقية.."وخلال المؤتمر التفتت نحونا مديرة أهم وأكبر مستشفيات لبنان وقالت ضاحكة .." ممرضات يا شباب "...دعابة لم يضحك لها أحد سواها .
إن كان في تلك "الصورة " تحد ما ، من المفترض أن يخلق عزما لخوض معركة "إثبات وجودهم" كرجال ، فإن ممتهني التمريض من الذكور لا يشغلون بالا لذلك .
فغسان لا يبد أي إستعداد للإستمرار في عمله ، وإن كان السبب الأساسي لإختياره مهنته هو المنحة التي تقدمها الجامعة فإن "قلة حبه" لها وعدم قدرته على "تخيل نفسه ممرضا طوال حياته ، إضافة إلى المعاش غير المغري القادر على إعالة فرد وليس " إعالة عائلة " وضعت حتمية ترك عمله ضمن لائحة أولوياته.
..بهدوء بالغ وبصوت عميق يشرح محمد (29 عاما_ ممرض مساعد) أسباب سوء فهم عمل الرجل في مجال تهيمن عليه المرأة ، فالمهنة برأيه تحتاج إلى صبر وإلى بال طويل قلما وجدا في صفات الشبان".وخلافا لغسان فإن السنوات الخمس التي أمضاه محمد في عمله شكلت عاملا أساسيا في عدم إبداء أي رغبة في مبارحة مكانه والتخلي عن وظيفة ثابتة "متعبة جدا .. وإن كان البعض لا يراها هكذا ".وإن كان راتبه أقل من أن يسد حاجات العائلة كونه ممرض مساعد ، فقد تحايل على محدودية الموارد بالعمل "كممرض خاص" خارج الدوام.

حين يصبح عزرائيل .."عزوز"

في ذلك المكان المتفرد بتركيبته وأناسه وصداقته وحوادثه غير المألوفة تصبح معايشة المأساة من الضروريات للإستمرار بأقل أذى نفسي ممكن، فسرعان ما تنتهي علاقات إنسانية بين المريض و مجتمعه الجديد إما برحيله بعد إستعادته عافيته أو كجثة هامدة .
وفي صراع يومي ومكثف مع فكرة الموت ، يجد شبانا وشابات في مقتبل العمر أنفسهم أمام خيارين ، فإما الإنكسار والإنسحاب أو البقاء والقبول بالتغيرات الجذرية التي تجعل الإنسان أحيانا غريبا عن ذاته.
تبنى غسان الخيار الثاني ، فهو وردا على سؤال تقليدي عن نهاره ،يجيب "تمام ، لفيت إثنين اليوم ".برودة تعكس لا مبالاة وقساوة .
ولأن الموت "أصبح مزحة" فإنه يعلن عن وفاة مريض بعبارة "أخذه عزوز"، وعزوز هو إسم مبتكر لملاك الموت عزرائيل.
وبعيدا عن الموت الفعلي ، فإن رامي (33 عاما _ ممرض مجاز) يعتبر المهنة نفسها "عزوز".."دوام ثمان ساعات قادر على قتل أي حياة إجتماعية يمتلكها الانسان".فهذا الأب العامل وونتيجة لنوبات العمل المتغيرة بين ليل و نهار بالكاد يرى إبنه البالغ من العمر 4 سنوات .."أحيانا يمر أسبوع لا أراه خلاله إلا نائما".
لعلها الأبوة التي جعلت من رامي خائف ومشوش ..فهو وعلى رغم مرور ست سنوات على عمله كممرض ، لم يتمكن من الفصل بين الحوادث التي يراها يوميا وبين حياته الشخصية .."أخاف أن تصيب الحالات التي أراها إبني أو زوجتي ".

زمالة وصداقة و أعز..
"تعرضت للتحرش الجنسي " ، يضحك غسان بقوة ،ثم يسرد بإسهاب "سعيد" عن ممرضة زميلة عرضت عليه سهرة في منزلها ..تتسع إبتسامته بزهو هو يفسر سبب رفضه لعرضها .."أنا لا أمزج بين المتعة والعمل ".
إلا أن هذه القاعدة يمكن خرقها بسهولة لو كانت الممرضة تعمل في طابق غير طابقه .."لقد تواعدت أنا وممرضة في طابق آخر لمدة ..وكانت علاقة مثل أي علاقة اخرى وانتهت منذ مدة ".
ففي مجتمع أنثوي بحت ، يجد الشبان خيارات عدة لعلاقات مختلفة ، فإما صداقة أو زمالة وأحيانا قد تتحول إلى حب أو علاقات للتسلية فقط .
وتحت سيطرة نسائية "على الجو" ، يجد الشبان منفذا لهم عبر التكتل في جبهات ذكورية خلال ساعات الدوام ، وإن كانت هذه التكتلات لا تختلف في مضمونها عن "صبحيات النساء" وما تتطلبه من ثرثرة و"قلقلة".فالأحاديث تتراوح بين السخرية من شكل إحداهن "أنفها أشبه بقاطرة و مقطورة" ،وقد تصل أحيانا إلى حد ملاحظة الزيادة في الوزن أو ظهور التجاعيد .
وأحيانا حين تعاكس أحدهم الظروف ويكون المناوب الوحيد بين "النساء" فإن الإنضمام إلى الحلف العدو يصبح ضرورة .."أصبحت منهم ..وليس مثلهم "..ويشدد غسان على المقطع الأخير من جملته .

الأبيض المثير

ترتبط صورة الممرضة بشكل عام بخيال "مثير" خصب، على عكس صورة الذكور منهم التي ترتبط بأفضل الأحوال "بنعوت" تنتقص من رجولتهم .يشبه غسان ثياب الممرضة بثياب النوم غير المثيرة "القادرة على قتل أي فكرة قد تخطر على بال أحد"، أما محمد ورامي فهما يجدان في تلك الثياب البيضاء جمالية وشفافية "تدغدغ الخيال "..
"من الضروري أن يكون معنا شباب"، تعلق دارين .."لو كان المريض ثقيلا من يقوم برفعه".. تضحك بدلال وتتابع سيرها عبر الممر لتعود مع "مجموعة نسائية" من الممرضات اللواتي تدافعن بحماس بالغ لمدح وجود "الشبيبة" بينهن لكسر حدة التوتر الأنثوي ومناقشاتهن التي تنتهي .
وإن كان لقب "حماتنا" الذي أطلقته إحدى الممرضات عليهن يعبر عن العلاقة المميزة التي تربطهم ، فإن المسؤولية التي يلزم بها كل "ذكر" منهم تجاه "حريمنا" أكبر دليل على شفافية وجمالية تلك العلاقات .
وإن كانت المناقشات تتوتر أحيانا وتتحول إلى نزاعات إلا إنها سرعان ما تختفي مع بروز حالة ما تعيد الجميع بزيهم الأبيض إلى فراش المريض ، يتحلقون حوله ملائكة للرحمة.