سـقوط المعنى وضياع القصد

تعطيـل إنسانية الإنسان باسم الايديولوجيا

حينما مات الكاتب والمخرج الألماني المعروف هـاينـر مولـلـر أصيبت الأوساط الفنية والثقافية بالذهول، رغم ان الخبر لم يكن مفاجئا من حيث إن الجميع يعرف إنه كان مصابا بالسرطان. لقد رحل هذا المهاجر الدائم بين حدود ألمانيا، الساخر الذي كان ينظر الى العالم من خلال نظاراته السوداء، المليء بالتناقضات، والمرح الذي تتلمس فيه رعشة المأساة الانسانية ومحنة الوجود البشري.

ولد هاينر موللـر في 9 يناير من العام 1929 في إيبندورف في مقاطعة زاكسن، لأب ذي ميول إشتراكية ديموقراطية، عاطل عن العمل في مدينة يحكمها النازيون، ولأم كانت تعمل خياطة. وكان هذا الجو البتي المتوتر قد ساهم في عزلة الصبي، لذا إتجه نحو القراءة. في بداية العشرينات من عمره، أي في بداية الخمسينات من القرن المنصرم عمل هـاينر مولـلــر صحفيا في برلين الشرقية، حينها كان الحلم في عنفوانه، فحتى مع المسرح الواقعي الاشتراكي كان بالإمكان رسم آفاق المجتمع الجديد، لكن مع مرور الوقت أصبحت الصورة أكثر وضوحا، وتجهما، إذ سرعان ما تم طرده من إتحاد الكتاب في ألمانيا الشرقية العام 1961 بسبب عمل مسرحي له بعنوان ( المهـاجــرة ). لكن القراءة الابداعية والتاريخية لأعماله في الخمسينات والستينات تؤكد لنا بانها كانت المفاتيح السرية التي تكشف عن الوجه الحقيقي لتلك المرحلة. ففي أعماله ( ضاغط الأجور)،و ( التراكتور)، و( التصحيح)،و ( المهاجرة)،و( البناء)، و(حياة في الريف)، جسد هـاينر موللـر معاناة الناس وآلآمهم من أجل تحقيق الحلم الاشتراكي، لكن نظرته لم تكن مهادنة، توفيقية، \عائية، متفائلة، وانما كانت نظرة نقدية مشاكسة ولكنها ليست معادية، ومن هنا جاءت القيمة الحقيقية لإزدواجية أعماله على المستوى التاريخي عند قراءة تجربة تحقيق المجتمع الجديد في ألمانيا الشرقية وفشل تلك التجربة وانهيار الدولة الاشتراكية.

في تلك الفترة كان موللـر يطور أشكاله الفنية الخاصة به، يطور لغته ويؤكد حضوره الابداعي، وكان عليه ان يمسخ نفسه كجواب على حاضره الممسوخ. لقد كانت لديه الأذن التي تسمع نبض الزمن والعين التي تبحث في جمال الاعمال الابداعية عن نموذج يحتذى به، ومن هنا فانه لم ينشر في حياته أعماله التي كتبها في بداياته، بل ولد ناضجا، وسائرا على طريق بريشت .

ولكن رغم ان والديه كانا قد هربا من المانيا الشرقية الى المانيا الغربية، وكذلك هرب الكثير من أصدقائه، فانه لم يلعن الحلم الذي كحل عينيه به، وانما حدق بعينين جاحظتين لعتمة الضفاف التي تمتد أمامه مرددا مع نفسه: سوف لن يبقى الأمر هكــذا.

لقد كان موللـر واحدا من أهم كتاب الدراما الذي إستطاع رسم الوجه الحقيقي لتجربة البناء الاشتراكي في المانيا الشرقية آنذاك، لذا كانت لديه مشاكل حقيقية مع حراس الثقافة والنوايا في النظام الشيوعي، فلم تمر أية مسرحية له بدون مماطلات ومنع وعقبات، لا سيما بعدما اخذت أعماله طريقها الى خشبات المسارح في المانيا الغربية، وبالتالي وجدت لها صدى في بقية العالم.

لقد توجه هاينــر مولـلــر الى المادة الأدبية الاغريقية من أجل ان يعيد صياغتها، فكتب بعض الاعمال مثل: الطاغية أوديب، فيلوكتيت، هيراكليس، ثم توجه نحو شكسبير فأخذ منه: ماكبث، تيتوس اندنسيسيوس، لكن هذه الاعمال كانت تغوص في أعماق الظلمة السياسية وظلمة الواقع الاجتماعي. لقد كانت هذه الاعمال رفض للايديولوجيا، كما ان إختياره للطريق الكلاسيكي هو اختيار منطقي للارتقاء الابداعي والفكري الذي مر به
هو، وللتطور الذي طرأ في لغته الفنية. أما الأعمال التي تلت فقد اخذت تفتقد للحكاية أو للبنية الروائية للحدث، فأصبحت بناء لغويا متوهجا:( لقد أردتُ أن اكون نفسي، نفسي لا غيري، إن سيرة حياتي ليست الا جسور تمتد ما بين العصور الجليدية والمستقبل)، هكذا توضح إحدى شخصيات موللــر في مسرحية ( البناء).


مـوللـر بين أرتـو وبريخـت

إن خيال هاينــر مـولـلــر متر بمخاضـات عسيرة، حيث وجـد نفسه يقترب من عالم أنتـونان أرتــو وجماليات القسـوة التي قللت من هتدوء المشاهد في أعماله وأشعلت النار في اعماق روحه ووعيـه، وهنا يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين المشاهد الواقعية في مسرحية ( المجزرة)، والمشاهد التي ترتقي الى ما وراء الواقع، والى السوريالية، التي تعكس سعي موللر وبحثه الى تأسيس مسرح جديد لا سيما في مسرحيته ( موت ألمانيا
في برلين). لكن القسوة والرعب هنا ليس إرهاصا ذاتيا وإنما قراءة تاريخية عميقة ومعقدة لتاريخ ألمانيا، ومن هنا بالذات تأتي علاقة مــولـلــرالوثيقة بالكاتب الدرامي ( بريخت). وإذا ما كان بريخت قد كتب( رعب ومعاناة الرايخ الثالث) عن بداية هذه المرحلة الدموية المرعبة من تاريخ ألمانيا، فأن موللر كتب عن نهاية هذه المرحلة المرعبة، فها هو يغلق على نفسه وكتاباته قائلا:( إن كل الرعب الذي أكتب عنه يأتي من ألمانيا).

إن تأثير بريخت على مولـلــر واضح جدا، لكنه بعيد عن تفاؤل بريخت التاريخي بانتصار الطبقات المسحوقة، فالسوداوية والتشاؤم والسخرية هي من سمات أعمال موللـر، فلقد كان مولـلــر يتعامل مع التاريخ الثوري، مع البلاشفة الروس والشيوعيين ليس بتلك الطهرانية التي لدى بريخت. فالنظرة الثورية والجدية التي راقب بريخت من خلالها العالم تتحول لدى موللـر الى هزل وسخرية سوداءن وهذا واضح في مسرحية( ماكينة هاملت) و( اوركسترا رباعية)، و( حالة تيتوس في رومـا)، حيث نلاحظ فهما جديداللفن ودوره في الحياة، فهو لم يعد رسالة سياسية او اجتماعية ولم يعد يبشر بايديولوجيا أو اخلاق ما وانما غدا نصا تاريخيا سايكولوجيا. ففي الثمانينات دخلت كتابة هاينر موللر مرحلة جديدة، فها هو في عمله( ماكينة هاملت) يقتحم عالم الفلسفة طارحا الأسئلة عن معنى الحياة في الآلة التي هي العالم الذي يحيط بنا. لقد تعرف على الآلة لأول مرة في ( التاريخ) وسماها في لغته :( انا إنسان، والانسان ليس آلة، اعطني نوم الآلة) هكذا تقول أحدى شخصياته، أنها أول صرخة لمـولـلــر من ثلاثية التمرد والعصيان التي بدأت بمسرحية ( فيلوكتيت)، وانتهت بمسرحية (ماوزر).

إن سقوط المعنى وتشتت الهدف وضياع القصد هي موضوعة هاينـر مـولـلــر الأخيرة التي ركز عليها في مرحلته الأخيرة لا سيما في عمله الدرامي المهم ( المهمة) حيث يتم التراجع عن مسألة تثوير العالم المطروحة في بداية المسرحية، أما الكلمات الأخيرة في هذا العمل التراجيدي فهي تقول:( إنني أرتعب من العار الذي سأحس به لو صرت سعيدا في هذا العالم). إن هذا الرعب هو قرين برعب هاينــر مـولـلــر نفسه الذي كان يائسا الى حد السخرية من كل شيء، ولم يبق له من أحلامه سوى الضحك، بل وصلت به الحال الى السخرية حتى من الموت والحياة:( أنا لا أستسلم للموت، ان حياتي أهم هي ملكي)، هكذا تقول إحدى شخصياته.


الايـديولوجيـا ضـد الانســان


لقد حدد مـولـلــر أهم جبهات العصر: ( الايديولوجيا ضد الانسان)، فهو يرى ان الايديولوجيا عطلت انسانية الانسان، إذ انهار المشروع الثوري لتغيير العالم، لذا فانه يتنازل مثل بطله عن (مهمته) معلنا بانها لم تعد صالحة للتنفيذ أو القبول، مشككا في إمكانية تحقيق اليوتوبيا على الأرض، لكن رغم هذا فانه يجب ان لا يفهم من ذلك ابدا انه يميل للرأسملية ضد الشيوعية، من حيث انه كان من اكبر نقاد النظام الرأسمالي في المانيا:( إن هذا الرعب الذي أكتب عنه يأتي من هنا ، من ألمانيا). إن هذه الخيبة التاريخية انعكست على هاينـر مـولـلـــر حتى على المستوى الشخصي والسلوكي، فدفعت به الى الفوضوية، مثل بريخت الذي كان يحترمه ويضعه بمصاف كبار الكلاسيكيين الذين انفصل عنهم لأن بريخت في نظره استطاع ان يحدق في الجانب المظلم من عصر التنوير،( لقد بدأت من حيث إنتهى بريخت)، هكذا قال مـوللـر ذات مرة، إذ شهد بريخت ولادة الدولة الاشتراكية بينما شهد موللــر موتها. إن تفاؤل بريخت غرق في حـزن مــوللـر: ( أين ذلك الصباح الذي رأيناه بالأمس؟)، هكذا يتسائل مـوللـر في إحـدى قصـائده. إن الأدب الألماني لم يجد أية حالة مماثلة في التشابه والتعاقب والاختلاف مثلما وجدت بين بريخت ومـوللــر، سواء في نصوصه المسرحية، مشاهده الملحمية القصيرة، أغانيه التي تستذكر الشاعر الأميركي عـزرا باوند، أو حتى في تعليقاته المشاكسة.

لقد أراد هاينــرمـولـلــــر أن يؤسس مسرحا مزيجا من بريخت وشكسبير، لقد اراد أن يبدي رأيه في الأحداث الكبيرة التي جرت في العام 1989 ، من سقوط جدار برلين الى إضمحلال ألمانيا الشرقية، في مسرحيته (ماكينة هاملت)، لقد كان مثل صائد الذئاب الذي يذهب الى الصيد بصحبة الذئاب، مجسدا حالة الرعب والذهول والقلق المشبوب بالبشاعة والهول الذي تعاني منه البشرية.

لقد كتب مــولـلــر اكثر من ثلاثين عملا مسرحيا، لكن معظم مسرحياته غير صالحة للتمثيل لأنه سعى الى مسرح جديد يتنازل فيه عن مركزية البطل. ورغم هذا فحينما عرضت في العام 1991 مسرحيته ( ماكينة هاملت)، احدث ضجيجا في كل الوسط الفني بالأمانيا، كما استلم في العام 1992 إدارة مسرح ( برلين انسامبيلين) وكان يعد لإخراج عمله ( ألمانيا 3)، التي كان من المتوقع عرضها في العام 1996 لكن الموت لم يمهله، إذ وافته المنية يوم 30 كانون الأول من العام 1995، مخلفا فراغا كبيرا في عالم الدراما الألمانية والعالمية.

قالت عنه الكاتبة الألمانية الكبيرة كرستيا فولف: لقد كان هاينـر يحمي نفسه يالأقنعة، ولم تكن تناقضات الحياة والتاريخ مادة لأعماله الأبداعية فحسب وانما كانت أساس حياته كلها. اما بتر بروك فقد قال عنه: لقد كان مولـلــر ينظر الى العالم وكأنه ينظر الى اصدقائه، وكانت فـي هذه النظرة الانسانية العميقة والمليئة بالسخرية والمرح والتفهم والشفقة تكمن قوته، إن نظرته هذه ستبقى لنا ومعنا.