البحث عن طريق ثالثة

في البلاد الّتي تتّبع النّظام الدّيمقراطي، حيث يتمّ فيها تداول السّلطة عبر صناديق الإقتراع، يمكن من النّاحية المبدئيّة وضع الأنظمة والشّعوب في هذه البلاد في سلّة واحدة. إذ أنّ الشّعوب تنتخب ممثّليها وحكوماتها بشكلّ حرّ تقريبًا، والقضيّة هي قضيّة نسبيّة في النّهاية إذ يمكن استبدال الحكومات دوريًّا كلّ بضع سنوات إذا شاء النّاخب ذلك طبعًا. ورغم ما قد يُنسَب إلى النّظام الدّيمقراطي من جوانب سلبيّة أحيانًا، إلاّ أنّ المجتمع البشري على العموم لم يصل بعد إلى صيغة مدنيّة أفضل من هذه الصّيغة. والواضح أيضًا هو أنّ البلاد الّتي تتّخذ هذا النّهج هي البلاد الّتي تتطوّر على جميع الأصعدة. وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا نرى أنّ الصّيغ الأخرى قد أثبتت فشلها في جميع المجالات وفي جميع البلدان. ولـمّا أنّا مهمومون بالأقربين، وهم أولى بالمعروف كما ورد في الكلام المأثور، فيعرف الجميع أنّّه لم يتمّ تبنّى النّهج الدّيمقراطي في أيّ من بلاد العرب.
هنالك أسباب كثيرة لهذا الوضع المأساوي، غير أنّنا يمكن أن نُجمل هذه الأسباب في نهجين اثنين كلاهما يوصل إلى طريق مسدودة. النّهج الأول هو النّهج القبلي العربي وهو سابق للإسلام ومناقض له في جوانب كثيرة. فقد حاول الإسلام منذ البداية القضاء على هذا النّهج فأفلح مدّة وجيزة فقط، ولكن سرعان ما ثارت النّعرات القبليّة المتجذّرة في المجتمعات العربيّة التي قبلت الإسلام. نستطيع أن نسمع أصداء هذا التّوتّر القائم بين النّهجين وهي تتردّد منذ فجر الإسلام على لسان الرّسول العربيّ: »من كان في قلبه حبّة من خردل عصبيّة بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة«. من هذه الأقوال ومن غيرها لاحقًا نفهم أنّه سرعان ما وجدت هذه النّعرات القبليّة طريقها إلى الفقه السّياسي فجيّرته لصالحها، وصار الصّراع على الخلافة صراعًا قبليًّا بحتًا مدعومًا بروايات صحيحة ومدسوسة من قبل علماء القبائل، فتجذّرت بذلك العقيدة القبليّة وصارت جزءًا لا يتجزّأ من العقيدة الدّينيّة في المجتمعات الإسلاميّة. وعلماء القبائل هؤلاء في الماضي لا يختلفون في عصرنا هذا عن علماء دور الإفتاء السّلطويّة في الممالك والجمهوريات الوراثية العربيّة.
القرون الماضية لم تشهد ثورة حقيقيّة في الفكر العربي الإسلامي، بل على العكس من ذلك فقد استمرّ النّهجان في توتير المجتمعات العربيّة، بحيث يُحيّدُ كلّ نهج منهما الآخر وتبقى الشعوب العربيّة في خانة الجمود والرّكود لا تستطيع الفكاك منها. في حال كهذه، آن الأوان للبحث عن طريق ثالثة، ولكي يُكتب لهذه الطّريق النّجاح عليها أن تكون نابعة من صميم المجتمعات العربيّة والحضارة الإسلاميّة. لا يمكن استيراد هذه الطّريق من مكان آخر، بل يجب على النّخب العربيّة بلورتها من داخل المجتمع العربي والإسلامي.
من أجل الوصول إلى هذه الطّريق واجب على النّخب الفكريّة العربيّة العلمانيّة واللّيبراليّة أن تدعو إلى تعميق دراسة التّراث العربي والإسلامي، وأن لا تبقيه حكرًا على المشيخات. هنالك حاجة قصوى لدى العلمانيين واللّيبرالبيين أن يغرسوا في الأجيال العربيّة الجديدة معرفة عميقة عن الإسلام الحضاري، أي إلى تعميق المعرفة بكلّ الأطياف العقائديّة والفلسفيّة دون حذف وشطب، أو إعمال رقابة على هذه الأطياف الكثيرة والمتنوّعة. في الحضارة الإسلاميّة الكثير الكثير ممّا يدفع العقل إلى التّحرّر من كلّ ما هو متخلّف فكريًّا، وفيها الكثير من الفلسفة والمنطق والكلام، وفيها الكثير من التّناقضات أيضًا، وكلّ هذه هي الحضارة العربيّة، ولا فضل لواحدة على الأخرى، أي لا فضل للنّقل على العقل.
الملاحَظ في العقود الأخيرة أنّ الأجيال العربيّة الجديدة لا تقرأ الإسلام إنّما تسمعه عبر أشرطة وتسجيلات وما إلى ذلك من إسلام شعبي وفولكلوري. يجب التأكيد على القراءة المتعمّقة لجميع الأطياف في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إذ أنّ بداية هذه الدّعوة المتجدّدة يجب أن تكون: اقرأ. إذ أنّ القراءة هي تفعيل للعقل بينما الإستماع للتّسجيلات ومشاهدة الشّاشات هي تخبيل لهذا العقل تصل درجة التّهبيل.
ومع هذه الدّعوة إلى تعميق المعرفة بالحضارة العربيّة الإسلاميّة يجب أن يُضاف إليها دعوة أخرى هي الدّعوة إلى فصل الدّين عن الدّولة في البلاد العربيّة. هنالك نقطة في غاية الأهميّة تخصّ العالم العربيّ، ودون التّطرّق إليها بوضوح وجهرًا لا يمكن الوصول إلى إجابات وافية. الحكّام العرب أجمعين ليسوا بأيّ حال من الأحوال علمانيّين، كما قد يزعم البعض، بل على العكس من ذلك. إنّهم في قرارات أنفسهم يمتازون بعقدة نقص أمام كلّ ما هو دينيّ أو يمتّ إلى الدّين بصلة. خلال عقود من الزّمن، لم تأت هذه الأنظمة القوميّة العربيّة بأيّ نتائج ملموسة يشعر بها الفرد العربي. لا الديمقراطيّة جاءت مع هذه الأنظمة ولا الإزدهار الإقتصادي. خلال عقود من الزّمن القومي تمّ القضاء على كلّ ما هو منفتح في حضارة العرب. لقد تركت هذه الأنظمة متنفسًا واحدًا لكلّ أولئك الّذين يبحثون عن مخارج من هذا الوضع. هذا المتنفس الوحيد هو الدّين والمساجد. ولكون الحكّام مرضى بعقدة النّقص هذه أمام الدّين ورجاله، فقد وجد كلّ معارض للسّلطات أنّ في المساجد متاريس تقيه من عسف السّلطة. وهكذا انحرفت كلّ المعارضات العربيّة تقريبًا إلى المساجد، أو إلى الهجرة القسريّة إلى البلدان الغربيّة بينما الحكّام المستبدّون، الّذين لا يُستبدلون، يسيطرون على وسائل الإعلام وكنوز الشّعوب ومصائرها المشؤومة.
بالإمكان الخروج من هذا المأزق، لكن من أجل ذلك يجب على النّخب العربيّة أن تتحمّل مسؤوليّتها الأخلاقيّة تجاه شعوبها، تجاه الإنسان العربيّ المغلوب على أمره. يكفي أن نذكّر كلّ هؤلاء بأقوال علي بن أبي طالب: »إنّ اللّه يعذّب طوائف ستًّا بأمور ستّة: أهل البوادي بالعصبيّة وأهل القرى بالكبر والأمراء بالظّلم والفقهاء بالحسد والتّجّار بالخيانة وأهل الرّساتيق بالجهل«. وما أقوال عليّ بن أبي طالب هذه سوى تعبير حيّ عن حال العالم العربي الميّت في هذا العصر.

نشرت في إيلاف

ميكروكوسموس

في بحر هذا العام تطرّقت في أكثر من مناسبة إلى إشكاليّات الهويّة الّتي هي من نصيبنا نحن العرب في هذا المشرق. وقد ذكرت في مقالة سابقة حدّيْن اثنين هما من مميّزات الشّعب الواحد. الحدّ الأوّل هو حدّ الحياة، والحدّ الثّاني هو حدّ الممات. أي أنّه حينما لا يقبل أبناء ما يُسمّى لدينا بالشّعب الواحد لا الشّعبين بحدّ الحياة المشتركة بين أفراده من رجال ونساء، وإنّما تبقى هذه القضيّة منحصرة في أبناء الطّائفة الواحدة فلا يمكننا إلاّ أن نبدأ بالتّشكيك في هذه المقولات. حيث أنّ حدّ الحياة المشتركة يقتصر على أبناء الطائفة الواحدة على أساس دينيّ مذهبيّ. وإذا كُنّا نشهد في بعض الأحيان خروجًا على هذه القواعد فإنّ هذا الخروج ما زال هو الشّاذّ الّذي يؤكّد على القاعدة. أمّا الحدّ الثاني، حدّ الممات، فهو أيضًا لا يختلفُ عن الحدّ الأوّل، بل ربّما هو مغلق بصورة أكثر إحكامًا وليس عنه خروج بأيّ حال من الأحوال. فهل يمكننا أن نتحدّث عن شعب واحد إذا كُنّا نفصل بين أفراد »الشّعب الواحد« بعد أن يقضوا نحبهم. هل هنالك مقبرة واحدة تجمع أبناء الشّعب الواحد دون النّظر إلى الخلفيّة الدينيّة الّتي ينتمي إليها الفقيد. الجواب معروف لديكم. كُنتُ قد أثرت هذه القضيّة في الماضي، ولكنّها لم تلاق أيّ ردود فعل، لأنّي أعتقد أنّ القائمين على اتّخاذ خطوات عمليّة لذلك يخشون حتّى من إدراج هذه المسألة على بساط البحث.
ولكنّ القضيّة أعمق حتّى من ذلك بكثير. وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة، حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية. وفي الكثير من الإحيان يتّضح أنّ التّعريفات المعهودة لا تنطبق على الشّعوب العربيّة، وهنالك حاجة إلى إعادة النّظر في كلّ هذه الطّروحات الّتي لم تفِ بما غاءت إليه. بل في الكثير من الأحيان نقرأ ونسمع عن أمور تقلب جميع هذه المفاهيم رأسًا على عقب. فهل نواجه هذه الحقائق بكلّ ما نملك من صراحة أم سنستمرّ في دسّ رؤوسنا في الرّمال؟ والمثال الّذي سأورده هنا هو الاستطلاع الّذي جرى في كفر برا قد جاء ليؤكّد كلّ ما أرمي إليه من طروحات.
فماذا جرى في كفر برا؟
نشرت صحيفة كلّ العرب في الأسبوع الفائت خبرًا مفاده أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد أجرى مؤخّرًا استفتاء لاستطلاع الرأي حول السّماح للسيّد عصام أبو حجلة، وهو من سكّان جلجوليّة ومتزوّج من امرأة من سكّان كفر برا، بالسّكن في قرية كفر برا على قطعة أرض كانت السيّدة المذكورة قد ورثتها من أهلها. لقد اشتمل الاستفتاء على الأسئلة التّالية الّتي سأعيد ذكرها هنا لأهميّة ما تنطوي عليه: فالسؤال الأوّل: هل توافق على دخول الغرباء لقرية كفر برا؟ والسؤال الثاني: هل توافق على عودة نساء كفر برا المتزوّجات خارج القرية مع أزواجهنّ؟ والسّؤال الثالث: هل يشمل هذا عصام أبو حجلة؟
أمّا النتائج فكانت كالتّالي: 188 صوتًا ضدّ السّماح له بالسكن في كفر برا، بينما صوّت تسعة أشخاص فقط لصالحه، وامتنع ثلاثة عن الادلاء برأيهم.
هل يمكننا أن نمرّ على كلّ هذا مرّ الكرام؟ أم أنّ واجبنا رفض جميع هذه الظّواهر واقتلاعها من جذورها. بنظرة أولى، يبدو أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد خرق القانون في تصرّفه هذا وما على السيّد عصام أبو حجله إلاّ أن يقدّم شكوى ويقاضي مجلس كفر برا أمام القانون.
ولكنّ القضيّة ليست قضيّة قانونيّة فحسب. وإنّما القضيّة الجوهريّة هي قضيّة الهويّة القوميّة بشكل عام. ولو كانت القضيّة محليّة لما تطرّقنا إلىها، ولكنّى أعتقد أنّ هذه المسألة هي مسألة جوهريّة تستقي من جذور عميقة ضاربة في التّاريخ العربيّ. لذلك، فكفر برا في هذه القضيّة هي ميكروكوسموس يمكننا من خلاله النّظر بجديّة إلى هذه القضيّة وأبعادها العامّة الّتي تمكّننا من التّعرف على حقائق مزمنة في المشرق والمغرب العربيين. يتّضح ممّا جرى في كفر برا أنّه حتّى الخلفيّة الدّينيّة لا تكفي للهويّة، فلا شكّ أنّ السيّد عصام أبو حجلة مسلم دينًا، كما أنّه على ما أعلم فإنّ كفر برا هي قرية إسلاميّة كذلك، بل وأكثر من ذلك فإنّ رئيس مجلسها هو من الحركة الإسلاميّة على ما أظنّ. ولكن وعلى الرّغم من ذلك لم تكفِ هذه الحقيقة لكي يتشكّل جمهور واحد، بل برزت إلى السّطح تلك النّعرات القبليّة المتحكّمة في الذّهن العربيّ والّتي لم يُفلح بعد منها فكاكًا. فإذا كانت هذه هي الحقيقة بين أفراد طائفة واحدة، فكم بالحريّ لو أنّ السيّد عصام أبو حجلة كان مسيحيّا أو درزيًّا. أنتم تعرفون الإجابة.
في الأسئلة الّتي طُرحت على سكّان كفر برا تكمن الإجابة على جميع ما أرمي إليه. فالهويّة الأكثر تجذّرًا في الذّهن العربيّ هي الهويّة القبليّة الّتي لم تقو المبادئ الدينيّة حتّى على اقتلاعها. فمصطلح »الغرباء« الّذي اشتمل عليه الاستطلاع في كفر برا ينسحب على كلّ من ليس مواطنًا من القبائل الّتي تتألّف منها قرية كفر برا بالولادة، حتى وإن كان من أبناء نفس الشّعب ونفس المعتقد الديني. والوجه الآخر لهذه العملة المهترئة هو أنّ جمهور النّساء بعد الزّواج يخرج خارج حدود القبيلة وبذلك يفقد حقّه في الانضواء تحت راية الشّعب الواحد والبلد الواحد. هكذا تتحوّل المرأة إلى قبيلة أخرى تفقد حقّها حتّى في العيش في مسقط رأسها مع زوجها وأولادها.
إزاء كلّ هذه الحقائق الآنفة الذّكر، هل يمكننا أن نستمرّ في التّصريح بوحدة الشّعب. الحقيقة هي كما ترون. وكفر برا لا تختلف عن سائر القرى والمواقع في هذا المشرق العربيّ. بعد ما جرى في كفر برا فإنّ الحديث عن هويّة واحدة لشعب عربيّ واحد سيكون مجرّد هراء في هراء. أمّا إن كان لديكم تفسير آخر فهاتوه.

كلّ العرب، النّاصرة: 1994


ظواهر الشّرف وبواطن القرف

لمّا كان الإنسان العربيّ لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة. والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة وطائفيّة.
في الكثير الكثير من الأحيان نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من الأقنعة الشفّافة والكاذبة.
والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث، ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع أفرادها منذ سنّ مبكّرة.
وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف نابعين من ذاته.
وحينما يكون الرّجل العربيّ بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول الحفاظ عليهما في الـ»آخر« الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل، والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه، ليس من جنسه.
والدّجل السّافر في هذا الموضوع، هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ»أنا« القبليّة. أي أنّ الرّجل العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة. وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ»ليس منه« هو هذه الحلقة القبليّة الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.
ليس صدفة أن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.
هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي، في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟
المجتمعات العربيّة بحاجة إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة، بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.
قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله. فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة، هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة بنوع من التفهّم.
وهذا الرّجل العربيّ المكبوت نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه. فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.
والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.
إنّ تحرير الرّجل العربيّ من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر، وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.


كلّ العرب، النّاصرة: يوليو 1994


شعب واحد أم تشعّبات؟

قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته. ربّما كانت جميع هذه الشّعارات تعبّر عن مطمح ما لرافعيها، لكنّ إطلاق الشّعار شيء وما يجري على أرض الواقع هو شيء آخر مغاير تمامًا إن لم يكن يقف في نقيض مدلولات هذه الشّعارات.
كما نستطيع، نحن العرب، على سائر مللنا ونحلنا، التّرويج إلى ما لا نهاية لهذه المقولات الّتي تنفع لوسائل الإعلام مستندين إلى دعامة البلاغة العربيّة الواضحة. غير أنّ البلاغة وحدها لا تكفي ولم تكن في أيّ آن لتكفي من أجل بلورة مجموعة سكّانيّة تُطلق على نفسها اسم الشّعب الواحد.
ثمّ، هل بوسعنا، نحن أصحاب الأقلام العرب تطليق النّهج القديم من التّفكير الّذي كان همّه الوحيد تملّق الرأي العام وتملّق الشّارع بغية الرّكوب على موجة مؤقّتة ما تلبث أن تتحطّم على شواطئ الواقع الّذي نعيش فيه. هل بوسعنا إثارة التّساؤلات الحقيقيّة وعرض الأمور كما هي دون محاولة تجميلها بوسائل مصطنعة. ثمّ هل تكفي تلك المساحيق ومستحضرات التّجميل للتّستّر على وجهنا الدّميم إلى حدّ الشّناعة. ثُمّ ألم يأت الأوان لكي ننظر كلّ في قرارة نفسه إلى كلّ هذه الأوبئة الّتي تنخر عظامنا دون أن نجد ما يكفي من الشّجاعة لكشف هذه الشّناعة.
ومجتمعنا هذا مليء بالأوبئة الاجتماعيّة غير أنّنا لا نزال ندسّ رؤوسنا في الرّمال ظانّين أن العالم لا يرى ولا يعي ما يجري بين ظهرانينا. فالعنف ضدّ الأولاد وضدّ النّساء يكاد يملأ كلّ حارة وكلّ بيت، والاعتداءات الجنسيّة داخل العائلة الواحدة بدأت تتكشّف رويدًا رويدًا. وبدل البحث في الجذور الّتي توصل إلى هذه الأوضاع، نستمرّ في رفع شعارات الشّهامة الزّائفة. قد يظنّ البعض أنّ الاحتلال هو السّبب لكلّ هذه الظّواهر، غير أنّ الحقيقة غير ذلك. كلّ من يلقي مسؤوليّة هذه الأمور على عاتق الاحتلال وعلى عاتق الإمپرياليّة وعلى عاتق التّلفزيون هو في الحقيقة لا يريد النّظر إلى قرارة نفسه، كما لم يعقد النيّة على تغيير شيء من مفاهيمه الزّائفة الّتي لا ترتكز على شيء سوى البلاغة، وفي الحقيقة فإنّ الصّمت المطبق حول كلّ ما يتعلّق بهذه الظّواهر هو في النّهاية ينصبّ في خانة المسؤوليّة عن هذا الوضع.
لقد حاول الإسلام منذ نشأته القضاء على العقليّة القبليّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ، ولفترة ما قصيرة أفلح في الوصول إلى مجتمع ودولة بلغت من الازدهار مبلغًا كبيرًا، ولكن ومع مرور عقود قليلة من الزّمن، وفي الحقيقة منذ اللّحظة الأولى لوفاة الرّسول العربيّ، ثارت من جديد تلك النّوازع القبليّة الأمر الّذي أدّى في النّهاية إلى انحطاط الدّولة.
لم يتغيّر شيء في الذّهن العربيّ منذ الجاهليّة الجهلاء. فالوحدة السياسيّة الفاعلة في هذا المجتمع لا تزال إلى يومنا هذا هي وحدة القبيلة، والعشيرة، والحمولة والعائلة. أيّ أنّ ما يميّز العلاقات بين النّاس هو ذلك الرّباط القبليّ الّذي لم يستطع المجتمع العربيّ الفكاك منه حتّى الآن. وإذا كانت هذه هي الحال فكيف بنا إذا نظرنا إلى تلك التّشعّبات المرتكزة على أساس مذهبّي ديني.
خلال عقود من الزّمن يعيش العرب الفلسطينيّون داخل إسرائيل، ودون النّظر إلى الوضع الّذي يعيشون فيه، لكن هنالك إشارة لا بدّ منها. وهي أنّ هؤلاء استمرّوا في العيش ضمن هذه الحدود القبليّة والطّائفيّة، وما تلك النّزاعات الطّائفية والعائليّة القائمة في القرى والبلدات العربيّة داخل إسرائيل سوى مؤشّر على أنّ القبليّة هي جزء من هذا الذّهن الّذي شلّ أصحابه.
وإذا ظنّ البعض أنّ الوضع في المناطق المحتلّة أفضل من ذلك فهو على خطأ فادح. إنّ من يتصفّح الصّحف الفلسطينيّة الصّادرة في المناطق المحتلّة لا شكّ أنّه يلاحظ تلك الإعلانات العشائريّة الّتي تملأها. والسّؤال الّذي يتبادر إلى الأذهان لماذا لم تستطع الانتفاضة خلال عقد من الزّمن خلق مجتمع واحد. ثمّ أليس من حقّنا أن نتساءل كيف آل الوضع لدى هذا الشّعب إلى إفراز عشرات الآلاف من العملاء، وهي ظاهرة فريدة لم تحصل لدى شعوب أخرى وبهذه النّسبة.
السّبب في ذلك هو أنّنا نفهم معنى الشّعب على أنّه القبيلة ليس إلاّ، ولذلك فالتّضامن مع القبائل الأخرى هو بمثابة تضامن مع شعوب أخرى. وهذا التّضامن يخضع فقط للمصالح القبليّة الضيّقة. فكيف بنا إذن، إذا تحدّثنا عن طوائف دينيّة مختلفة.
خلال عقود طويلة قدّم »الشّعب« الفلسطيني قافلة طويلة من الشّهداء على مذبح نضاله من أجل حرّيته. وهؤلاء الشّهداء جاؤوا من جميع القبائل والطّوائف الّتي يتألّف منها الشّعب الفلسطينيّ. وعلى الرّغم من هذه الحقيقة لم يُفلح الشّعب حتّى في لحظات الموت في خلق هويّة جديدة تعبّر عن هذه الفسيفساء التّعدديّة، بل وبدل ذلك كان يُدفن كلّ شهيد في مدافن القبيلة والطّائفة.
ولهذا أريد أن أؤكّد هنا أنّه قد آن الأوان إلى إيجاد مقبرة للشّهداء تضمّ الشّهداء دون فرق وتمييز في المعتقد الدّيني، وفقط من خلال ذلك يمكن الوصول إلى شعب واحد متجانس. وإن لم يحصل ذلك فسنظلّ في الطّور القبليّ ولن تغيّر الشّعارات الطنّانة شيئًا من هذا الواقع.
إنّ طبيعة الشّعب الفلسطيني المتكوّن من طوائف وملل مختلفة تفرض طريق العلمانيّة عليه، وبغير هذه الطّريق لن يصل إلى سواء السّبيل. وفوق كلّ ذلك يجب وضع الفرد في مقدّمة الأولويات، ذلك الفرد الخارج عن الإطار القبليّ والطّائفي. هذه فقط هي طريق الشّعوب الّتي سيكتب لها البقاء.

الحياة الجديدة، رام اللّه: ٩ يناير 1995

حريّة عبادة لا حريّة إبادة

إنّ الدّعوة الّتي أطلقها بسام أبو شريف في الأيّام الأخيرة والّتي تتلخّص بحظر نشاط الحركات الإسلاميّة في مناطق السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة هي دعوة جريئة يجدر الوقوف عندها قليلاً والتّفكّر في أبعادها.
هنالك أمور كثيرة نهج رجال الفكر العرب عدم التّطرّق إليها خلال العقود الماضية من قيام الدّولة/الدّول العربيّة الحديثة، بعد انحسار الاستعمار. لقد شكّلت الأنظمة العربية المستحدثة إطارًا قمعيًّا بدل أن تكون إطارًا يخلق في أجوائه الإنسان العربيّ الجديد. فلم تكن طبيعة تلك الأنظمة إلاّ طبيعة قبليّة تستمدّ قوّتها من تلك الّنزعة الضّيّقة الّتي لا تضع الإنسان الفرد في مقدّمة أولوياتها، بل ينصبّ كلّ همّها في الحفاظ على امتيازات الحاشية القريبة، من عسكر قبليّين ومن زمرة الموالي الموالين.
فمن جهة، ولمّا كانت جميع هذه الأنظمة لم تقدّم لأفراد شعوبها لا الإزدهار الاقتصادي، ولا الحريّات فقد سحبت البساط من تحت أرجلها. ومن جهة أخرى لمّا لم تقم بفصل الدّين عن الدّولة فقد تركت الباب مفتوحًا أمام كلّ معارض للوصول إلى المساجد، وهكذا تحوّلت المساجد إلى مخرج وحيد لكلّ من يودّ التّعبير عن استيائه، وفي نفس الوقت يرغب في البقاء على قيد الحياة بعيدًا عن غياهب غرف وسجون الأنظمة.
وهكذا، رويدًا رويدًا، وللتّدهور الخطير الّذي صار من نصيب الشّعوب العربيّة المغلوب على أمرها، بدأت تخرج شرارات العنف من داخل المساجد. وهكذا وكأنّ شيئًا لم يتغيّر عاد بنا هؤلاء إلى مقولات من عصور عربيّة غابرة. ولهذا تستغلّ الحركات الإسلاميّة كلّ ذلك لتطلق على الأوضاع العربيّة الرّاهنة مصطلح »الجاهليّة الجهلاء«. وقد يكون في بعض تلك المقولات بعض الصّدق ولكنّ البدائل الّتي تتطرحها تلك الحركات هي بدائل غيبيّة لم توصل الأمّة العربيّة ولا في يوم من الأيّام إلاّ إلى هزائم.
وهكذا، بدأ ينصبّ اهتمام تلك الحركات على العنف الجسديّ، ويكفي ما نرى وما نسمع عما يجري الجزائر ومصر وغيرها من الأصقاع العربيّة لكي نتوقّف قليلاً ونفكّر في أوضاعنا. لقد انتقلت العبادة من المسجد إلى الشّارع لتلبس عباءة الإبادة الجسديّة والرّوحيّة. هذا ما يجري في الجزائر من تصفيات لأدباء ومفكّرين وصحفيّين، وهذا ما حاوله أولئك في مصر بدءًا بفودة وانتهاءً بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ.
حينما تتحوّل المساجد، وللأسباب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحضاريّة، إلى لجان مركزيّة لأحزاب سياسيّة فإنّها بذلك تنفي أيّ انتماء آخر لأيّ فرد آخر مسلمًا كان أو غير مُسلم، ومن هنا تصبح الطّريق إلى التّصفية الجسديّة قصيرة.
وما الّذي فعله المفكّرون العرب، باستثناء قلّة قليلة، إزاء كلّ ذلك؟ لا شيء. فبدل أن يشكّلوا بوصلة أخلاقيّة لشعوبهم، تحوّلوا بفضل الأموال الّتي تُغدق عليهم، وفتات الاحترامات الّذي يُنثر على هاماتهم المُطأطئة، إلى قطعان تردّد مكارم أخلاق الحكّام التّعسّفيّين في جوقة لا تحول ولا تزول. وخلال كلّ ذلك كانت السّجون تمتلئ بكلّ من حاول التّصريح بالحقائق الدّامغة، والشّعوب ترزح في مجاعات ولم يبقَ لديها سبيل سوى التّفريخ الّذي يضاعف تلك المجاعات.
ومن هنا، فإنّ الدّعوة الّتي أطلقها بسام أبو شريف هي دعوة مهمّة، ويجب أن يرافقها تصوّر جديد للأوضاع الفلسطينيّة. فالحركات الإسلاميّة لا تعير أيّ اهتمام لقيام دولة وطنيّة، بل على العكس من ذلك فإنّها ترى في الدّولة عدوًّا لدعوتها، ومن هنا ولمّا كان الشّعب الفلسطينيّ يبحث عن حرّيته وعن استقلاله تأتي تلك الحركات لتعيق طريقه، وهذا ما هو حاصل على أرض الواقع على الرّغم من كلّ التّعقيدات الّتي تواكب الوضع الفلسطينيّ.
لقد كنت في الماضي نوّهت بالطّبيعة التّعدّدية الطّائفيّة للشّعب الفلسطينيّ، ولمّا كانت هذه هي طبيعة الشّعب فليس ثَمّ من طريق غير طريق العلمانيّة أمام هذا الشّعب إذا ودّ الحياة. ولهذا فإنّ السّبيل إلى الوصول إلى مجتمع فلسطينيّ متجانس تمرّ عبر طريق فصل الدّين عن الدّولة. إنّ حريّة العبادة هي حقّ لكلّ إنسان لا يمكن أن ينفيها عنه أيّ شخص. لكنّ حريّة العبادة يجب ألاّ تتحوّل بأيّ حال من الأحوال إلى حريّة إبادة. ولهذا فإنّ الحظر الّذي يجب أن يصدر فيترتّب عليه أن يكون حظر استخدام الدّين للأغراض السياسيّة، وبكلمات أخرى حظر الأحزاب السياسيّة الّتي تستخدم الدّين برنامجًا سياسيًّا لها. لأنّ الدّين في النّهاية هو للّه بينما الوطن للجميع.
ألا هل بلّغت.

الحياة الجديدة، رام اللّه: ٠٣ يناير 1995


عن الوحدة العربيّة

قد يظنّ البعض أنّ مفهوم الوحدة العربيّة هو التّكاتف الّذي يجمع أبناءها. لكنّ الحقيقة أنّ مفهوم الوحدة هو شيء آخر، وهو في الواقع نقيض لهذا المفهوم السّائد. إنّ أهمّ ما يميّز الشّعوب المتطوّرة هو جعل الفرد في مقدّمة الأولويات. لكنّ الوضع العربي العام والفلسطيني على وجه الخصوص هو بخلاف ذلك تمامًا. ولكي يفهم القارئ العربيّ إشكالات هذا الوضع فهو ليس ملزمًا بالبحث والتّمحيص كثيرًا، بل بدل ذلك، ما عليه إلاّ أن يلتقط مثالاً صغيرًا من بيئته القريبة، فكلّ مثال يضع إصبعه عليه بوسعه من خلاله أن يخرج بنظريّة تلائم الوضع العربيّ من المحيط الفاتر إلى الخليج الخاسر.
في القديم تحدّث الفلاسفة عن الإنسان بصفته عالمًا صغيرًا، أي ميكروكوسموس للعالم أي الكون -الكوسموس- الكبير. ومن هنا، فإنّ كلّ قرية عربيّة أو مدينة في هذا الوطن إنّما هي ميكروكوسموس أو عالم صغير يمكننا إذا أمعنّا النّظر فيها أن نشاهد العالم العربيّ بأكمله.
يحاول بعض النّاس أحيانًا - ولا أستثني نفسي من ذلك - أن يتشبّث بحبال الرّيح معدّدًا الكرّات الكثيرة من الجماهير العربيّة، معلّلاً النّفس بإمكانيّة قيام وحدة عربيّة لها ميراث عريق ومستقبل زاهر، وهي طفرة يحاول من خلالها أن يسبح في فنطازيا من عالم آخر. لكنّ الحقيقة أنّ هذه الآلاف المؤلّفة والملايين المُليّنة من الأعراب ما هي إلاّ أمر خيالي لا يستند إلى أيّ أساس على أرض الواقع، لأنّ إجراء حساب بسيط يثبت بطلان هذه النّظرة.
فكيف، إذن، نجري هذا الحساب؟
أوّلاً، لنفترض أنّ ثَمّ عددًا معيّنًا، ولنقل مائتي مليون من العرب في هذا العالم. فهل هذا العدد هو عدد حقيقيّ أم أنّه مجرّد وهم؟
الإجابة على ذلك بسيطة. إنّه وهم كبير طالما ربينا عليه، وآن الأوان إلى فضحه. فكيفَ نفضحه إذن؟
إذا افترضنا أنّ ثَمّ عددًا متساويًا من الرّجال والنّساء فالحساب البسيط يكون مائة مليون رجل، ومثال ذلك من النّساء. ولمّا كانت المرأة في الوطن العربيّ معطّلة عمليًّا، أو هي كالعضو المشلول في الجسد، فلا يمكن حسابها بأيّ حال، إلاّ فيما ندر. ولذلك فإنّ ما يتبقّى هو مائة مليون من العرب. ولكن هل المائة المليون هؤلاء هم حقيقة أم خيال؟ إنّهم وهمٌ أيضًا. فإذا افترضنا أنّ الأمّيّة في الوطن العربي تبلغ ما يقارب التّسعين بالمائة، وهذه حقيقة أيضًا، فمعنى ذلك أنّ تسعين مليونًا من هؤلاء الرّجال يبذلون جلّ وقتهم في البحث عن طعام للفراخ، زغب الحواصل، الّذين لا يذهبون للمدارس بل يكبرون فقط لمجرّد التّفريخ هم أيضًا بغية استنساخ أنفسهم دونما جدوى.
إذن، ما تبقّى لدينا يشكّلون عشرة ملايين من الرّجال. وهؤلاء أيضًا هم وَهْمٌ كبير. هو وهمٌ لأنّ تسعًا وتسعين بالمائة من هؤلاء، أيّ تسعة ملايين وتسعمائة ألف رجل، منتظمون في أحزاب سلطويّة في هذا القطر أو ذاك، جلّ همّها ينصبّ على صبّ الماء على أيدي هذا الزّعيم الزّاعم والمزعوم، بغية الانتفاع بهذا الفتات أو ذاك، وابتغاء الاستمرار في استغلال ما سقط من أعداد فيما ذكرتُ أعلاه من حساب.
وهكذا بقي في أيدينا مائة ألف من العرب. فهل هؤلاء حقيقة؟
الجواب بالنّفي القاطع، يا عزيزي القارئ. ولا شكّ أنّك الآن تسأل لماذا؟ هل هؤلاء المائة ألف من المثقّفين العرب موجودن؟ طبعًا لأ. لأنّ تسعين بالمائة منهم، أي تسعين ألفًا، مهجّرون خارج أوطانهم وتفرّقوا في بلاد اللّه الواسعة، باستثناء بلاد العرب. وهكذا بقي عشرة آلاف في الوطن العربي، لكنّ تسعًا وتسعين بالمائة من هؤلاء، أي تسعة آلاف وتسعمائة شخص، قد انضمّوا إلى تنظيمات سلطويّة سخّرت هي الأخرى أقلامها لخدمة تلك الفئة المتسلّطة قسرًا في الأوطان العربيّة. بقي لدينا مائة من العرب. فماذا تفعل هذه المائة؟ تسعة وتسعون منهم، قد بلغ اليأس منهم مبلغًا شلّ حركاتهم فاعتزلوا إلى مكان بعيد عن الأنوار فلا تراهم إلاّ غبًّا.
وهكذا، لم يعد عزيزي القارئ المثابر لهذه الزّواية غيرك في هذا العالم العربيّ. وهذا هو المفهوم الحقيقي والعميق للوحدة العربيّة، ليس بمعنى التّكاتف، بل الحياة وحيدًا في هذا اليمّ من الأعراب الأشرار الممنوعين من الصّرف في بنوك العالم، المتشبّثين بعدم الإنصراف عن الأنظار.
فما عليك، عزيزي القارئ - وربّما قارئة -، إلاّ أن تبدأ/ئي كلّ شيء من البداية.

الحياة الجديدة، رام الله: ٥ حزيران 1995

راحت القدس

قد يظهر بعض النّفر من العرب على شاشات الفضائيّات وقد يسرح ويمرح متغنّيًا بالقدس وبما تمثّله في وجدان العرب والمسلمين. لكنّ الحقيقة تظلّ واضحة جليّة، وهي بخلاف ذلك تمامًا. فالعرب، على مللهم ونحلهم لم يهتمّوا بهذه المدينة أبدًا لا في غابر الزّمان ولا في هذا الأوان. فالجميع يتذكّر تلك الحملة الإعلاميّة الّتي نظّمتها محطّة الـ إم.بي.سي. وخلال يوم بثّ فضائي كامل لم تستطع المحطّة أن تجمع غير بعض الملايين من العربان من المحيط إلى الخليج. هذا الفتات الإعلامي العربي يتقزّم أمام تبرّع ثريّ يهودي واحد الّذي يتبرّع أكثر من الأمّة العربيّة مجتمعة. كلّ ذلك يعني شيئًا واحدًا وهو أنّ القضيّة تبقى قضيّة إطلاق شعارات لا تستند إلى واقع.
والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة، مثل بغداد؛ أو الشّام، أو القاهرة، حتّى في فلسطين ذاتها لم يعرها أهلها اهتمامًا يُذكر. ولا زلت أتذكّر حينما وصلت إلى القدس قادمًا من الجليل في بداية السبعينيّات، أي ثلاث سنين ونيّف بعد احتلال القسم الشرقي منها، كيف كانت هذه المدينة الّتي يتغنّى بها البعض. لقد رأيت الإهمال يعشّش في كلّ حارة فيها، وفي المدينة القديمة وحول الأسوار التّاريخيّة.
أمّا الآن، أيّها السّادة فقد تغيّر الوضع وتبدّل الزّمان، وعلى ما يبدو فلن تعود إلى سابق عهدها. وإذا تساءل أحد من النّاس من المسؤول عن ذلك فإنّي أقول، إنّه بالإضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي الّذي عمل طوال سنين على تكريس الاحتلال في القدس وضمّها على أرض الواقع، فالمسؤول الأهم في نظري هو هذه الأمّة المغلوب على أمرها من قبل حكّامها، ولا نستثني من ذلك الفلسطينيين على زعاماتهم طوال السّنين.
الضّجّة المفتعلة الّتي يقوم بها الإعلام العربي والفلسطيني بعامّة بين الفينة والأخرى عن مصادرات الأراضي في القدس المحتلّة، ما هي إلاّ »سحابة صيف عن قريب تقشّع«. كلّ هذا الضّجيج لا يُفضي إلى شيء، وهو يأتي فقط للتّرويح عن النّفس. هكذا تعلّمنا خلال فتح النّفق، وهو لا زال مفتوحًا، لعلمكم، وهكذا حصل في جبل أبو غنيم، وهكذا سيحصل مستقبلاً في أماكن أخرى. منذ العام 67 وإسرائيل هي الّتي تسيطر على القدس المحتلّة، ومنذ العام 67 وإسرائيل، على حكوماتها المتعاقبة من أحزاب عمل أو ليكود وسائر تقليعاتها الأخرى تعمل كلّ ما في وسعها لتغيير الميزان الديمچرافي، وتبديل الخطّ الطوبوچرافي للمدينة المحتلّة، والحقيقة الّتي يجب أن تُقال هي أنّها قد أفلحت في كلّ ذلك. وطوال هذه العقود الماضية لم تكن ردود فعل العرب والمسلمين إلاّ من قبيل دفع الضّرائب الكلاميّة، مطنطنة عن أهميّة القدس العربيّة وما إلى ذلك من كلام فارغ لا يستند إلى قاعدة شعبيّة. لم يكن إعلان المبادئ في أوسلو وما أعقبها من اتّفاقات تفريط إلاّ ليضع المسمار الأخير في تابوت المدينة العربيّة. إنّ من وقّع على تأجيل بحث قضيّة القدس، إضافة إلى تعليق القضايا الملحّة الأخرى إلى أجل غير مسمّى، بعد هذه العقود الطّويلة من الاحتلال يحصد الآن مغبّة ذلك. دهاقنة السّلطة مشغولون بفتح كازينو على تخوم مخيم لاجئين في أريحا أوّلاً. دهاقنة السّلطة الفلسطينيّة مشغولون بإجراء محاكم صوريّة لأفراد شرطة ومن ثمّ إعدامهم خلال ساعات، دون أن يُسمع صوت واحد شجاع ضدّ هذه الممارسات. وهكذا تمضي إسرائيل قدمًا في عقد الاتّفاقات مع السّلطة الفلسطينيّة حول تسليمها فتات سلطة في هذا الموقع أو ذاك مبقية قضيّة القدس واللاّجئين والمستوطنات خارج كلّ هذه الاتّفاقات. وحين تُكبّل السّلطة الفلسطينيّة نفسها بأغلال البنود المنصوصة، تبقى القدس وسائر القضايا خارج هذه اللّعبة - الفضيحة.
يجدر بنا أن نُذكّر القارئ العربي الفطن بجميع تلك الخطابات الرنّانة والتّعابير الّتي كانت تُكال على إسرائيل من لدن وسائل الإعلام الفلسطينيّة والعربيّة في الستّينات والسّبعينات. لا بدّ أنّ القارئ العربيّ الفطن يتذكّر أنّ إسرائيل كانت تُدعى في الإعلام العربي بأسماء مثل: "دولة العصابات"، أو "الكيان المزعوم" وما إلي ذلك من بلاغة عربيّة خرّبت بيوت العرب. إنّ ما يظهر على أرض الواقع الآن هو العكس تمامًا، فها هي السّلطة الفلسطينيّة قد حوّلت فلسطين نفسها إلى "كيان مزعوم" ، كما أنّها تتصرّف على الأرض كما لو كانت دولة عصابات. وهكذا ضُربت عرض الحائط تقارير الفساد الّتي صدرت عن مجلس تشريعي، وهكذا صارت "حكومة عرفات" بقدرة قادر أكبر عددًا من حكومات الدّول العظمى.
وهكذا وبعد هذه السّنوات الطّويلة صارت القدس، بهمّة العربان، قضيّة أماكن مقدّسة ليس إلاّ. وعلى ما يبدو فإنّ ما ستبقيه إسرائيل للفلسطينيّين والعرب والمسلمين هو تلك التلّة الّتي يقوم عليها الحرم القدسيّ الشّريف، لكن ليس إلى الأبد، بل فقط في هذه المرحلة التّاريخيّة. إنّ تحويل الخلاف إلى مسألة تتعلّق بالهيمنة على الأماكن الإسلاميّة المقدّسة في المدينة هو محاولة إسرائيليّة لسحب البساط من تحت أرجل المطلب الفلسطينيّ والعربيّ بشأن السّيادة السياسيّة في المدينة. بذلك تحوّلت القدس إلى مجرّد مدينة فيها أماكن مقدّسة إسلاميّة، ويتحوّل المطلب إلى المطالبة بحريّة الوصول إلى الأماكن المقدّسة لإقامة الصّلوات، وهذا بالضّبط ما تريده إسرائيل. فإسرائيل لا تنفيّ قدسيّة الأماكن الإسلاميّة، مع أنّ ثمّ تيّارات يمينيّة دينيّة يهوديّة تحلم بإقامة الهيكل الثّالث على أنقاض هذه الأماكن، ولكنّها مع ذلك تريد أن تبقى السّيطرة السّياسيّة على المدينة في أيديها إلى أبد الأبيد. وخلال هذه العقود الماضية من الاحتلال قامت إسرائيل بخلق وضع جديد في القدس العربيّة المحتلّة، حيث قامت بضمّ القدس ومناطق كبيرة تابعة للقرى االفلسطينيّة المحيطة بها وأجرت عليها القانون الإسرائيلي. وخلال هذه العقود أقامت الحارات الاستيطانيّة في منطقة القدس العربيّة المحتلّة الأمر الّذي غيّر من الميزان الديموچرافي في القدس المحتلّة. والآن وبعد سنين أصبح عدد السكّان اليهود في القدس المحتلّة أكبر من عدد السكّان العرب. وبعد وقت ليس بالطّويل لن يبقى هناك ما يُتفاوض عليه بشأن القدس. وخلال كلّ هذه العقود، لم يفطن العرب إلى ما يجري على أرض الواقع.
وإسرائيل لا تمضي قدمًا في ذلك إلاّ لعلمها أنّ العالم الغربيّ على جميع دوله وشعوبه يدعمها، أو على الأقلّ لا يعترض على هذا المخطّط. يجب ألاّ يغيب عن الأنظار أنّ العالم الغربيّ كما ذكرت أكثر من مرّة في الماضي لن يقوم بالضّغط على إسرائيل بأيّ حال من الأحوال لأسباب تاريخيّة تتعلّق بالعلاقة الجوهريّة العميقة الّتي تربط الغرب المسيحي بإسرائيل الممثّلة لليهوديّة الّتي هي الجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين. لن يقوم الغرب بالضغط على إسرائيل الممثّلة للجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين الّذين يشكّلون خطرًا على العالم الغربي المسيحي. نقطة.
يُطلق العربان شعارات عن كون القدس في الوجدان. أينَ تلك النّصوص الأدبيّة الّتي تُقيم القدس في الوجدان؟ الحقيقة أنّها معدومة تقريبًا. يجب أن نكفّ عن إطلاق مثل هذه الشّعارات. يجب أن نقول كلمتنا بصراحة، ودون مواربة، إنّ ما فعلته إسرائيل خلال عقود من احتلال المدينة يضاهي كلّ تلك القرون العربيّة الطويلة الّتي حكم فيها العرب والمسلمون هذه المدينة. هذه هي الحقيقة المرّة، ومن لا يرى هذه الحقيقة فقد ضلّ طريقه ولن يرى النّور في نهاية النّفق.

القدس العربي: 23 سبتمبر 1998

"وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلّها"

حينَ يُرزقُ زوج بطفل أو طفلة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى أذهان الوالدين هو الإسم الّذي سيرافقه ويرافقهما طوالَ حياته. في الكثير من الأحيان تُشغل مسألة الإسم بال الوالدين قبل الولادة وطوال فترة الحمل. الإسمُ هو الإنسان فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لا اسم له. لم أكن لأتطرّق إلى هذه المسألة لو لم تتحوّل في نظري إلى مأساة تنمّ عن ورمٍ خبيث آنَ الأوان لاستئصاله من جذوره حتّى لا تنمو لواحقه في أماكن أخرى تؤدّي إلى القضاء على جزء هامّ ممّا تبقّى من حيواتنا الآخذة في التقلُّص.
بعد مضيّ أيّام على الإنتفاضة المتجدّدة ضدّ ظلم الإحتلال الإسرائيلي، وبعد أن سقطت قافلة من الأرواح خلف أُفق لا ندري بعدُ ما يُخبّئ وراءه أودّ التّذكير، إن نفعت الذّكرى، بمسألة لم ينتبه إليها أحد، ولم يولها أحدٌ ما تستحقّ من اهتمام.
في غمرة هذه الإنتفاضة المتجدّدة جلستُ مع صديقين اثنين وكالعادة في مثل هذه السّاعات يدور الحديث على ما يجري. كانت المسألة الّتي تقضّ عليّ مضجعي مشغلة بالي كثيرًا، وقبل أنْ أثيرها نويتُ التّأكُّد من شيء، فسألتُ صديقيّ وهما فلسطينيٌّ وفلسطينيّة وطنيّان جدًّا جدًّا. سألتُهما: هل تعرفان ما اسمُ الفتى الفلسطيني الّذي هزتّ مشاهد مقتله العالَمَ بأسره؟ فلم يُحيرَا جوابًا. رأيت كيف ارتسمت علامات الحرج على وجهيهما، وبعد لحظاتٍ من الإرتباك، قال أحدهما، ليسَ مهمًّا الإسمُ. هكذا، وبكلّ بساطة.
لو كانَ الأمر مقتصرًا على فرد