مكتبة إيلاف: ـ مختارات شعرية

باسم المرعبي مواليد الديوانية ـ العراق. بدأ النشر أواسط السبعينات. درس المسرح في أكاديمية الفنون الجميلة ـ جامعة بغداد. كتب للمسرح وقد قُدم أول عمل له عام 1982، وهو "بيروت تغادرها النجوم"، عن الحرب الأهلية اللبنانية. صدرت مجموعته الأولى التي نالت جائزة يوسف الخال للشعر، عام 1988 في لندن. غادر العراق عام 1991 الى سورية ومن ثم الى لبنان حيث ساهم في الصحافة الثقافية كما في مجلة " الناقد" وملحق" النهار". يقيم في السويد منذ العام 1994.

القصيدة سؤال الشاعر أم إجابته؟

ـ هل القصيدة هي إجابة الشاعر على اسئلة الوجود؟
أم هي سؤاله الكبير يلقيه في وجه الحياة؟

كل قصيدة هي سؤال وإجابة،
كل قصيدة، في معناها العميق، هي مايُشبه حيرة النجوم في وجودها الأبدي الغامض...

أتذكر هذه الأسئلة من قصيدة كتبتها قبل فترة:

عقب كل قصيدة
تسألني امرأة غامضة:
مـَن أنت/ مـَن أنت

عقب كل قصيدة
اُسائل نفسي أو اُجيبها:
مـَن أنا/ مـَن أنا!

غير انّ مايعرفه الشاعر، يقيناً، هو خطورة خياره إزاء عالم يزداد توحشاً وضراوة.. إذ القصيدة عارية، قبالة كل ترسانات الرعب والإنحطاط والأسلحة. وبالقدر الذي تبدو فيه المعادلة مضطربة تماماً، غير انها في الوقت ذاته تشير إلى القوة الهائلة التي تنطوي عليها القصيدة، أو بالأحرى قوة الإيمان بها، حين تكون الوجه الآخر للحلم.. الحلم بعالم يُعطَّـل فيه الشر، وهو مايمثـّل قصيدة البشرية الكبرى.
و ما من شيء أقوى من هذا الإيمان أو المراهنة، المراهنة على قصيدة ـ قابلة للحلم، أبدا ـ في عالم يتكاثر غابة ً، إثرغابة، بالمعنى المعدني، القاصم، لا الشجري، طبعا!
وفي غمرة الهذيان السام الذي يحيط بالكائن من كل الجهات، تبقى القصيدة، اللغة الأنقى، اللغة التي تنتمي لأعماق لا تتصالح مع خارج احتفالي مبتهج بتهرئه.
القصيدة هي صمت ما بعد اللغة وهي اللغة التي تحلّ لما بعد الصمت.

****

القصائد:
الوردة تسيل ولا أصابع تلم العطر/ ما الذي قاله العشب؟/ خوخةً، خوخة، يورّقكِ القلب/ حَيوان حلمي أمام قلعة المروضين/ عن مشهد تذكرته في ما بعد في لا باز/ عن أثير يؤثر النقرس على الماراثون ويربّي وجه محقق قبل أن يجترح العصافير/ السكك الحديد/ سارُوراء العاشر من جنوني/ العاطل عن الوردة في مهبّ أسمائه/ لا تذكار لا ذكريات لا تذكّر/ قنوط الآمِل/ أبي/ جنوب/ أيام ضالة/ ربما/ إلى "ع.ع"/ النهر/ حياة سامة/ الحياة ـ طبعة ثانية/ الخروج الى الحياة المضمدة/ الأرض المرة/ ما ضرورة الوزن في هذه القصيدة؟/ أيام النمر/ آلام تامة/ تتمات/ خارجون على القانون/ صورة السياب/ البحر كلمة زرقاء/ الدمُ قراطية/ مطر/ في مواجهة العالم/ عقب كل قصيدة/ هذه الكلمة إلى أين تؤدّي

الوردةُ تسيل ولا أصابع تلمّ العطر


على الضفة تجلس، تسند ظهرك إلى جذع أمنية وتصرخ:
"ماجيرا"
فينداح صوتكَ عبر مياه ونخلٍ يشيب، عبر فواختَ وتحسر
قروي لمراهقات يلففن شهواتهن، يكتمن صرختين مشرئبتين
وعباءات يخنقن سرة خافتة مثل بيت الحلزون.
عبر الارجوانية المبكرة لبيوت الطين ولألأة عنق نجمة، تشدها
من شعرها مياهُ ماجيرا.. تصرخ، فينكسر صوتك أقواساً، ولا كمنجة
لتسندَ إليها عواءك ولا ثقب ناي لتنشب هواءك في رئة المدينة.
المدينةُ ظهيرة ازرقاق تحت عيون النسوة، والسهر يرصّع بالشحوب العينين،
فكيف نبصر العشب مرتجفاً في النسيم، وكيف نذبّ السهم عن عنق الصغير.
الوردةُ تسيل ولا أصابعَ تلمّ العطر
وماجيرا تشهد العنق والوردةَ السائلة
وماجيرا تسقف بالمياه طفولة الرمل.
فلتغتسلي، يا سماءً أكنسها من نجوم فاسدة
ولتفيقي يا نجمةً واهنة أرشها بعطر فحولتي
فهذا السرير مركبٌ تسيّره مياهُ الرغبة، وأخشى على قلبي ان يصل
قبل أن يغرق ـ الغرق الضروري في حليب الغلامة ـ
ـ يا غلامة! اغتلمي بين يديّ، فوحي بفحيحك. ارخي!
فهذا القفاز الذهب لأجل حريرتك تتباهى به كفي
وهذا القفاز يلمع، لترى صوتي ماجيرا وهو يومىء في ظلام النخيل
وهذا القلب مدببٌ لأطلقه سهماً في فراغ ماجيرا.

ما الذي قاله العشب؟

يلتمع المحْلُ مثل عيني لص.
يلزمني خفان لأتزوجَ هذا العشب ولأقنعَ البحر بخفة دمي.
أين القميص الصاخب لأقنع رجال الحدود ببوهيميتي؟
أين كأس النبيذ لأرى الفتيات محمرات من خجل ومن سطوع رغبة؟

يقول لي العشب، تلزمك شمس بيكاسو وحصان فائق حسن و لوثة فان جوخ..
أقولُ للعشب، لا يلزمني سواي، لأسيّر قاربي في اليابسة ولألظمَ الشمس طرْزاً في شراعي،
فالبرية أمامي صهيلٌ ذهبي لخالق يدشّن أيامه.

خوخة ً، خوخة.. يورّقكِ القلب


أجدلُ قوس قزح ضماداً لركبتك وأقود رهوَ جسدكِ
لما خلف موجة وصندل ومرجان نبيذ
.. تأتلقُ نجومٌ ويبارزُ البرقَ برقٌ
تظفرُ نافذةٌ بالقمر،
البريةُ تلقح فرساً، في زرقة غبار الأجنحة والحفيف،
تنجلي الزرقة، يفىءُ الهواءُ من البخور:
أتبينكِ شقرةَ غيمة
روبة ضباب
انسكابَ نجمة

تنكمشُ أصابعي وهي تفكّر في ابريز زغبكِ وتختلجُ الحواس
بينا تقلّب فاكهتك..
خوخة ً، خوخة يورقكِ القلب ويطفو في مهبّ تفاحك
يا حفيف دراق وريشتين،
يا اكتظاظ من تذهب للثانوية بعد الواحدة ظهراً
، أخفقُ شهوتك على ركبتيّ، فيسيل المدى تحت عينيكِ وتحتك
وتخاطب الغابةُ اختها الغابة
تولم الضوء قبيلة الفراشات
يبرق قنديلُ بحر في جفاف عتمة
و لا ضوءَ يضاهي وهَجَ سرّتكِ:
يا انثيال قوس قزح ندي بين أصابعي
يا حمحمةَ مهرة ولهاث غزالة
، اني أرهف القلب لملمس نبضك يا نعومة البريق
يا نبع مرايا تلينُ لتطلّع دمي.

حيوانُ حلمي أمام قلعة المروضين
ـ مقطع ـ


على فرسي، أسوطُ البرية أمامي ـ أتذكر دراجتي الهوائية في المدينة وعطب اطاراتهاـ.
أضفرُ السواقي نشيداً لفم المدينة المتسخ وأقدح سلك الصباح في فحم خرائبها
أنجرُ الفجرَ لأجل أعناق ديكة زاهية
.. توقظني القتياتُ، فأتحسّس البرية تحت جلدي وأفتقد ثيابي
.. أسمع ضحكاتٍ مثل لمع البلّور، يساومنني:
ثيابكَ أو البرية؟
عريي يسطع في السهب أمام سُررهن الرواني،
أحملُ بريتي وأسترني(مروِّعٌ منظر الآباء يقودونَ صغارهم في شوارع المدن)،
ألهبُ المسافة بحلمي الوحشي، فأراني أعبر أقفاصاً وقاعاتٍ آسنة وهياكلَ مربوطة
أو معلقة بأشجار متفحمة.
أراني أطوي دمعتي و أرفع بياضها شعاعاً ينجر جناحَي ركضي
وأراني أرى إلى ريش ينعب فأوقن أنه لأغربة ـ واكن ليست عُصما ـ*
وبرق يختضّ في سواد الريح كأنه جذر السماوات يفضح رجالاً بأصابع طويلة
تعرق على السياط
أتبينهم في الشرفات مديدي الأناة والقسوة.
النوافذ عالية تسترها جلود الحيوانات
أسمع عواءً وزئيراً
عواء.. عواء طويل مثل جدران هذه القلعة
فأدرك انها قلعة المروضين.


* أغربة جمع غراب، والعصم جمع أعصم وهو الذي في جناحه بياض، ويندر وجوده.
وهو مأخوذ من قول المتنبي: تعجّبُ من لفظي وخطّي كأنما ترى بحروف السطر أغربةً عصما.


عن مشهد تذكرته في ما بعد في لاباز
ـ مقطع ـ

رهينة ٌ القلب بين أقفاص ورجال لهم سيماء مهرجين
يصطدمون في الظلمة ببراميل خمر ناشفة وبكرات أسلاك وسياط متهرئة
يتعثرون ويرطنون بشتائمَ منقرضة،
يقْعُونَ مدخنين ورقَ مواضيهم
وما ان ينشر المحاقُ ريشه النيلي وتبطل النجوم
يلقي الرجال الذين ـ لهم سيماء مهرجين ـ لفافاتهم، متفقدين سياطهم.
يذرف القلب لؤلؤة ذكرى
السياط تفرقع في الهواء:
ـ صف حيوانك الهارب!
..............................


عن أثير يؤثر النقرس على الماراثون
ويربي وجه محقق قبل أن يجترح العصافير

ـ مقطع ـ

اعتاد الطقسُ أن يسرّح شموسه الرخيمة في ظلال عينيه
والمناخ تجرّأ على غرس كرسيّه قريباً من مُنتحَر الأمواج
ليرقب اختلاجات الطيف الشمسي منحلاً في حدقتيه، مضيئاً
وجوه فتيات يتحسسنَ اصغاء نهودهن الوردي إلى حمام رعشة،
وعشباً ينحني لشعر غيمة طويل،
مطراً خاطفاً في شارع خلفي في مدريد
مطراً مملاً في نيودلهي
قيداً لا يصدأ، أسئلة لا تبدأ ولا تنتهي:
ـ من أين..؟
ويلمح المحقق انكسارات فيء سجون ٍ تعبرها العصافيرُ، علوّاً،
وظلال امهات تقيلهنّ بازةُ قيلولة...
ـ من أين..؟
ـ أنا..؟
ـ....!
ـ من آسيه
ـ من أسى؟

ويعبر الرجال مطأطئي الأفئدة، يجرّون الحجارة في المرتفعات
والأودية، في شقوق الأنهر العاطلة، في السهوب.. يستقبلهم عويلُ النسوة
مندلعاً كالأفق يغطي تغضن قاماتهم، مدلياً بأسمالهم في انتخابات التعب
أسى، يأسو
تأسو آسيا

......................

في كلّ نهر لوعةُ الفرات
في كل مدى مدى للجنوب
تنطوي القارات على جنوباتها
وأنت تنطوي على وطن في قارة ما، ترقى ربوة بمسوح النوم
تبشر بالنعاس وعسل الأحلام تعلق به أجساد الفتيات الصغيرات
والحروف الأولى لحلمك الحركي.. ماجـ.. يـ، را
ينتفض المحقق في الجهة الثانية من النعاس
ما جيـ ... ما جدوى ترقرق هذيانك
اطفءِ النبع، واقفلِ العشب بالتراب
لا صبر للسوط على موجتك تلهو وتوغر الحبر على ورقي
اخفِ شموساً تتبارى في سهوب عينيك، وعلّق طقس "ميرو"
في رائحة النفق وافسح الكابوس للسيد "دالي"...
...............................

السككُ الحديد
ـ مقاطع ـ


لأيامي شكل نقود معدنية مرّ عليها القطار
أتملّى ذكرى تتشبث بها أهدابي
أتملى خوصاً يتكسر، شاحباً كالهدب
أتملى عشباً في خطى حصان ينفق فوق السكة الحديد،
والسكة الحديد تطارد الأفق وتعلق الطيور حتى هواء آخر
وتشمت بالأحصنة الخضر.
والسكة الحديد تفكّر:
الساقية ساق هشة، والمرعى بدائية متأخرة يجنح لها الشعراء
، سيما إذا سلطت عليه الشمس حمراء
..................
المشهد لا يتسع لقامة تتكسر كرماد السيجارة فوق بلاط لامع
المشهد محجوز ليد موظف البنك تحصي جسارات المقاول
ويدُ المقاول تجلو السكة تمغنطها، لتتقصف سيقان العصافير أدراجَ الكهرباء.

..................

عندها اكتشفنا السخام الذي بدأ يعلو وأصابعنا التي تقشّر الظلام
بحثاً عن الوردة الكامنة، أيدينا على قلوبنا، نلتمس ضوءها المغطّى بالريش والعصور:
نعزل النحاس، الجليد، الفحم، الحجر
وقريباً منا يجلس الآثاري على صخرة، يدخن ويرنو إلينا، ناظراً بين حين وآخر
إلى ساعته، مبتهجاً بالشرر الذي يعلو أصابعنا، منصتاً إلى وقع خطى الجبليين
تتضح في السكون، وقد فرغوا من تسمية الغابات.

سارُوراء العاشر من جنوني
ـ مقاطع ـ


الفجيعة نافذة على الإسطبل
والحداد يصقل الجياد
القمر حدوة متآكلة
والإسفلت ذاكرة البراري
المستشفى تَخمٌ
والأطفال حماقتنا التي تسعى
المشهد طاعنٌ في الإرتباك
، ثمة نسوة يتفقدن الأصص في الشرفات
والمساء أقدام تعبر جثث العصافير
....................

تنشطُ الجياد قرب النافورات
يصهل الماء
متاحة ٌ الصحراء
والنبع عين ديك يموت
صافية في عزلتك ِ
مديدة كالنهر
إلاّ انّ المشهد يتفكك
....................

كلّ شيء ليس هو كل شيء
ثمة ما يُنسى دائماً
ثمة ما يقع..
أتفيأني والمشهد ينفتح دائماً على ما يشي بالنسوة:
يستحممنَ، يعالجن الأصص، يعولن، يتعثرن، يندلعن كالعباءات.
والمشهد ينغلق، عادةً، على ما هو فاجع:
قطة تجنّ في الريح، فالج بأصابع مديدة، زهرات ينفخن كالقطط،
وأنا الخشبة.

العاطل عن الوردة في مهبّ أسمائه
ـ مقاطع ـ


أكتبُ في الظلمة
حيث فضتك ِ تشعّ في حبري وتلف حلكة يديّ الغارقتين في غبار سهومي
وترهف لقلبي الذي يتهجاك في الأقبية والفنارات، في الدرس وفي الحانة.
انظري بمائك حجارة عماي، والمسي بحفيفك الغضّ خشونة عوائي االمديد
كقطارات منبوذة في صحراء هائمة،
أنيري فحم 360 يوماً في يومي الواحد، بقلامة ضوء
يا قامة حلمي
واتكاءة وردة إلى شذاها
.. أنا عاطل عن الوردة في رملي الدائب ومهبّ سماء أسمائي البرّاق،
أرمّم ريشة في غياب البريد وألوّن كآبتي طابعاً
أسوق قطعان الفحم إلى منابع البياض وأرقق طبع السموم في مخاطبة عري قلبي،
أغسل الموسى من دم الحمام،
أنقط الصخر بغلالة الحليب والغسق وأفتح العشب على الأعمدة المرد
في ظهيرة منحنية على استقامة الإسفلت والحصى الذي يغني في الأفاريز
موال التغضن الطويل.
...................

وقت أنت بين الوردة وشمّها
بين الحمامة وهديلها
بيني وبيني و.. بينك
وقت أنا ـ لسالفة ـ موقد شتائي يبرد،
طفل يلهو بجمرة أيامه، صبار يتنفسه الماعز

دليني عليّ في زحمة العدو إلى الدرس والوردة والبار والعيادة والبيت
و ...إليكِ
دليني فأنا يقين التردد في الإفصاح عن شجرة روحي الملتفة
أنا نواحُ جرس الجُمعة في المدرسة وشجار متصالح
أنا افصاح الغموض عني، فافصحي عني فيك...


المفرد في جمعه المشوّه النابح
ـ مقاطع ـ


وأنا ناءٍ عن الشطرنج، السيرك، الحشود بعيونها النابحة
والنساء بأنوفهنّ الطويلة المستدقة، أسحل خلفي جبل كآبتي كأعرابي
يضلّ الطريق في ضواحي المدينة
أنشر مظلتي لأتقي دم الأعداء وعيونهم النابحة
أحتكّ بالصباحات المراهقة
أحتكّ بكآبتي وأحاذي الزجاج لأهرّب الهواء من الهواء
ولأحتجزَ المسامات المؤنثة الشاغلة لمقاعد السيارات والدراسة
وافتحها مثل طرد أو شفرة يتلقاها جاسوس مطارَد في داخله:
أفتح السرّ على الكتمان
أفتح البوح بصدىً أبح وأنشره بريقاً، زغباً.. طفلاً أشقرَ،
لباناً بين شفتي مراهقة

... وأجرني مني
لأمسك بأسارير توافقي وأنفضها بعصا امتعاضي في ظهيرة
سلالات سخطي، معتذراً بدمي عن انحراف كآبتي عن طريق
فحمها الأخضر، مباركاً سهوم السحلية الذئبي، ممسكاً برقبة
ابتهاجي لأحشره في ممر السخام، أستنطقه:
ـ لمَ أنت مبتهج، أمرغهُ في سهومي وأرسله إلى مدرسة دائبة
لأعلمه الإصغاء إلى سخام يتنفس في الأروقة والقاعات والحدائق
المطلة على الدماء والمكتبات التي تراجع سير القتلة بانحناء مهذب
لا يليق بسوى كهول يستذكرون جنازاتهم تخترق الأسواق،
دون أن يتمكنوا من شراء زهور لقبورهم الحاضرة.
................

أنأى عن اللعب
حيث الأقفاص تستر الحيوانات
الأسد والفراشة في البرج ذاته
.. لاأنام
حلمي يتكرر كقطار يكدس جثث الحيوانات
تفوح النوافذ بالأشلاء
عظمان متوازيان
قبران متوازيان
للتكرار
.. الرمل ينسفح مثل وقت اعرابي
لا فرق بين الرمل والوقت والأعرابي
الرمل، الوقت العشب
ينسفح تحت الفتيات الكسيحات وهن يتقاذفن قلبي
مثل وردة يابسة في حديقة مستشفى منعزل
، متعثراً قرب الأصابع ـ القصب لمرضى تلفهم الصفرة والغبار
مضائين أتبينهم من خلل شباك العناكب الناعمة تتدلى عليهم
هكذا متعثراً
أبتهج بكآبتي
متيحاً لصوفها نسج كوكبي
لأصعّر القلب لكل ما هو خارجه
مطوحاً بالشكيمة على الجموع التي لا أرى
ضاحكاً من الشبابيك
ممجداً الستائر
................

لم أكن أعلم ان الخيزرانة التي كانت تهوي على كفيّ في
شتاء المدرسة الإبتدائية، كانت غصناً يلمّ غناء العصافير
وانّ "طعمة" المستخدم الكهل ، كان عليه أن يتصيد أعداءه
بدلاً من تصيد التلاميذ لعصا المدير.

صفيرُ العصا في رأسي يزاحم غناء الطيور
العصا نصف العصافير
وما تبقى فرارٌ وهدم ريف...

لا تَذكار لا ذكريات لا تذكّر
ـ مقاطع ـ


ذات ظلام كنت أربي الشمعة
لأحرسَ بها وجه تمثالي
وأنا أرتعبُ في صالة التماثيل الباردة
ـ التاريخ برد معقم يخترق عظامي ـ
ليس ثمة خطى لآدمي، لحَيوان
ليس سوى رفيف الأزمنة الضجر يتمطى خلف الزجاج
كم لامع هو الزجاج ومحايد
كم مائت.. لا يعكس لا يمتص
وأنا أربي شمعتي

فينوس تنسكب بين يدي المثّال
فينوس تعطي المطرقة ابهتها
فينوس شظف.

أربّي شمعتي
ولضوئي صدىً والتاريخ بوق

يسطع السهلُ، وليس ثمة إلاّ الطريدة لامعة
................
السهل دمعتي النازلة
أتبين فيها جنيات طفولتي، ألسنةَ ذعر
ليس ثمة حليب والغزالة تنأى
وبين الحجارة شمس تغيب
................

لا تذكار لا ذكريات لا تذكر
الوردة شيء أحمر ولا شيء عدا ذلك
والمرأة عباءة تنام بها الريح
المتحف سوق الأزمنة والحجر الكهل،
تنتابني ذات الرطوبة لدمٍ في الظلام كلما تذكرتُ متحفاً
..............

قنوطُ الآمِل

ـ إلى عبد الرحمن طهمازي ـ

1

ألبسْ الروح خفين وقفازين
فموسم الطبيعة الهرم
يكلل البراري بالوخز ويحتفي بالمخالب
ثمة الأفق يشحذ ومدية تقوّم ثلماتها
فادخلِ الطور أعزلَ
إلا من قلبك
ربما تستعمله سهماً
لإرداء غزالة أو فكرة
أو نجمة ساهية


2

الليل والشبّاك
والقمر ـ التكرارْ
يضيءُ وجه الروح
في قفص الصبّارْ


3

والشمس نسخة فاضحة
للدوام، البيت، الصغار، المقهى وربما الكتاب
نغذّ أعمارنا لفخ تنكرت له البراري
ونبذته غرائز الطيور.
تحت مظلة باص ـ نتقي بها الإنتظار ـ
تذكرنا غزالة تعرج في السهب
وخطماً رطباً لحصان بري
يحمحم قرب ساعاتنا
تذكرنا
وكدنا نذرف القلب
غير ان النسيان...
لكزَنا


4

خلف ذاك الباب، بابٌ
ثمّ باب
كلما نُنشبُ صوتاً، فيه
يزداد سراب*


*
نحنُ من سعدي إلى عبد الوهاب
نطرق البابَ فلا يأتي جواب
طهمازي: "تقريظ للطبيعة "

أبي


ربما أبي رائحة المساء المرشوش في القرى
وريّا فجر يقطر دعة ً ومغسول بالديكة والسعال القصي لعامل طين
ونهوض النسوة إلى التنانير
وترجيع خضرة في الأقاصي،
ربما أبي تفصد الليالي بالمواويل ودخان المضائف
وطفو الفرات في بكاء الفواخت
وأبي..
الأغنية متهدجة تطرق باب الأميرة
.............
وأبي.. مئذنة ٌ
يرفع القلب أذاناً للحنين
وأبي كأس شموس ٍ
ويدٌ حالمة ٌ تنشجُ طين
وأبي من فرط شوق ٍ
يعصب الروح بتلويح الفرات
ويغني لبلاد القصب ِ
وأبي
قدْحُ حزام ِ التعب ِ

جنوب


كأنّ الجنوبَ أبد
وكلّ الجهات بدد
............
............
كأنما الجنوب
التاج بالمقلوب


أيام ضالة

أيام ضالة
أقطع الهواء إليها
بأكوام التبغ
بالثقاب الذي عبره، أحنّ
إلى إيقاظ ذكريات الحرائق
في بال الغابات


ربما


الأبدية،ُ تكمن
في النظرة الخاطفة للأشياء...
في ارتعاشة
يد منتحر
تملي ندمه الأخير
.. في مرآة
تحتفظُ بصورته
ملفوفة بأسرارها

الأبديةُ
في نظرة عينيك
من خلف زجاج عربة قطار
وفي يدك تسقط
من تلويحتها

الأبديةُ
في استغاثة، براعم صدرك،
حين تتفتق

في سرّ مهموس
يصلني بسرتك ِ

إلى "ع.ع "
ـ في رحيله ـ

ربّما، وحدكَ، تجلسْ
هذه الساعةَ، في حان ٍ
وترنو للطريق

ربما تجهد عينيكَ، لتبصر
في دُخانِ الحان
وجهاً لصديق
......
وتحدقْ* برماد المائدة
ما تبقى غير كأس واحدة:
ليس بي قلبٌ لندمان العويل
فأنا مستصحبٌ فيَّ ـ الرحيل ـ

*
جزم الفعل، هنا، جاء لضرورة الوزن، وقد ورد ذلك عند إمرئ القيس،
في قوله: "فاليومَ أشربْ غير مستحقبٍ..." الخ البيت.


النهر


مغرورق العينينْ
يقول لي:
لو كنتُ ذا يدين
أسديهما تحيةً لقامة الحسين
أضعْهما* وسادةً لمهجة الحسين

ـ وبعد ان فارقني الحسين ـ
وددتُ لو سحبتُ صخرَ الأرض
لي دثار
نزلتُ للقرار


* تلفظ العين هنا ساكنة.

حياة سامة*
ـ مقاطع ـ

لكلماتي مياهٌ تجففها الظهيرة، فكيف أقنع النهر بصحة دموعي؟
وكيف أستدلّ على القوارب بنجوم تتدثر بالصوف والسماء قطن
ـ ربما لأنها تشيب أو لكثر ما صعد إليها من الدمع ـ،
والأشرعة تضنّ عليّ بالحفيف، محاولةً إقصاء بياض وردةٍ تكاد
تطفر من نبع يحوك الزوارق والخلاسيات من وراء قلبي.
ليس لكلماتي أن تصف ماجرى، ليس لها أن تقول، ان القوارب
مدفونة خلف السراب الأخير في الصحراء، وان حطام المجاذيف
يروي دم الموجة كاملاً من أول شراع حتى آخر ساحل يستقبل
الرسائل الزجاجية وأسمال الغرقى.
كلماتي قصيرة وجنوني طويل. كلماتي عالية وفضائي يتدحرج بين
أقدام السابلة، أنهبه بالتبغ وبمقاعد المقاهي والسيارات.
...............

لم يبقَ ما يُشمّ في هذه الورود، سوى البنزين المحترق
ولم يعلق بأصابعي سوى السخام من المصافحات.
هل أُسلم يدي للنهر؟
...............

... والستائر لا تهتزّ و لاتنمّ إلاّ عن بريد ينقرض، فلأتشاغل
بالأغلفة الزرق عن ذكرى صبية أغفلت اسمها في الخطاب الأخير
وعن الإنحراف في عيني حارس الممر إلى الكلية، ولأضلّ خطوي
تيّاهاً في الوزيرية أو الرشيد..[ ما الذي أقوله الآن لمقعد سيارة
أقلني ذات ضحى من عام 1965 أو 1966 إلى بغداد، ولم تكن
عندي بغداد سوى باصات حمر وسينما صيفي، هوى عامل البناء من اسكلتها].

أطلب الماء في كنيسة السيدة العذراء حتى أضبطني منشغلاً بالدمع
أو الشمع الذائب الذي يجلل المغارة ويذكّرني بعطشي/ أطلبُ الماء/
الأبواب موصدة ومتينة، أغبطُ الفضاء الذي ليس هو الزقاق، يضمّ
قباب الكنائس وزرقة المآذن.
أُسائل كنيسة أمّ الأحزان عن الدمع الذي يدّخرنا فيما أسمعُ الصليب
يُجَرجَر.
.........................


*
قصيدة طويلة بثلاثة أجزاء. والمقاطع هنا من الجزء الأول المنشور،
في مجلة "شؤون أدبية" ـ الإمارات المتحدة.العدد:10، خريف1989.


الحياة ـ طبعة ثانية
ـ مقاطع ـ

أنا أجبتُ على الذكريات!
"أُنسي الحاج"


عليّ أن أصرخ في المرة القادمة: لماذا يصرّ على ملء قدحي
بالمياه التي تسبح فيها الأفعى، وسأتناسى رغبتي في تضميد
ـ بعشب ما ـ الخطاب الذي انتظرته منذ سبع نساء يكرهن
بعضهن ويحببن سفك قلبي، فكثيراً ما رأيت الكلمات التي سأردّ
عليها مموهة ً تزخرف القدح المهيّأ لي وتشير إلى تواريخَ تنفتّ
كالرمل، وضفائر طويلة لنسوة يلففن أيديهن بحرير أسود ويشرن
إلى طائر يشرب البرق واقفاً على حافة أرض تحضنها العاصفة.
...............
أزهاري تنام في أدراجها والمرأة التي علقت عليها سلالات قلبي
أراها تسحل طفلين، في الوقت الذي كان علي ان أُصغي إلى غلامة
تشكو آلام الحب وهي مستلقية على الأريكة، متسائلةً عن علاج لذلك،
فيما الحليب يفور، هممتُ ان أصف، غير انّ الشبح فضح عبورَه الزجاج
فأرجأتني حتى زهرة ستهمس بها جارية تُحسن النعاس أخضرَ وشمساً
على أُهبة الكمثرى.
...............

ما الذي أقوله لطفولتي؟ كيف أمدّ لها يداً ملطخة بالكهولة، هل سأنزل معها
الحديقة وطائرات الورق عالقة بالأسلاك والقطط التي درجت على ملاحقتي
تمرض؟ وقريبتي التي تسهر عليّ بكوب الحليب صرتُ أشكّ في إبطائها وهي
تحضره بيدين مرتعشتين... وصرتُ أنام بلا قبلة أُمي.
...............

أُراقب وزني وبرجي وزحلُ يضيء ميزان ذهب صفر الكفتين إلاّ من التبغ
كأنه يزن جدي الجهات الحزين، حيث بلا شجر أو صهيل يشدّ على تقويم
أيامه الرمد، فينبري المنجّم: لم أجد في الرمل غير رمل يصرّ كبوابةٍ يشير
أنينها إلى سلالة سلاسل وتاء تأنيث أو عربة نار بعيني لص يتطلع للذهب
ويشتم الحقول، وقلبي يُغتاب في الخراب الطلق، فتعلق الغلامة على المشهد
الماثل للقدْح بتسوية شعرها وطلب عصير بارد وهي ترمقني من خلف نظارتها
وقد وقعتْ في قلبي حتى خفّيها..

الخروج إلى الحياة المضمدة
ـ مقطع ـ


أشقّ يومي متحلياً بكآبتي، مؤجلاً الذكريات، إذ لا ضوء
يعينني على مراجعة الحنين، وكلّ ما تسعفني به يداي هو
الشتاء والعصا التي تنهال وما عدا ذلك لا شيء يستحق ان يدوّن.
ستقولين، الستائر علاها الغبار، وأقول العيون لها رنين لأنها تصدأ
حسداً للمراكب الراسبة في الحديقة.
تكفيني الأزهار في الآنية ـ إن لم تكن صناعية ـ ويكفيني النسيم
الذي يقوله شعرك، لا تواضعاً أقول لك هذا، لكن الهواء الذي يغذّي
الأشرعة ويرفع الشمس هو ذاته الذي يثلم الرسائل ويهيل العيون
على أصابعي حين تصفن بك أو تلمّ ما وقع من قصاصات في الطريق
الذي اجتزناه لمرة واحدة دون أشجار تُماثل الربيع الذي قصصناه خلسة
من رفّ الغيوم، ولأني لاأستطيع تذكر إلا العصا والشتاء وما بينهما،
وفصولاً اخرى لا تستحقّ التوقف أودّ أن تحفظي لديكِ ما يلي:
1ـ برجي الجدي وأُفضّل الميزان، ربما لأن لي من الدمع ما يزن علوّ نظرتك.
2ـ ذات مرة قلت.. "حنيني يفتتني"* واليوم أقول: حنيني يعضدني.
3ـ الحياة التي لا اقدر عليها فلأواصلها.

بعيداً عن السيناريو الذي تعاد صياغته دائماً والمشاهد التي استنفدت طلاء الأظافر،
أخرج إلى الحياة المضمدة بآلام صحيحة،
أخرج من الوقت المختلس للبكاء في الغرف المكتظة بالفراغ،
قابلٌ للحنين وفمي قابلة الكلمات الغريبة.
.........................

* باسم المرعبي: قصيدة "فصوص الرماد" 1988.

الأرض المُرّة
ـ مقاطع ـ

1

في تعاضد الصحارى. في انجراح موجة. في تكسر غيمة،
في الدمع المضمر، في القوارب الغلف..
ثمّة أنا.


2

طرْقٌ على الباب يشبه نباحاً متقطعاً لكلب مذعور، حيث الليل
يشي برائحة غيوم تتكسر في بئر بعيدة، ونافذة عاطلة لا تخبر
إلاّ عن ريح في طريقها للسُعار..
لمَ عليّ أن أكون هناك؟

1

أرىالدم يختلط برماد الكتب والسياط على رقاب آبائي ـ كان الجند
يجرّدون المآذنَ من سمائها ـ، صهيل الأفراس يدفعني للتدخين ومساءلة
الكرخ عن اليد العسراء وقفّازها، اتصالاً ببيت أبي نؤاس:
"بادرْ فإنّ جنان الكرخ مونقةٌ لم تلتقفها يدٌ للحرب عسراءُ".

2

بالعاول يبكّر الرجال لدفن يومهم.

3

الأماكن الحافلة بما أحب أو لا أحب:
أُغمض قلبي واجتازها.

4

الوردةُ رجائي الأخير، أرفعه لرمل يائس.

1

يلحّ عليّ سؤال: أين ندفن الأرض؟

2

الأرضُ تدور، تدور... دخت!
.....................

10

كيف يعرّف الأرض بحبر، لمن ينكّرها بقبر؟

11، 12، 13، 14، 15

" وأمر بتنور فسُجّر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه
عضواً، عضواً وهو يلقيها في التنور وهو ينظر، حتى أتى
على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور. وقيل أنه ألقاه في بئر
وردم عليه الحجارة وقيل أدخله حماماً وأغلق عليه بابه فاختنق"

لا الماء و لا الهواء يقدران على إغاثة تحيتي لك يا ابن المقفّع.


16

عباس علي.. أتتذكر ذلك المساء المشعّث من عام1982، إذ كنتَ
عائداً بقميصك الأسود، مغموراً بغبار المصابيح. اصغ ِ لي، وأنا
أُسمع الأرضَ، صمتي المتسائل، عن: سلام رؤوف، وسام حسون،
حيدر منسي، عبد الرحيم كاظم، اياد الوالي... والدمع يطول.

ما ضرورة الوزن في هذه القصيدة؟


جسدي أغنية يتكلم بها النهار الحزين
جسدي حطام نوم
ترفوه الاحلام الراسبة في ليالي الفتيات الوحيدات.


جسدي قطيعُ آلام
يهيم حول نبعها السحري،
حالماً بالكأس التي تعصف بها عيون الخليقة.
جسدي أنـّة ٌ مديدة لكمان على شرفة عاطلة
وجوم الستائر في النظرة الفارغة للشبابيك.
الكلمات التي تعوز اغنية الألم
حين لاتقول:
ـ ألمي حارسي
أدعو النهار بآسمه
أدعو الأعشاب والموجة َ
وما يترسب من عطرها في الحلم ـ

ما أثقلَ تركة الكلمات
ما أمضّ حرفة الحروف،
كأنها الأصابع تنبش جذورَ الظلام
وتهيئ كرسيّ الألم

ما أثقلَ هذا الصرير لدوران الكواكب!
يطمس مشهد الأغنية
فلا تتبدّى سوى الذكريات
عن النسور التي تتهاوى ظلالها
في عتمة المرايا
والرماد الذي سيعقب الفصل الدامي
على خشبة الكوكب!

جسدي ألمي، إيقاعه
جسدي إيقاعه، الألم.


ما ضرورةُ الوزن في هذه القصيدة؟
ماضررُه ؟

جسدي، النشيد الذي سأقوى فيه على القول:
الغبار في قلبي
ومطرها لم يأت بعد...

أيام النمِر


بعينين يشربهما فراغُ القفص
يسرح النمر بأحلامه
ناسجاً من أيامه المعذبة
جسراً
إلى غاباته الخبيئة

يحكّ ذاكرته،
متشمماً البراري،
ناشباً ذكرياته عن الأزمنة القتيلة
في مرآة علتها الغضون

النّمِرُ
بأحلامه المثخنة
يذرع القفص
فيما قمرٌ يابس
يقيس فضاءه

أيامُ النمِر
أقفاص محكمة
لا يتخللها سوى الإنتظار

كلّ يوم
يشطب شمساَ على الحائط
بينا عيناه تساكنان،
بلهبهما،
أنهاراً
مروجاً
مقاطعاتٍ وكواكبَ
أضحت على مبعدة إغماضة من سهره.

آلام تامة


لي من الألم وضوحه
أتقدّم بدم ٍ جريح
أتقدّم كعواصف تخطر في بال نَسر
يرمق الأفق بجناحين مسهّدين
فيما الحرائق تندلق في السهوب

ألقي التحية.. وأستمع في الظلام
إلى الدموع تهمي
إلى الأصوات تتكسر

يدي التي ترتفع في عطب الهواء
تتحين شمسكِ دانية ً في اغتلام المرايا
عندها بوسعي ان أُسدد برقي
وأشطب ما تبقى من أضغاث سود

الطريق تُنبت الطريق إليك،
بسطوع عشب أسود، اقطع المرتفع
أستدلّ على هوائك، بالأجنحة التي تضرب
قريباً من عيني
أستدلّ فيما ريشكِ ينهمر ذهبياً،
أسمرَ على مرأىً من نَمِر قسوتي.

لي ثباتُ ريشةٍ في جناح صقر
ووميض فكرة ذهبية في رأس نيزك
ـ ذلك ما تبينته حين عرضت لي رياحُ مراياك ـ
لي من الآلام جنونها

ـ هذا ما خبرته حكمتي في ضمير المرايا ـ
أستبدّ بالأرياف
غاسلاً البرية بالصهيل
علّ الأشجار تشبّ عن الفأس

بوضوح ظلام، أوقد لكِ دمعي
لتتبيني أياماً، لا أبوابَ لها، حين
لا تطرق يداكِ
لتتبيني نوافذ شاغرةً كالأرق
وليس من عشبة تحيي فراسخ
هذا الصمت
أو تلمّ برادة النجوم!

الأنهارُ تنطفىء
وأصابعي تخفق في استذكارنبع يصلني
بيديك
وثمة، دائماً، ما لا يُجيب على الظمأ

..أستدين الأزهار
لأقول هذا الربيع بيت لشرودي
لأقول أفكاري خطاي
.........
بشكيمة زهرة أتقدم اللهب
بغضب شراع أفتك بالهواء،
أفقر الماء من الماء
وألقي بحبل آلامي على غاربها

فيّ ما يتسع لخطاك الخضر
لوردتك أن تعبق في جسدي
وان تعصف بي
ادني اهدابك
لأقلدَ نومك دمعتي
لأبذر في حقول نعاسك غيومي
أستمدكِ في رياح عكس يدي
ألوّح لنظراتك بجناح القلب
وفي اللحظة التي تشمك يدي
أكسر هواءً يحول بين أعشابنا
أكسر أفقاً يتغضن في المرآة

افصحي عن نواياي فيكِ..
ثمة نظرتي ممدودة
وشغفي يتربص كغضب
جناحين
يشقّان الأرض

الفضاء خدش
احتفظي بطلاء أظافرك
بريشة لترميم غيوم ممحوة
... وجهكِ يخلد إلى مديحي
وآلامي
إلى.. آلامها

تتمات

يرنو إليكِ الأعمى..
وحدك الخليقة بمثل هذه الكلمات
بهذه النظرة!
*****


قال لي: ألم تنظر إلى أهدابي،
انها بيضاء
أجبته: أجل، لهول ما رأت عيناك!
*****

كلّ أمّ تهتف.. يا ابني
أنا، أكادُ أُجيب.
*****


الدرجات التي تصلني بكِ
الدرجاتُ التي طالما ارتقيتها،
في بياض الضحى،
وقد بتّ أحفظ عروق رخامها
أضحت غائمة ً خلف العشب الأسود
فيما اقدام النسيان، أسمعها
تتناهبها جيئة ً وذهاباً.

خارجون على القانون

بالخطأ، دخل مرة ً
"غرفة المحامين "
هكذا كان يشير لوح الخشب
المثبت عند الباب

لم يستطع أن يتبين كلماتهم
التي كانوا يتبادلونها
كانوا عشرة
يضعون النظارات السود
على أعينهم
وأمامهم عشرُ حقائب سود
.. فجأة ً
أحسّ أنه
بين مجموعة من الخارجين على القانون.

صورة السيّاب

" حجارٌ ندائي وصخرٌ فمي "
ـ السيّاب ـ


الكلمات تسبق ظلها إليك
ممسكاً بتلابيب الحياة، تقطع الدهور
كأنك أيوب السومري
كأنك تموز، للأرض، مع دمه موعد،
كلّ فصل

كلّ سنبلةٍ ،مرآة،ً غدت
لشحوبك
كل زهرة، غدت
جرحاً فاغراً ينقط أسفلَ قصائدك

في صياح البطّ البري
في نظرة الكسيح الدارجة
في فضاء "كونغاي"
تنزّ أجراس لوعتك.

سائحاً على نقالة
تشرب الحياة ولا ترتوي
تطلّ على مشارف الجهات
وكلماتك سبرت مهاوي الجحيم

لك الكلمة وظلها
لك المعنى وصورته
صورة البلاد، هذه إذاً:

في كل مرمى طفلٌ قتيل وأم حزينة
والسلال مليئة بالحجر

صورة البلاد،
هاهي غريبة، تعود
وظلك الأرق مشرّدٌ فيها


البحرُ كلمةٌ زرقاء


البحرُ كلمة زرقاء لا نهائية..
محّصتُ هذه الكلمة في ضوء عينيك،
وكانت يدي تتسمع الرمال الندية، عبر أزمنة راكمها المدّ والجزر،
حتى اكتمل قمركِ في قلبي..

وصعدتُ من ظلام وساوسي إلى شرفة ذهبك
كانت خطاي مثل حيوان جرّحته قلة العشب والهواء.

أفلتّ قلبي على سلم أسود، مخدوعاً بالغيمة الملونة
والكلمات العابقة في حديقة سحرية، لم تكن إلاّ في خيال غريق
ولم تكن ثمة مياه
بل الصحراء مشرفة على الصحراء
تطلّ على لصوص الأشجار

وهو يرى الأفق زنار دم
يرى الأرض، كأساً تشفّ عن رماد

بحثاً عن الجمر، عن الموجة، تعيد للبحر اسمه
طفقت أصابعي،
مستعيناً بضوء عينيك، بذهب صمتكِ مبدداً
أُحيي مدينة الخيال
أسكّ من هوائها، الطرق الموصلة إلى سحب القلب
حيث غبّ كل مطر، امرأة تتعرى
ورائحة العشب تهبّ على يدي من جهة الوردة الثالثة والبحر الرابع عشر

قمرها اكتمل في قلبي
لم يبق لي إلاّ أن أُعمد اسمك بماء تنضحه جهة القمر
وأكسو ظلالك الثلاثة في ظهيراتها المستلقية في وهَج النسيم.

اسمكِ ونسيمك في صلب القمر
التماع ريشكِ، مهبّ مرايا
دفء طائر، بطنكِ الجميل بزغبه وإنصاته
استفاقة موجة، بعد أسر، كواسر عينيك

في قلبي أسمع اصطفاق أجنحتك
تمرّد اسمك على الكلمة التي تحتجزه
غضب الطفل الذي يهشّم الكأس،
.....................

سأخلي اصابعي لكِ


الدمُ قراطية


1

على حبري اُشوى
ولقلبي رنة الورق المحروق
اُدحرج في الرماد
فأطوي قلبي
أطوي الخارطة
وأنهالُ بها علي
انهال على جذور تصدأ
انهال على رماد مريض

2

يا فُرات
يا بكاء الفواخت
يا جرح الرجاء
مَن سجّاكَ، هكذا، كتابوت
مَن جرّك، كخيط،َ من سجادة صلاتنا

3

سَجنٌ، سجّانون
سجّانٌ، مسجونٌ
سجنَ، يسجن
ساُجَنّ..

وطني زَنزَنني
الأرضُ أمرَضتني

4

يقطعون صبرهم بالسجائر " الوطنية"
وهم يرنون إلى صلبانهم تُسحَل
وعلى وقع أغلالهم يعتلونَ الأسرّة
ليُنجبوا الدماء للحروب
5

اقطعُ الفرات دمعة ً، دمعة
وبدجلة منديلي الحزين
اُجفّف آلامي

6

البناياتُ تعلو
الطائراتُ تعلو
الحمائم تعلو
... ويعلو في الشخوص الرماد


7

كم من الوعود الشاسعة، كالعطر،
تُخبّىءُ أيّها الكمّون؟
كم من الهواء أرديت ِ أيتها الكيمياء؟
فألف كربلاء قادمة من شقّك ِ
أيتها الكيمياء!


8

أرفعُ قلبي، نخباً
وأقرعه بقلب طفل
أرفعه سقفاً، فوقي، لأتقيني
قلبي الذي يفرفح
مع أجنحة حمام المزارات
والقباب الدامعة


9
استنجدُ بالنيل
فيُسرع بردى
أشكو العطشَ
فألفي دجلة والفرات
في يديّ، مجذافين
أقطعُ بهما صحراء العالم

10

أستدين عُشباً من " الهايد بارك"
فتقبض الشرطة على حدائقي


11

أسند ظهري إلى الفرات،
فتنهال القوارب تحمل جثث القتلى،
والأمهات تشرئبّ عباءاتهنّ،
..……
تنهال ريحٌ على شموع،
رمال على زهور
وأتهجّى الفرات، فأرى سياط العطش على شفتي!


12

دجلة جنازة ٌ
يبكي عليها الفرات القتيل
وقلبي بينهما صرّة دمع

13

وطني وظنّي
وطني وسجني ـ وطني سجيني ـ
وطني ستارة ٌ منقوعة بالدم
تخفي براءة َ المشهد!


14

سماء زرقاء عالية ـ المشهد في حديقة وطنية ـ
طاولة نظيفة لامعة،
قهوة سوداء كعيون البدويات
عينان سوداوان كالقهوة العربية
... كلّ شيء مرتّب
سوى انّ الجرائد تـُقرأ بالدم!

15

هل الشعب عشبٌ؟
إذن، لماذا كلّ هذه الخنازير تعصف به!

*تعود فترة كتابة هذه القصيدة إلى أواسط الثمانينات، وقد فُقد النص الأصلي لها
وهي مستعادة هنا في أغلبها من الذاكرة، مع التنقيح واضافة بعض المقاطع الجديدة
المكتوبة بين دمشق وبيروت في العام 1992، وقد نُشرت في مجلة الناقد، العدد 51 ـ
أيلول من نفس العام، بصيغتها هذه.


مطر..


مطر
على السقوف والجدران

مطر
على الزجاج في النوافذ

مطر
على الأشجار

مطر
على الأكواخ والصفيح

مطر
على الأسمال

مطر
على الوديان ـ في قيعانها السحيقة ـ

مطر
على الأنهار والخلجان

مطر
على الإسفلت والحقول

مطر
على القبور

مطر
على المستنقعاتِ والخرائب

مطر
على المبتلّ واليابس

مطر
على ما لا يُرى
..............
مطرْ..

إلاّ على قلبي!

في مواجهة العالم

غرفة مسدلة الستائر،
أوراق،
هواءٌ مُتيبِّس علىَ الجُدران،
دُخانٌ يتشبّث بفكرةٍ شاردة
:
هذه كُلّ عُدّته
في مواجهة ِ عالم ٍ
يتمطّى في أقفاص ِ مُهرّجين.

عَقِب كلّ قصيدة


عقب كلّ قصيدة
تسألُني امرأة شاردة:
مَن أنت؟
مَن أنت؟

عقب كلّ قصيدة
أسائلُ نفسي
أو أجيبُها
مَن أنا،
مَن أنا؟


هذه الكلمة الى اين تؤدّي؟

صيفٌ أزرق
بلا سواحل
اني أفكّر، الآن،
في المرأة الباذخة
التي حسبتها، لوهلةٍ، طفلة
ولها كل هذا البَحْر
أفكّر في هذه الطريق
أو الكلمة
وإلى أين تؤدّي؟

أتركُ للهواء أن يقودني
إلى الجهةِ التي يعثرُ فيها القلبُ
على جهتهِ.


المجموعات التي اختيرت منها القصائد:
العاطل عن الوردة/ الأرض المرة/ كلمات ثمّ كلمات
صورة الأرض/ سماء بطائر وحيد/ أكثر من أثر
الدمُ قراطية/ ظلال وأقنعة ـ معدّة للطبع ـ.