سعيد الحسنية:غريب هو حسن وغرابته ليس في طريقة عيشه أو شكله وطول لحيته المنكوشة ، كما انها ليست بسبب مكان سكنه ولون فراشه أو ردائه الذي يلف به نفسه.
مميز حسن رغم وجود الملايين من من يشبهونه ، وتفرده ليس في لكنته الهجينة العجيبة ولسانه المطعم بلهجة أنتجها الزواج القسري بين البنغالية والعربية فظهرت عبارات مبهمة للوهلة الأولى ولكن معانيها واضحة ، منسوجة بهمسات الحب من أجل الحب والتسامح الدائم حتى مع وكيله
.فهو لا ينفك عن ذكر الله وحمده وتوجيه كلمات الحب بسبب او بدون سبب ، ينثرها على الجميع بصوته المبحوح ولكنته الهجينة : " أنا حبوا إنت ".
غرابته ليست في كل ذلك فحسب إنما في طريقة تعبيره وإصراره على حمل رسالة المحبة للإنسانية جمعاء دون تفرقة بين موظف أو " وكيل ". سواء قصد أو لم يقصد يظهر حسن بمظهر كائن من عالم آخر حط رحاله في هذه الأرض المباركة دون الاكتراث بمن أو ماذا يعيش عليها ، فراح يقدم قليل من المحبة مع كل كوب شاي يقدمه لأصحاب ربطات العنق الجالسين وراء مكاتبهم .يضعها أمامهم مبتسما دون سبب ، متحملا كدرهم وغضبهم وعصبيتهم دون شكوى أو ملل من اسطوانتهم اليومية . جاعلا من ذلك الفنجان وعاءه الذي يستعمله لحمل ذرات محبته .
يستقبلك حسن كل صباح بابتسامته القلبية ويسبقك بـ " السلام عليكم " غير عابئا بردك أو عدمه ، مواصلا عمله في مسح الأرض وكناستها وكأنه يزيل مع كل مسحة قليلا من كدرنا وقلقنا .
لا شيء يكدر على حسن سعادته الدائمة ، وكأن لا هم له ولا قلق يخيفه أو يحبط همته . أتى إلى هذه البلاد منذ عشرين عاما سعيا وراء رزقه ،ورغم ضآلة ذلك الرزق الذي لا يتجاوز سبعمائة ريال شهريا، يحرص على توفير أكثر من نصفه وإرساله إلى بلاده .الا ان هذا المال لا يرسله من اجل إكساء أولاده أو إطعامهم وطرد شبح الجوع عنهم في بلاد يخيم عليها شبح الموت ويقتنص كل يوم ما طالته يداه من جثث فارقتها الحياة بعدما فرغت بطونها ، ولكنه يرسلها لدعم المدرسة التي أنشأها لطرد شبح الأمية عن أبناء بلدته وتحفيظ ابنائها آيات الله لعلهم يكافحون شبح الفقر بالاستعانة بالخالق والتسلح بسيف العلم.
لا تنخدع بمظهره ولحيته وأسلوب عيشه ، الذي قد يصنفه وبسهولة في خانة رجل دين متطرف يصح دون تردد إطلاق لقب " إرهابي "عليه ، صحيح ان حسن متمسك بدينه وحامل لكتاب الله في جيبه طوال الوقت ، وصحيح أيضا أنه لا يقطع فرض صلاة أو فريضة صيام ، إلا أنه إنسان عادي مظلوم كغيره من أبناء جنسيته الذين يعاملون كمجرد خدم ، وعليهم السمع والطاعة .
يحفظ القرآن ويفهمه جيدا ويفسر آياته ويشرحها بكل ثقة ، ولكل سؤال لديه جواب عليه من خلال آية يتلوها على مسامعك.
وما زلت أذكر جيدا ذلك اليوم الذي تجرأت فيه على العبث معه والاستخفاف به والاستهتار بعدم فهمه لكلامنا ولغتنا ، وما زلت حتى اليوم أطأطئ رأسي كلما مر من أمامي خجلا من كلامه لي الذي وضعني في خانة المغفلين والطفل الغبي الساذج .
كنت استغل تدينه وأحضه على وصف وكيله بالظالم الذي ينتظره عذاب الجحيم ، فرد علي بآية تحمل ما تحمله من السماح وتلقي على عاتق الخالق وصف العباد وتحديد مصيرهم .إنه مؤمن غريب ومسالم عجيب.عنيد هو حسن ، مقتنع بصوابية عمله وما ينتظره يوم لقاء ربه ، عاملا بنصيحة نيتشه ..." سأشق طريقي إذا لم أجده "مسامحا كريما لا يعرف الندم أو التردد متبعا مقولة نجيب محفوظ " الملتفت لا يصل ".
وما زلت حتى اليوم العن ضعفي لحظة منعت نفسي من الانقضاض على السيد " الوكيل " عندما أقدم على شتم حسن ، لا لشيء وانما لأنه سال احدنا عن كلمة عربية يحاول تهجئتها .. وما زلت أستغرب موقف حسن الذي وقف بقامته الهزيلة يتلقى سيل الشتائم التي انهمرت عليه ليفاجئنا جميعا برده المعتاد .. " السلام عليكم "مع ابتسامة مرسومة على شفتيه . لم تكن ابتسامة خوف بل كانت حبا غير مبرر .ومع الأسف لم تفلح تلك الابتسامة الطيبة ولا ذلك السلام من إثناء ذلك "الوكيل" من تسليط سوط العقاب على راتب حسن الشهري الذي خصم منه النصف لمجرد انه كان يبحث عن معنى كلمة . وما فاجأني أكثر هو جوابه بعربيته " المكسرة" على عكس روحه " أنا ما في يحكي ..أنا نفر كويس ..وهو الله يعلم ..الحمد لله " .وتابع حسن توزيعه لابتساماته ودعواته وسلامه يمينا ويسارا ، ولم يتخلص من حبات حبه ينثرها في الهواء . بل ما زال كل يوم يستقبلنا ويستقبل الوكيل بابتسامة عريضة وحب كبير لا يزال يقدمه مع كل فنجان شاي ثمنه بضع صيحات غضب ممزوجة بحفنة من السخرية.
.
ما زال حسن يمسك بممسحته ويمسح بها بلاط قلوبنا ليزيل عنها الأوساخ والعفن الذي حولها إلى مضخات دم لا إحساس فيها. لعل هذه القلوب لن تنظف ولعل حسن واحد لا يكفي لهذه المهمة المستحيلة. لا أعلم ما المطلوب ولكن ما أعلمه هو أن نبع الحب عند حسن لا ينضب أبدا ، ربما " تهترئ " ممسحة حسن قبل أن تنظف عقولنا الصدئة ولكنه لن يوقفه إلا عزرائيل أو ختم الخروج النهائي ولن تسمعه عندها يقول غير الحمد لله..