وليد عنتر : تتغير العصور وتتعاقب الأجيال وتتداخل الحضارات والثقافات، ويعتمد هذا التغير في حركته الديناميكية التاريخية على قدرة كل عصر في تثبيت أركان دولته ووضع أساسات حضارته وبناء ثقافته الخاصة، التي تلبسه ثوب التفرد والتميز وتؤطره بإطار من الخصوصية . هذه الخصوصية التي من شأنها جذب الكثير من البشر على تنوعهم الثقافي والعرقي والإثني للدوران في فلك هذا العصر ومعطياته الحديثة، من خلال إعادة صياغة بعض الأنماط والملامح الأساسية لمخطط الحياة المعتمد مسبقاً من العصور السابقة. وبموافقة ومباركة بني البشر، تترسخ مفاهيم وأطر جديدة لشكل وأسلوب الحياةو تتماشى مع روح هذا العصر ومتطلباته ومتغيراته المتلاحقة. وكالعادة.. يحمل العصر أو الحقبة الزمنية المعينة اسم أشهر اختراع أو ابتكار ساهم في إضافة رصيد جديد للعلوم والثقافة البشرية، وأعطى لهذا العصر لوناً ونكهة مميزة. فمع بزوغ نجم عصر الثورة الصناعية سيطرت أفكار الاكتفاء الذاتي والمشاركة الجماعية وترسخت المبادئ الاشتراكية، وتحسنت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لطبقة العمال کالبروليتاريا التي لعبت دوراً أكبر في هذه الحقبة، وتقدمت بخطى سريعة إلى الصفوف الأمامية في المجتمع، كما زادت أهمية العمل في ظل المؤسسات الحكومية والقطاع العام مع تواري دور القطاع الخاص. ثم لم يلبث أن انطلق عصر الذرة، بسيئاته وحسناته، فولدت مبادئ الهيمنة والتكتلات العسكرية والسياسية والاقتصادية، التي جعلت من قانون الغاب دستوراً لها، مما نجم عنه الكثير من الحروب
والصراعات، وبرزت المبادئ الرأسمالية التي عززت انسحاب الفرد من المجتمع المترابط إلى المبادرة الفردية أو الحرية الفردية، وأتاحت حرية التملك والعمل وانتقال رأس المال، وأوجدت صيغة جديدة لمفهوم الكفاءة والاستحقاق بحيث يأخذ كل فرد بقدر ما يعطي.
وبلا منازع.. وكما يشهد التاريخ ويؤكد الكثير من العلماء تربع عصر الحاسب الآلي والتطور العلمي على قمة العصور البشرية لإسهاماته الكبيرة والمتنوعة في إضافة رصيد هائل من العلم والثقافة إلى ذاكرة الحضارة الإنسانية، حيث يعتبر من أكثر العصور التي شهدت اكتشافات علمية واختراعات مهمة على كافة الأصعدة والميادين. وتبلورت من خلاله ثقافة الكمبيوتر التي غيرت شكل الحياة على الأرض ليعتمد الأفراد والمؤسسات بشكل رئيسي على الحاسب الآلي في إدارة وتنفيذ الكثير من الأعمال في شتى المجالات. وقبل أن يخطو القرن الواحد والعشرون أولى خطواته في طريق الحضارة البشرية، ومع نهاية القرن العشرين الذي فتح الباب على مصراعيه ليدخل البشر ساحة التقدم والتطور العلمي والتقني، تغير اسم كوكب الأرض ليحمل اسم القرية الكونية على يد عصر العولمة أو ثورة الاتصالات أو الإنترنت.
هذا العصر الذي شهد، وما زال، طفرة غير مسبوقة في دنيا الاتصالات والإعلام بكافة وسائله المتطورة بسرعة الصاروخ، ساهم في أن تصبح وسائل الإعلام في قمة تألقها، وفي أوج قوتها وتقدمها نتيجة للتكنولوجيا الرقمية. هذا ليس كل شيء فقد تلاشت الحدود الجغرافية وذابت الفواصل المكانية وانسابت الأمواج الحضارية لتعمق مفهوم حوار الحضارات. ولكن الملاحظ أن هذه الأمواج دائماً ما تحركها رياح اتجاهها غربي شرقي، وغالباً ما تكون عاتية ومحملة بالأعاصير المدمرة، ولا تتأثر بل لا تسمح لرياح من أي جهة بأن تؤثر فيها وتغير من اتجاهها الثابت، الذي يبدو في الأفق المعتم والمستقبل المظلم أنه لن يتغير إلا بأعجوبة.
وأحال هذا الزمن إلى الرفوف البالية في سجلات التاريخ ما كان يسمى الهوية الثقافية والانتماءات القومية، في مقابل صعود مكوكي للغربنة، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط القرية الكونية في براثن القطب الأوحد الولايات المتحدة.
ولعل الهوة بين الهوية والوطنية وبين العالمية مازالت بعيدة جدا، رغم المحاولات المستميتة من قبل بعض الدوائر السياسية والاقتصادية العالمية طمس ملامح الهويات وتشويه صورة الانتماءات والقوميات باستخدامها كافة الوسائل الشرعية وغير الشرعية، ولا سيما وسائل الاتصال الحديثة التي دأبت على توثيق النمط الغربي واعتباره النمط العالمي المثالي للحياة البشرية. فأغلب مواقع الإنترنت تتحدث الإنجليزية وإدارة الإنترنت والشركات العاملة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات شركات غربية بالإضافة للفضائيات الغربية والعربية المتغربنة، وما خفي كان أعظم، فهل تستطيع الخصوصيات والخلفيات الثقافية لكل دولة ومجتمع الصمود أمام هذه التيارات الجارفة؟..