مرض لعصر يشبهه:
الإكتئاب بين الحلول الجزيئة والتجارب

نسرين عزالدين: " أعاني من الإكتئاب"، لعلها من أكثر الجمل تداولا .. الجميع يصرح أنه يعاني من الإكتئاب وقلة قليلة تحاول معالجته . هذا المرض الذي لا يزال وعلى الرغم من إعتباره مرض العصر،موضع تشكيك من قبل البعض . فبمجرد نطق الكلمة حتى تنهال التعليقات والنصائح بالجملة .." قم بنزهة، لا تفكر كثيرا، حاول أن تنام بشكل افضل " . نصائح لعلها تنفع في حالات معينة كالمزاج المتعكر أو الحزن الخفيف أو حتى الملل ..لكنها من المؤكد لن تنفع في حالات الإكتئاب . وبعيدا عن الرفض الذي عادة يرافق " الإكتئاب" وتصنيفه في خانة الدلع أو الإستسلام ،فإنه من تلك الأمراض التي لا يعرف حدتها وآلامها سوى من عانى منها . فهذا "المكتئب" قلما يهمه إكتشاف جين معين مسبب لمرضه ، كل ما يهمه هو الخروج من تلك الحالة التي تخنقه وتشل حركته وتدفعه إلى البكاء من دون سبب يذكر .
..إنه الاكتئاب ، هذا المرض الذي يغذي نفسه ، أي أنه يمكن الإصابة به، ثم الاكتئاب لكونك مصاب بالاكتئاب ..وهكذا تصعب مقاومته ،فيولد الأفكار السلبية ويقضي على أي رغبة في القيام بأي عمل أو نشاط .. وقد يجعلك طريحا لفراشك تحدق في السقف مستسلما لهذا الضيق الذي يلقي بثقله على صدرك ويمنعك من التنفس . قد تظن أن البكاء قد يخفف من حدته ، فتشرع بالنحيب علك تفرغ ذلك التوتر والشحن العاطفي .. والنتيجة ألم في الرأس وكآبة مستمرة .

ما هو الإكتئاب..

الإكتئاب مصطلح طبي يشمل نطاقا واسعا من الإضطرابات النفسية ، قد يسفر في أخف حالاته عن مزاج هابط لا يعوق متابعة الحياة بشكل عادي، وإن كان يجعل القيام بالمهامات العادية أكثر صعوبة، ويقلل من أهميتها وجدواها . وفي أعنف حالاته فإنه يعتبر تهديدا للحياة فيولد الرغبة بقتل النفس بحيث تبدو كل الأمور تافهة فارغة من أي معنى ، فلا سبب للعمل ولا سبب للحب ولا سبب للإستمرار بالحياة.

إذن الإكتئاب أنواع ودرجات فهناك القلق ،والإكتئاب الموسمي ، وإكتئاب ما بعد الولادة والهوس . من المتعارف عليه أن الذين يعانون من الإكتئاب كثيرا ما يعانون من القلق أيضا ،أي أن الشعور بالقلق يرافق بقية المشاعر الأخرى سواء كان هذا القلق حقيقا أم متخيلا . فالإنسان القلق يفكر بعدة أمور في وقت واحد طوال الوقت ويجد صعوبة بالغة في التركيز على موضوع ما محدد . وقد يظهر القلق من خلال أعراض جسدية كالصداع أو الام العضلات والتعرق والدوار. أما الإضطراب العاطفي الموسمي فهو مرتبط بكمية الضوء ،أي أن نقص ضوء النهار في الشتاء تجعل بعض الناس عرضة للإكتئاب . أما النوع المتعارف عليه فهو إكتئاب ما بعد الولادة ،والمسبب الأول له هو التغيير الكبير في مستويات الهرمون .وأخيرا الهوس .. وهو أشد الأنواع وأعنفها ،بحيث يفقد المكتئب القدرة على التحكم بتصرفاته وتتمحور حياته بأكملها حول حدث معين ، قد يكون محاولة التخلص من حياته أو التفكير بأمر ما محدد كموت أحدهم أو الإنفصال عن من يحب أو فقدان وظيفة .

أسباب الإكتئاب وعوراضه

من المسلم به جدلا أن الإنسان "يعلم "حين يبدأ بالسقوط في دوامة الإكتئاب، البعض يعتبرها مرحلة لا بد من تجاوزها بعد مدة زمنية معينة ، والبعض الأخر يحاول جاهدا للخروج من "المحيط" الذي دفعه إلى حالته تلك .إلا أن الإكتئاب يتعدى تغير المزاج وعدم الرغبة في الخروج ، يتعداه بأشواط . فهو ليس مرض " مرحلي " مؤقت يظهر ويختفي حسب الأحداث الآنية فلا يمكن بأي شكل من الأشكال حصر الإكتئاب بسبب واحد . قد يكون نتيجة لحدث معين في مراحله الأولى ، لكن التجربة نفسها لا تعتبر السبب المباشر لولادته وإنما طريقة التعامل أو التعاطي معها هي التي تجعل من هذا الشخص أو ذاك "مكتئبا" . وعلى الرغم من ربطه بالضغوطات أو الأحداث العاطفية العنيفة في حياة المرء لكن الإكتئاب يصيب أيضا أولئك الذين يعيشون حياة قد نعتبرها مثالية.ومؤخرا كشفت الدراسات أن الأشخاص "الناجحين" في حياتهم هم الأكثر عرضة للإكتئاب ، فهذا " الناجح " يسعى جاهدا للحفاظ على المستوى المطلوب بل التفوق على ذاته في مراحل عدة ما يدفعه إلى حالات من الإحباط والضغط النفسي لكثرة العمل أو التفكير وبالتالي الإكتئاب .

إن عوارض " مرض العصر" واضحة بشدة يحيث لا يمكن عدم ملاحظتها ، إلا أن المريض عادة لا يعلم أنه " يسقط " بسبب عدم معرفته لتلك العوارض . ويمكن تلخيص مؤشرات الكآبة بالشعور بالإحباط والملل وهبوط الروح المعنوية معظم الوقت ، ما يؤدي إلى عدم الإستمتاع بمباهج الحياة والإنشغال بأفكار سلبية. إضافة إلى عدم الرضا عن أي عمل ينجزه الشخص المعني وبالتالي فقدان الثقة بالنفس ،إضافة إلى صعوبة التركيز والتذكر وعدم القدرة على إتخاذ القرارات وسرعة الإنفعال وفقدان الصبر .
ومن العوارض المتعارف عليها عدم القدرة على النوم وإختلال الشهية مثلا كإلتهام الطعام أكثر من المعتاد أو فقدان الشهية بشكل كامل . ومن البديهيات أن المكتئب يستهلك التبغ أو الحكول أو المخدرات أكثر من المعتاد، ويرفض الإختلاط بالأخرين ويميل إلى الإنعزال ..ولعل المؤشر الأكثر وضوحا والذي لا يمكن لأي كان عدم ملاحظته وهو التفكير بالإنتحار .
كما أن العوارض نفسية وجسدية ، كذلك الأسباب . فإلى جانب الأسباب النفسية يبرز العامل الجسدي .

جينات الإكتئاب المعروفة .. والمجهولة

تم تحديد الجين المسبب للإكتئاب .. خبر لا بد أن يدخل الفرحة العارمة والأمل إلى قلوب الذين يعانون من المرض ، لكنها وللأسف جملة ناقصة . فلا يمكن القول أن جين واحد هو المسؤول عن الإكتئاب فقد تم إكتشاف البعض والبعض الآخر لا يزال مجهولا. وبشكل مبسط ، لقد تم إكتشاف أن قصور بعض الناقلات العصبية في نقل السيروتونين والنيروبنفرين إلى المخ يؤدي إلى الإكتئاب من دون إكتشاف السبب وراء هذا القصور .

جملة واحدة يرددها الأطباء .." سأصف لك دواء لكن عليك أن تساعد نفسك فالدواء وحده غير قادر على إخراجك من الإكتئاب " فالدواء هو عامل مساعد فقط لا أكثر .
فظهوره يتوقف على عنصرين: عنصر جيني وعنصر بيئي خارجي. فعندما تؤثر عوامل مثل الضغط النفسي والإجهاد والتوتر على شخص لديه "إستعداد" جيني (وراثي)، تحدث الإصابة بالمرض.و لا يمكن القول بأن جينا واحدا هو المسؤول وإنما عدة جينات يؤدي تأثيرها معا إلى الإصابة بالاكتئاب.
تنوعت الدراسات وإختلفت التحليلات، وحتى تم تحديد 19 منطقة جينية مختلفة ذات صلة بالمرض .بإختصار فإن أدوية الإكتئاب المعتمدة والمتداولة تعمل على رفع نسبة الناقلات العصبية الموجودة في المخ، السيروتونين والنيروبنفرين والتي يُعتقد أن ثمة إرتباطا مباشرا بينهما وبين الحالة المزاجية والإنفعالية .ومؤخرا تم إكتشاف تأثير جين جديد وهو HTT5، ومن المرجح إكتشاف المزيد منها . فالدراسات مستمرة من أجل إكتشاف الأسباب كاملة إذ أنه وفي حال لم يتمكن الباحثون من إكتشاف العناصر الكاملة المسببة للمرض لن يتمكنوا من صنع أدوية جديدة للإكتئاب خصوصا بعد فشل المحاولات العلاجية على مدى العقود الثلاثة الماضية في تحقيق أي تقدم ملموس في علاج هذا المرض الذي يصيب حوالي 10% من سكان العالم ، ويعتبر السبب الثاني للإعاقة أو عدم القدرة على العمل في كل دول لعالم.وقبل التطرق إلى طرق وأساليب علاجه لا بد من الاشارة إلى إكتئاب الأطفال الذي يعتبر الأخطر والأعنف .

طفل مكتئب

لعل إكتئاب الأطفال من الدلائل على أن الإكتئاب خلل جسدي بالدرجة الأولى ، فإن كان هذا المرض يولد بسبب أحداث معينة أو ضغوطات تتفاعل مع "إستعداد " جيني للإكتئاب فإن هذه الضغوطات غالبا ما تكون "مخففة" في حياة الطفل وبالتالي فإن الغلبة تكون للإستعداد الجيني .

ا تختلف حالات الإكتئاب في حدتها بين الأطفال والكبار، وكشف العلماء في الولايات المتحدة أن الهوس الإكتئابي التي يعاني منه الأطفال يشبه إلى حد كبير الحالات التي شخصت عند الكبار الا أنه يصعب تشخيصه خلافا لما يحدث عند البالغين.ويعتبر الهوس الاكتئابي من الحالات النفسية الخطيرة التي تتسم بتقلبات حادة في المزاج، وهي تعرف أيضا بالإكتئاب الثنائي القطب، وذلك لتقلب المزاج بين حاد جدا ولطيف جدا إضافة إلى إنعدام التركيز الناتج عن خلل النشاط المفرط.وتكمن خطورة هذا النوع أن المصابين به يبقون سليمين ومعافين لفترات طويلة ولذلك فإن مفتاح العلاج هو التشخيص المبكر الذي يساعد في السيطرة على الحالة من خلال إستخدام الدواء المناسب . وخلافا للبالغين الذين يعانون من الهوس الإكتئابي والذي يستمر لعدة أشهر، لكنهم يقومون بأعمالهم ونشاطاتهم بشكل طبيعي نسبيا فإن الأطفال المصابين به يعانون لسنوات طويلة من دون أن يكون هناك فترات شفاء بينها وتنتابهم تقلبات حادة في المزاج بشكل يومي .

العلاج بالأدوية ..والكلام والأوهام

تنقسم علاجات الإكتئاب إلى نوعين منها تناول الأدوية اللازمة، ومنها العلاج النفسي، ومنها المزج بين النوعين . وبشكل عام فإن أكثر الناس يقصدون عيادات الأطباء العموميين حيث يتم عرض العقارات المضادة للإكتئاب كخيار أول ، في المقابل فإن المزج بين النوعين أي العلاج عن طريق الحوار والعلاج عن طريق مضادات الإكتئاب هو الطريقة الأكثر فعالية.

إن مضادات الإكتئاب هي أكثر طرق العلاج إنتشارا ،فهي تعوض الخلل الكيميائي الذي حدث في المخ . ومن أكثر الأدوية إستخداما، أولا مضادات الإكتئاب ثلاثية الحلقة tricyclic antidepressants ، ثانيا مضادات الإكتئاب المؤثرة على مادة السروتوينن selective serotonin reupterke inhibitors-serotenine euhancers ، مضادات الإكتئاب المضادة لإنزايم المونوامين menoamine inhibitors .
أما الجلسات النفسية فتتيح فرصة التعامل مع الضغوط الخارجية أوالتحدث عنها .كذلك التعرف على أفضل السبل للتعامل مع الأعراض التي يعاني منها المريض وهذه الجلسات تتبع أساليب مختلفة كالعلاج السلوكي أو المعرفي أو النفسي التحليلي أو الأسري أو الجماعي . وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلاج النفسي لا يقدم الحلول بأي شكل من الأشكال فوظيفة الطبيب النفسي هي مساعدة المريض على إكتشاف الخلل لا تقديم الحلول على طبق من فضة .الا أنه ونتيجة للأسعار الخيالية التي يتقاضاها الأطباء النفسيين في العالم العربي وإعتباره من " الرفاهيات" وبالتالي إستثناءه من الأمراض التي يغطي تكلفتها الضمان أو التأمين الصحي فإن قلة قليلة تأخذ على عاتقها مهمة سلك هذا الطريق . وعلى الرغم من قيام بعض الأطباء بالإنضمام إلى جمعيات معينة تقدم من خلالها أسعار مخفضة لمن يحتاج للعلاج إلا أن الإقبال على العلاج النفسي لا يزال خفيفا إذ أن عبارة " مريض نفسي " وصمة عار على ناطقها . وأخيرا وفي الحالات المتقدمة جدا من الإكتئاب فإنه قد يتم إدخال المريض إلى المستشفى حيث يتم توفير المأوى والحماية وفرصة لمراقبته عن كثب . إضافة إلى العلاج بالصدمة الكهربائية وهو يقتصر على المصابين بإكتئاب حاد لم يستجيبوا لعلاج العقاقير .لكنه علاج مثير للجدل قد يترك آثارا جانبية كفقدان الذاكرة .
ومؤخرا كشفت دراسة أن الادوية التوهيمية (بلاسيبو) تؤثر على أدمغة الأشخاص المصابين بالإكتئاب. ومن الناحية النظرية، فإن الأدوية التوهيمية تكون بدون جدوى، لأن الغرض منها هو إشباع رغبة المريض في التداوي. الا أن التفاعل الإيجابي لبعض مرضى الاكتئاب حين يتناولون أدوية توهيمية كالأقراص المصنوعة من السكر مثلا جعله موضوع دراسة وبحث .
وسواء كان العلاج توهيمي أو من خلال العقاقير أو جلسات العلاج النفسي ، فإن الإكتئاب مرض واسع الإنتشار في مجتمعاتنا على الرغم من تهميشه "واقعيا" والمطالبة بضرورة علاجه نظريا .هو مرض مؤلم لا يعرفه سوى من عانى منه .قد تكون الحلول المتوفرة ، لا تضمن الشفاء الكامل .. لكنها قد تساعد على التغلب عليه إلى حد ما .. فلا ضرر في التجربة .


[email protected]