قصيدة نثر طويلة عن بستانيّ الخمسة عشر مساءً…

حكمت الحاج من تونس: عن دار "كونتراست" للنشر بتونس صدرت قبل أيام الترجمة العربية بإمضاء الشاعر التونسي علي اللواتي لكتاب "بستاني الخمسة عشر مساءا" الصادر باللغة الفرنسية عن منشورات "سينز أند تونكا" بباريس عام 2000 للشاعر التونسي [بالفرنسية] سمير مخلوف، وهو عبارة عن قصيدة نثرية طويلة بواقع 15 فصلا جاءت في 135 صفحة من القطع المتوسط، عدا التوطئة والمقدمة والشروح والتعاليق، ليشكل أهم إصدار أدبي تونسي لهذا العام، وليطرح بقوة مرة أخرى على بساط البحث قضية الأجناس الشعرية وعلاقة الشعر بالسرد ومستقبل قصيدة النثر في فضاء الأدب العربي.


تبدأ القصة في عام 1999 حينما التقى علي اللواتي سمير مخلوف لأوّل مرّة إثر مسعى من صديق مشترك لهما. وقد دار الحديث الأول حول مواضيع مختلفة كالرّسم والأدب وبخاصة "العمارة" هندسةً وفناً. ولئن عُرف علي اللواتي بمقاله الشهير بعنوان "اغتيال بيان شعري" عن فضائح الشاعر السوري أدونيس في ترجمته لشعر "سان جون بيرس"، وباهتماماته في مجال الفنون التشكيلية، تأريخا ونقدا، فإن سمير مخلوف يعتبر من المهندسين المعماريين الشّباب المعنييّن بانفتاح هذا الفنّ على الفنون الأخرى إضافة إلى اهتمامه باتجاهاته التّجديدية في العالم.

ويقول علي اللواتي معلقا على لقائهما الأول ذاك: قدّم لي سمير مخطوطتي "قصص الحياكات الحركية" (Contes de textures gestuelles) و"بستاني الخمسة عشر مساء" (Le jardinier de quinze soirs) فكنت أتصفّحهما بين الحين والحين مسترقا النّظر إلى شتات من جمل وكلمات غريبة كانت تأخذني إلى عوالم غامضة وتخوم قصيّة فتذهلني لبعض لحظات عن سير حديثنا. وأحسست أنّني إزاء نصّ من معدن

خاص لا شبيه له. ومنذ ذلك اليوم و عبر قراءات متكرّرة و متأنّية تأكّد ما أحسست به لأوّل وهلة أمام كتابة تتملّك العالم وتصهره حسب خيمياءات مستحيلة وتعيد تشكيله في صور أعمق وأجمل و أغرب. وعجبت أن لا يكون لصاحبها بعض سمعة أو ذكر في وسط الكتّاب المعبّرين باللّغة الفرنسية وفي الوسط الأدبي عامّة؛ غير إنّني علمت منه أنّه قام بمحاولات محتشمة و غير موفّقة لنشر بعض كتاباته في تونس ممّا ألجأه إلى عرضها، فيما بعد، على ناشرين أجانب".
ويكمل علي اللواتي حديثه قائلا: ".. ثم أقدمت بعد بضعة أشهر على ترجمة فقرات من الفصل السابع من الكتاب بعنوان "حديقة الرّياضيات ". ولكن شؤون الحياة وكثرة المشاغل حالت دون مواصلة ما شرعت فيه. وفي أثناء ذلك صدر الكتاب بباريس سنة 2000 عن دار Sens amp; Tonka. وفي مطلع السّنة الماضية (2003) ظفرت بفرصة العودة إلى الاشتغال في ترجمته على نحو مستمرّ إلى أن تيسّر الفراغ منه؛ و شجّعني على الإسراع في إعداد مقدّماته وحواشيه ما لمسته من استعداد دار كونتراست للنّشر لتقديمه في أجل قريب لجمهور القرّاء".

شعر الحركة الملحمية

بحثا عن مواصفات لنص سمير مخلوف في صياغته العربية، وتقربا إليه لولوج عوالمه الغامضة، وأيضا رغبة مني في محاولة تبسيط نص شعري معقد، سألت علي اللواتي مترجم قصيدة النثر الطويلة هذه، إن كان في مكنتي أن أسمي هذا النوع من الشعر "كتابة حركية يروح ملحمية" فأجابني مؤيدا إن ذاك ما توحي به كتابة سمير مخلوف في بستاني الخمسة عشر مساء، من حيث هي حركة أوّلا، بصرف النّظر عمّا تشتمله أو تجرفه في سيرورتها من رؤى و صور ومضامين. إنّها طواف لاينتهي في كلّ الأحياز وبحث لا يهدأ في أبعاد المادة وخبايا الذهن وكلّ ما يقع في دائرة الوعي الإنساني، ممّا يطبعها بالإندفاع و التّحول المستمر وتعدّد بؤر الرؤياّ، وإن أوحى التخطيط والجهد البنائي والحرص فيها على التفاصيل بخلاف ذلك وأوهم باستقرار واكتمال يسمحان بمطابقة مجازية بين النصّ والعمارة المغلقة. إنّها لروح غريبة تلك التي تسري في هذا النّص فترفعه إلى توهّج شعري نادر وتمنحه النّفس الملحمي المهيب و تربطه بمناخات القصص القديم. يبين لنا علي اللواتي كيف أن "بستاني الخمسة عشر مساءا" قد كتب بلغة فرنسية ثريّة مشحونة بإيحاءات كونية متجاوزة للحدود والثّقافات، دون تحذلق في العبارة أوتكلّف "غنائي" يفتعل المهابة و يتصنّع الجلال وينتحل الجماليات القديمة لبناء حداثة زائفة. بل إنّنا نلمس فيه أحيانا روحا طفولية لاهية وحكيمة في آن، تحوّل الإنبهار بالعالم إلى تأمّل صوفي في أدقّ تفاصيل الأشياء وتنفذ بيسر إلى أعماق النّفس البشرية. وهو فوق ذلك نصّ ينتمي قلبا وقالبا، في نبرته ومضامينه، في أدواته التقنية ومرجعياته المعرفية، إلى عصره؛ عصر تنتفي فيه الحدود وتتواصل الأفكار وتتقلص المسافات، وتعمل فيه الثورات التكنولوجية والإتصالية على ايجاد وعي كوني جديد.

شعر التفكيك

وينطبع النصّ إلى ذلك برؤى جمالية تستلهم مختلف الفنون، فيغتني السّرد بتقنيات الصوّرة التّشكيلية في مادّيتها و مجازاتها. كما تستحضر الموسيقى في علاقاتها اللاّمتوقعة مع الأشياء و أحيانا تمتزج التّعابير وتختلط باختلاط الحواسّ واضطرابها على أنّنا نلمس في هذه الكتابة الحضور المهيمن للعمارة كموضوع و كأنساق بنائية وكفكر باحث عن واقع الحيّز في مختلف أحواله وعلاقاته. وهو فكر لا يتوانى عن نقد أسسه ذاتها؛ و مردّ ذلك، لاشك، كما يقول علي اللواتي، إلى كون سمير مخلوف معماريا من حيث تأهيله. و لكن صفته تلك لم تدفعه إلى إنجاز بناءات، بل أهّلته لخوض مغامرة كتابية شعرية. إنّه يرى أسوة بالمعماريين " التفكيكيين " (إن صحّ هذا التّعبير) في إثر فيلسوفهم جاك درّيدا رائد التفكيكية (Déconstruction)إنّ العمارة في جوهرها لا تـُعرّف فقط بخصائصها التّقليدية كإنجاز وظيفي ومكتمل ومغلق، وإنّما أيضا وبالأخص، بقدرتها على المساءلة والدفع إلى قراءات في اتّجاهات مختلفة، حتى لاتكون ثباتا وانغلاقا بل مراوحة بين ما قيل و ما لم يقل، وانفتاحاعلى كلّ إمكان ورفعا للحدود وزعزعة لبنى الرفض و الإقصاء، بحيث تعني النزوع نحو ابتداع المستحيل والتّماثل مع التجربة الشّعرية و لعلنا نظفر في هذا النّص بتطبيق واضح لهذا المفهوم "التفكيكي" في مستوى الكتابة، حيث أنّ البناء هنا لا يدّعي الرّسوخ و التّمكن والإكتمال ولا يطمح إلى الديمومة بل يرمزلمسار العقل المتقصّي وحركة الملكة المعرفية الدّائبة لتملّك الواقع والإخبار عنه. وهو لا يعدو أن يكون "جهازا" (في معنى dispositif ) معدّا لاستدراج القارئ إلى أحاسيس و تصوّرات و ردود فعل إزاء بعض مظاهر الواقع مثل المدن والحدائق وتعبيرات الحيّز والبنى الرّياضية وغيرها، ممّا ينشأ ويستمر ّفي هوامش مفتوحة للتيه وأسفار الخيال والفكر، في موضع وسط بين ماديّة الواقع وإيقاعاته وبين حركة العقل أو الملكة المعرفية في تأويلها له.

شعر السرد والصورة

إنّ الكتابة معنية هنا باللحظة المبدعة، لحظة التّقابل أو الصّدام بين المنتظم واللامنتظم بين البناء واللابناء، بين الثّبوت والانفلات دون الاكتراث بما ستؤول إليه المواجهة والإكتفاء بما تحدثه الصّدمة من هوامش غير مستقرّة قد تتولّد فيها عوالم اللاّ إمكان. ونلاحظ جرّاء ذلك، ودائما مع علي اللواتي، رجّات دائمة وانتفاضات مستمرّة تهزّ النّص، يعبّر عنها التّضاد والمفارقة ومقاربة الأشياء من زوايا نظر متعددّة فتنتقل الرؤية بسهولة من بعد إلى بعد ومن مستوى إلى آخر و تراوح بين الذري وما دونه و بين الكوني، موسّعة حدود الإدراك على غرار ما تتيحه أدقّ الأجهزة التكنولوجية. ويتحوّل النصّ إلى حاجز وسيط interface ، تنعكس فوقه حركة مدّ وجزر بين محاولات تحكّم وتنظيم عقلية أو معرفية في فوضى الواقع و بين اجتياحات معاكسة تأتي من ذلك الواقع ناسفة كل بناء و منطق ما قبلي ليتحقّق الشّعر كحركة كونية دائبة. نتوهّم لبعض وقت، ونحن نقرا هذا الأثر، أننا بإزاء رواية ولكن الشخصيات (الراوية، العرّافة، السّيدة العمياء ) تبقى متردّدة بين الإختزال والتقطّع مما لا يسمح لها بأي تكثف أو نموّ بالمعنى الروائي، و ينبني السّرد على هيكل بالغ التجرّد لحكاية إطارية بسيطة تتلخّص فيما يلي: يقرأ أحدهم إعلانا بإحدى الجرائد يقوده إلى عرّافة في إحدى المدن فتأمره بالذهاب إلى سيدة عمياء تقيم بمكان غير محدّد ليروي لها خمسة عشر حديقة. ويتوزّع العمل إلى خمسة عشر نصّا تروي أو تصف الحدائ و تتخللها بالتناوب خمسة عشر فصلا تصوّر لقاءات الشّخصيات المذكورة و علاقاتها على غرار الخلاصات الوصفية للسيناريوهات السينمائية. ويحيل التوزيع الزمني إلى خمسة عشر مساء والبنية المتراكزة للحكايا الثّانوية، على تقاليد أدبية تنتمي إليها آثار مثل ألف ليلة وليلة ودون كيشوت لسيرفانتس والديكاميرون لبوكاتشيو.

شعر الخيال العلمي

ويحفل السّرد هنا وهناك بقصص ثانوية تتنوّع مناخاتها و تضيف تلوينات خيالية إلى جوّ الحدائق المروية ؛ فكأنّها عناصر معمارية روحية تدخل على الحيّز المادي فتثريه بحركة طارئة تحوّر ميزاته الأصلية؛ منها قصّة الدّعسوقة و السّرطان الأشعر ذات الروح الطفولية (الحديقة السّاحلية)، وحكاية خلق النّبيذ المطبوعة بالأجواء الميثولوجية(حديقة الرّياضيات) أو بناء المدينة البحرية (آلغا) القريبة من الخيال العلمي. كما يمتزج السّرد بأجناس مختلفة من الكتابة مثل الملحمة المصوّرة لأحوال الإنسان في حلّه وترحاله وإطار حياته أو بالنبرة المتأسّية للمراثي. وإلى جانب الإندفاق الغنائي يغنم النصّ حيويّة غير متوقّعة من المادّة العلمية والتّقنية والتّكنولوجية ترفد سيله الحامل لتراكم التجربة المعرفية الإنسانية، فتتعقّد بنيته بتراكم أشكال مختلفة من الواقع مثل العوالم الإفتراضية والأحياء المجهرية و فيزياء الجزيئات وغيرها التي تتنضّد أوتتداخل أو تنخرط في طواف يخدّر الحواس تارة وتارة أخرى يشحذها لتبلغ طاقات إدراكية وتخيّلية عالية.

شعر الحب

ينبهنا المترجم علي اللواتي في مقدمته التفسيرية الرائعة لهذا النص المدهش حقا، إلى ضرورة رصد كيفية تعامل الشاعر سمير مخلوف مع المكتوب كمادّة ينحتها و يرتّبها مثل فخاخ تنصب للعقل، بحيث يساق من يسقط فيها إلى عوالم ذات مذاقات جديدة هي مذاقات الشعر... فالشّعر عنده ليس تنميقا للأشياء و انتخاب ما يتميّز منها بـ"شاعرية" يصطلح عليها، إنّما هو استيعاب لكلّ إمكان في العالم بل تجاوز له إلى "اللاّإمكان". يقصّ الرّاوية على السّيدة العمياء المستلقية على تختها الحريري حدائقه التي تتخّذ أشكالا غريبة تنأى بها أحيانا عن المواصفات المتعارفة للحدائق، فقد تكون مدنا مثل ميليز المدينة الأسطورية الميّتة التي يحلو له وصف سيرورة رجوعها إلى الحياة، أو آلغا المدينة البحرية ذات العمائر المتحوّلة أو مدينة أودنيدراج التي يتدحرج المرء من أحد جانبيها إلى الآخر مستهديا بحاسّة اللّمس ويحمل الرّاوية السّيدة المنصتة إليه إلى طائفة من المواضع المستحيلة على بساط من الكلمات المشبوهة المخاتلة الولوعة بالجناسات و التّلاعب اللّفظي؛ ونجده أحيانا يشكّك في قصّته ويتساءل عن منطقها مثلما يتعمّد صاحب الألعاب السّحرية كشف أسرار ألعابه. ليس ذلك مهمّا في مذهب الشّعراء ما دامت الكلمات تحملهم في هذائها المضلّل والمخلّص معا إلى ماوراء الممكن، إلى ماوراء جدران سجن الواقع؛ فليس الخضوع للمنطق المتعارف سوى تبعيّة للسّائد والجامد، وقد يكمن الخلاص في تفكيك الخدعة السّردية والدّخول في مغامرة بنائيّة جديدة يقرّر الكاتب في النّهاية أنّ الحقيقة الوحيدة هي الحبّ ويجعله آخر حدائقه، ويختم القصّة بتحابّ الرّاوية والسّيدة المسترخية على التّخت الحريري. ومن هذه الزّاوية تتجّه خطوط نصّ سمير مخلوف وقواه نحو امتداح الحبّ والإحتفاء به؛ الحبّ تلك الحديقة التي جعلت بوابتها من كلمات على داخلها أن ينطق بها لتتكوّن؛ الحبّ كتكثّف للكينونة وتزامن للوجود والفناء، الحبّ كذروة تذيب الجسد والروّح في تجربة المتعة كما يكتشفها طفل يترك أخيرا ألعابه المنزوية وضلال الكلمات المشبوهة التي يتعزّى بها في عزلته إلى لذّة اكتشاف الآخر.

مقتطفات من بستاني الخمسة عشر مساءا

1 . ميليز

فوق مدينة ميليز العتيقة، تلك التي لا ثراء لها إلاّ ما تكسبه من كيفيّة هتاف مواطنيها باسمها ؛ تلك التي ينحِت حلاّقوها ـ فيما يقال ـ الهواء الذي تتركه الشّعور إذ تتحرّك. فوق ميليز الجديدة مسافرون جدد أراحوا أفكارهم، مقيمون جدد حطّوا رحالهم.

ربّ مواضع على الأرض تلائم الخور و الخطل الإنساني.
فهل لها أفضليّة عند الآلهة؛ هل هي محبّبة لدى الشّياطين؟
هل هي مزيج مو فـّق بين الجغرافية و الأثير؟

إنّها أمكنة صغيرة أكثر احتضانا من سواها لخيمياءات نادرة مثل احتراق حيل العلم و الشّغف لتبقى عمائر الإرتعاش و نحوت الأرواح و الموسيقات الواشية بأبعد جنح الحياة غرابة، كأبنية رقيقة تزبد فيها خلاصة الفكر الإنساني.

ميليز، ميليز ! لماذا هجرك عاشقوك تاركين شوارعك البللّورية لبربريّة الرّياح، تاركين تماثيلك عارية من الأنظار و قصورك خلوة من أيّة أقاويل؟

و أنا - سيدتي – المسافر ذو الواجبات المجنونة، رأيت الحيّز خيطا يتصرّف بين الأصابع وكانت حديقته النّظرة التي يستغرقها الزّمن لتعديله.

زعموا إنّ المشكلات العقارية خرمت توازن الحبّ الضّروري لحياة ذلك الصّنف من المدن. يقال إنّ الأجانب أسيئت معاملتهم و أنّ كره الأغراب ذاك قتل الدّولة، دولة براءة صباحات ميليز التي من دونها ينهار غليان النّهار كلّه ولا يكون اللّيل سوى مدجنة للضّجر.

يقال ايضا إنّ موضة جديدة تؤثر الزّمان على المكان، انتشرت هنا، مغيّرة بعض القياسات المتناهية البساطة للدّيمومة، تلك التّغييرات اللامدركة في بداياتها جعلت المدينة، فيما بعد، عدائية. عدائية إلى درجة
غدت معها موحشة فهجرها أهلها غير آسفين.

حكايات أخرى تجري من باب التّسلية على ألسنة الميليزيّين الجدد. لست أعلم حقيقة تلك الهجرة؛ غيرأنّي أعرف لماذا أعيد إعمار المدينة

لم يستول عليها أحد و إنّما هي التي استولت.

هامت ميليز عشرات السّنين في مملكة المدن الأشباح. لقد رزنت حيّزيتها كما تُختبر الفتنة أمام مرآة. قوّست كامنها من الحياة بتحويل مسار طيور و عظايات. هجّنت سلطة الأسماء مع سلطة الحكايا. سبرت إكسير الحضور بوساطة بعض الطّحالب وبعض شقوق الحيطان وبعض موسيقات الرّيح التي ضبطت اعتدال جوّها؛ إنّه واقع لا يراه البشر، ينتمي إلى عالم العمارة و القدر.
و بعد تهدئة تلك التوتّرات أختطّت طرقا توضّحها الصّوى أتى منها بعض الرّجال مع أسرهم، ومواطنوها الآن هم أحفاد أحفاد أولئك.

لحدّ الآن، هي تلك الصّوى ذاتها التي توضح السّبيل إلى مدخل المدينة. لذلك فلا وجود لتلك الطّريق على أيّ خارطة. إنّها هناك بمحض الصّدفة أو تكاد.

لو أنّك، ذات يوم، تزمعين كتابة قصيد و ليس لك سبب أو حبر و إنّما مجرّد تنفـّس حجلة لنشرالموجات؛ لو بدا لك أنّك ظفرت، في موضع ما من الحيّز الذي يأخذك، بشبه خرق من خلاله يبدو جسدك مُـراجعا لغضونه، فهناك احتمال قويّ أن تقتفي خطاك الآثار المؤدّية إلى ميليز.

لكن كلّ ذلك ليس صحيحا، سيّدتي، و لا يعدو أن يكون ما أردتُ أنا تصديقه. بوسع الجميع أن يذهبوا إلىهناك، فالصّدفة ليست وفيّة للمنطق الأشدّ صرامة و لا للحدود. هناك خرائط جغرافية تحوّل خطوطها، طلبا للتّسلية بلا شك، إلى تصاوير بربرية تتشكّل فيها أبوابٌ رفيعة ذاتُ مقابضَ غريبة.

و لكن هل هي الحمّى تصيب حواسّي بالإضطراب؟ مع ذلك أقسم لك أننّي رأيت الحيّز يغيب بين صُوّتين من أن أجل أن تأتي زهرة للإقتران به. و أنا ، وقد أردت تشمّمَ عطرهما، زوّجت أحدَهما الآخر.

هناك أحياز تشتملها جزيئات الغبار و لقد دلفت إليها.

عندما دخلت هواء ميليز الحارّ، كان ذلك بمحض الصّدفة.
في ذهابي إلى حيث لا أرغب، تباطأت في جرّ الخطو حتّى أضحى يجرّني. إنّ للخطى و الحال تلك، حساسيات يجهلها العقل، لذا فهي تفضله انخراطا في الرّقص. و خطوتي قد تكون أدركت تواترات عذبة منشؤها بعض عطاس الحيّز فذهبتْ لرؤيتها عن كثب؛ وهكذا كان الدّخول إلى ميليز.
دخلنا ميليز من باب التّمنّي؛ وكان مقبضه لونا ينبغي استنباطه.

لو رأيتُ هذه المدينة من الطّائرة لقلتُ لكِ إنّ لها دروبا متعرّجة تمرّ بين بنايات قديمة تبثّ فيها ألف رقشة و رقشة زخرفيّة مع ظلالها الرّوائية و ذاكراتها العاشقة؛ لقلت لك إنّ شوارعها تصرّف أنوارها حول ساحات عضويّة تعلـّلها نافورات حجرية أو أشجار توت برّية؛ لقلت لك كلّ ما يقال عادة عن المدن ذات البنايات المرهفة حيث ترغي، كجوهر فكر إنساني، عمائر الإرتعاش، نحوت الرّوح والموسيقات الكاشفة عن أبعد جنح الحياة احتمالا.
لكنت وصفت لك ميليز القديمة دون أن أحدّ ثك بشيء عماّ هي عليه اليوم.

و ما ذاك لأنّ مدينة جديدة قد تكون مختفية في الدّهليز أو مطويّة في تكنولوجيات زجاج و أشابات شفـّانية تخفّ فلا تـُرى. إنّ جدّة هذه المدينة تكمن في طريقة إعادة إعمارها من قبل مواطنيها الجدد.

لم يلمسوا أيّ حجر و لا أيّ صدع ولا أيّة عظاية. لم يحرّكوا أيّة عشبة طفيلية.

إنّ الهولوغرافيا غامضة، و لكن لعلّنا لا نوجد إلاّ في موضع ما من قفاها.

و حيث أنّهم سراع في استعمال تداخل التموّجات فيما دون الذرّي، مثلما كنّا سراعا في استعمال الحجارة و الكلمات، فقد ركّزوا منظومة استغلال للحيّز حسب مسارات يزيد استقرارها أو ينقص.
ولقد طابقوا المدينة القديمة بشبكات متحوّلة افتراضية.
و الملكية أعيد توزيعها حسب خطوط يسمّيها السكّان " لبلابا".

إنّها إدارة لنقاط استدلال حيّزية لا تعرفها المجتمعات الإنسانية و لكنها ليست غريبة عن القطط أو الحمام.

إنّ " اللّبلاب " قطع من حيّز متّصل، تزيد أوتنقص مرونة و ديمومة حسب وظيفتها. إنّها تعبر المدينة العتيقة حسب مسارات يغلب عليها التّعرّج و تنشر ، مثل أوراق اللبلاب، بعض نتوءاتٍ، جسيماتٍ حيّزية صغيرة : غرفة، ساحة، شرفة، رواق...
إنّها مثل أنشوطات مطّاطية يُـتلاعبُ بها على أصابع اليد.

و أحيانا تنفتح الأيدي وسط اللّذة؛ أحيانا تتشنّج الأيدي ، إنّها تمسك بعالم ما و أحيانا تنفرج فتنفلت منها الثّواني.


إنّ لخيوطها المطّاطية شكل معابرَ رفيعةٍ لا يتجاوز عرضها في بعض المواضع المتر الواحد، ولكنّ طولها يبلغ بضع كيلومترات. إنّها جنس هولوغرامات تنجزها براغيث إليكترونية منثورة مثل جزيئات الغبار في كامل المدينة. و كلّ ساكن يملك بطاقة ممغنطة بها شاشة و يستطيع تكوين حيّزه يوميا بشدّ أنشوطته إلى الصّوى الميكرو فيزيائية فتصبح ملكية ذلك الحيّز له.
إنّها ملكية مؤقّتة.

لها مناطقٌ حرام؛ هي المواضع الحميميّة، و المادّة الهولوغرافية التي تحدّدها تتشكّل على نحو يعكس للجيران و المارّة صورة للحيّز الدّاخلي لا تبدو ساكنة إلا ّبالنسبة إلى الزّمن؛ و هكذا تؤمّن لها الإستمرارية الزّمنية وفي الوقت ذاته تحمي ساكنيها من الأنظار. وفي المقابل يستطيع ساكنوها، حسب مشيئتهم، إمـّا تجميد صورة الخارج أو ترك الشّفافية في وضع اشتغال؛ وحينئذ يكونون الشّاهدين، من حيث لايُرَوْن، على حياة المدينة.
و لها مناطق تداخل و تقاطع لأنشوطتين. إنّها نقاط عبور بين الممرّات تؤمّن السّيولة المحجاميّة للمدينة، و تضمن تنفـّسها.

و هكذا يملك سكّان ميليز أجزاءً من مدينة يعيدون تخطيطها كلّ يوم. إنّهم رسّامون للّحظات، مبرمجون لمواضع مدنيّة، تقودهم قرائحهم أو الإنحناءات التي يميلون إلى الشّغف بها أو خيوط الحكايات التي تمرث الحقائق.
و بعضهم يؤلّفون مرافق بيوتهم الدّاخلية كما تُـمزج الألوان على مِلْوَانة، كما تُـتَقصّى خاطرة صوت أوحياكة أو رائحة.

و داخل تلك الممرّات يحسّ المرء بأنه داخل بيته، ينطرح وسط ساحة فلا أحد يراه ولا قالٍ يزعجه.
و إذا سكنت عائلة بأكملها أنشوطة واحدة فإنّ أفرادها يعترض بعضهم بعضا و يلتقون في حميميّة تامّة. وبوسع الأطفال اللّعب من طرف بيتهم الخطّي إلى طرفه، من أقصى المدينة إلى أقصاها، و أهلهم على معرفة أنّهم لن يتيهوا.


هناك حدائق أزهارها فترات، هي الزّمن الذي يستغرقه تناظر ما لإمتاعنا، الزّمن اللاّزم لسبر الرّفاهات بين واقعين.


في حيّز ميليز ثمّة مناطق لا يمكن دمجها في أيّ مسار. إنّها تستقبل عادة الأحياز المغلقة : غرف، مطابخ، ملحقات؛ هي جيوب من المدينة ملكيتها دائمة، غير قابلة للتّقسيم؛ و كلّ عائلة تمتلك منها واحدة
على الأقلّ، تحمل اسمها ممّا يسعد ساعي البريد و من هم الأكثر تقدّما في السّن.

هنا لايوجد فندق و الزوّار الرّاغبون في الإقامة بعض الوقت يُعطَوْنَ بطاقات ممغنطة فيؤلّفون
مثل الميليزيّين حيّزهم، غير أنّ بطاقة الزّائر تلك غير دائمة.

لقد سكنت يومين في تلك الشّبكات الهولوغرافيّة.
هيّأت مواصفات أنشوطتي العقاريّة ممدّدا إيّاها على طول الرّحبة الأمامية للمكتبة البلديّة حتّى المَطَـلّ الكائن فوق المرتفعات. و على امتداد هذا العقار الفاني دمجت ركنا ظليلا من سَطْحَة مقهى الحلاقين وجزءً من زقاق العاشقين، و غرفة نوم من بيت النّجّارين.

سافرت طيلة يومين في قطعة الحيّز تلك، كمن يسافر في كتاب تاريخ، كاشفا في بعض الخلوات عن المتع المخبّأة و انحناءات الزّمن و الإهتزازات اللّطيفة للظّلال الخاوية لكثير من الأسرار و عادات الأيّام التي صرف الأقدمون في نحتها كثيرا من الوقت و الحضور.
إنّها المرّة الأولى و الوحيدة التي نمت فيها في حضن مدينة !
هدهدتني بهمساتها، و اجتاحتني كبحر دافئ؛ لقد أحبّتني !

حدائق ميليز هي التي تقرّر إن كنت عاشقا أو معشوقا، و رأيت فيها مدينة تحلم.

وفي اليوم الثّالث زرت حدائق ميليز.

حديقة النّظرات، حديقة الرّوائح، حديقة الظّلال و الأضواء أو حديقة المعابر؛ إنّها مسارات يقتفيها المرء إذا ما قرّر أية زهوريختار.

لقد قرّرت أن تكون هناك حديقة للنّسيان، علم الله لماذا. إنّها حديقة ذات زهرات ثلاث.
الزّهرة الأولى تكون كوّة في بيت جاثم فوق المرتفعات. هو بيت ساعي البريد. ترى فيه قطعة من بحر. تشاكس زرقته شرفات ميليز المطلية بالجير، كما يلوي طفل شعر أمّه. قطفتها في الصّباح الباكر؛ وضعتها في مزهريّة. مزهرية من كلمات و أنفاس. هي ذي تنفخ في روحي أفكار امتزاجات.
لو، في يوم، يكون لبيتي أبواب من بخار متكثف؛ لو، ذات يوم، أقول لك إنّ ثوبك نافورة، فما ذاك لأنّي شاعر و إنّما ذاك حيّزُ زهرة.
الزّهرة الموالية زاوية في شارع الصّيّادين يحجبها ستار من الدّوالي. ترى فيها السّاحة الصّغيرة تقصف في يوم عيد، سكرى من ثمار وظلال، تلاعب الشّمس فوق بلاطها الرّاقص. لقد نزعتُ أوراقها حتّى النّسغ، حتّى سرّ الفواصل المنتظمة.
الزّهرة الثاّلثة رؤيا، طـَرفة جفن بين طائر و حجر. فيها تنكشف ميليز. إنّها تصلّي. تبتهل إلى اللـّطف أن يكسو أيّامها و لياليها. لقد تشمّمتـُها حتّى الحلم، هناك حيث الهواء كذبة توسِعُ العواطف حتّى لتصبحَ اسفنجات.

لقد زرتُ حدائق أخرى، و لقيتُ أزاهير أخرى.
منها حديقة من عشبة واحدة.
عشبة تنمو داخل صدع دون أن يُطلب إليها ذلك؛ وقد أربكتُ ظلّها. خرج منها حلم بلا تناسق كفاصلة ذات طراوة نديّة.


حلم مدينة
كان تنفـّسا للأمواج، حركة واسعة مثل المحيط تارة ـ للمدينة رغبات بحجم الأكوان ـ وتارة مثل لؤلؤ ، زبد أبيض. المدينة تنشد حدود روحها على كلّ ملاط في جدرانها البيضاء. و أنا، على مدى ثانية، ثانية واحدة، و قد سحرني ذلك الإنطلاق، انتسبت إلى ميليز، لا كأحد مواطنيها أو سكّانها. كنت، ربّما لثانية واحدة، نجيّها وربّما بستانيها.

لقد روى لها حدائق ميليز.
روى لها أوّل الخمسة عشر حيّزا حيث خمس عشرة حديقة ستتفتّح على مدى خمسة عشر مساء.


2. حديقة الرّياضيات


في زمن ما كنت اشتغل موظّفا في ديوان إداري، لم أعد أذكر ما الذي كان يدار فيه و بماذا كنت مكلـّـفا.
أذكر اليوم الذي غادرت فيه العمل في ساعة غير قانونية، هازئا بتسجيل الدّخول و الخروج، سالكا طريق التّلاميذ الهاربين من الدّرس.
كم لطيفة تلك الطريق و كم نادرة !

ما نلقاه فيها يتميّز بحدّة ضارية؛ نذوق المدينة حتّى السّكر. حواسّـنا مثل عدسات محدّبة تعوّج، فيما وراء الشّـذوذ، كلّ ارتعاشات الحياة. نصبح ما يسعى عمل الفنّانين إلى الإبقاء عليه: انفعالا متنقــّلا، لعبا مع اللـّذة؛ نصبح ذاك الذي تأكله نار الفنّ. و الزّمن كما لو انتُخِلَ عبر غربال رفيع، يتفتــّت حتّى لا يصبح سوى كثرة من القطيرات مشحونة بعوالم و مواضع و ألوان.
للأسف، توجد بين تلك القطرات ، لا محالة، واحدة لها طعم النّدم. لها الصّبغة التي تدبغ الأشياء الطّيبة وهي في نهايتها.
لقد انفجرت في وجهي، لامفرّ، و لم أكن أتوقــّع ذلك. كنت أرتدي بدلة خضراء فستقية مع ربطة عنق خبّازية على قميصي الأبيض. كنت أنيقا و خفيف الحركة. قرّرت خلافا لكلّ الأعراف أن لا أستسلم لمرارة الخيبة.
ليس سهلا أن نقطع إجراءات القدر، و ليس هيّنا أن نغالط الجمود اللّعين الذي يمغنط المواقف العادية للموظّفين العاديين.

مع ذلك فإنّ قوّة أقوى من كلّ تلك السجلاّت جذبتني.
جذبتني نحو حديقة.
و حيث أننّي قرّرت أن أكون حرّا في ذلك اليوم، فقد تركت خطواتي تقودني إليها.
ولم أندم على ذلك ، سيّدتي.
من مجمل فترة خدمتي، تبقى تلك المغامرة أحلى ألوانها؛ انفعالها الوحيد.
و فوق ذلك، كان أن سمحتْ لي بإهدائك حديقة إضافية، و لو لم تفعل إلاّ ذلك، لتحمّلتُ من أجلها كلّ توبيخ.

الحديقة من إنجاز عالم رياضي هامشي، ينكره نظراؤه؛ يعجزه الانحناء تزلفا للمؤسّـسات. ورث ثروة كبيرة فأنشأ حديقة أحلامه. غرسها في موضع لا يمر منه سوى التّلاميذ الهاربين من الدّرس.
لذا إن أنكره النّاس المنتظمون مثل الأعيان و المسؤولين، فلا تستغربي الأمر؛ ثمّة طرق لا تتقاطع أبدا حتّى إذا لم تكن مساراتها متوازية.

حديقة مكوّنة من تسعة أقسام.
إنّها تسعة مكعّبات؛ حجم كلّ واحد منها كاف ليسع نخلة بالغة.
المكعّبات موضوعة أفقيا يلتصق أحدها بالآخر حسب بنية ثلاثة في ثلاثة.
هناك إذن مكعّب في الوسط ، تحيط به الثّمانية الأخرى.
إنّها بالكاد مكعّبات، فليس لها ، فعلا، هندسة منتظمة تماما.
و مجمل القول إنّ لها ،من حيث الشّكل و الخصائص الفيزيائية و الحياكة والملمس و المظهر، هيأة تسعة قطع ثلج موضوعة الواحدة إلى جانب الأخرى، تتلامس من خلال تحدّبات خفيفة تتبعها مساحاتها أكثر من تلامسها صراحة بسطوحها المنبسطة.
و ليست علاقتها بالأرض التي وُضعت فوقها بأكثر صراحة. فكأنّما الحديقة معلّقة فوق ظلال شفــّـانية وطافية. و إذ نقترب منها، كأنّ كأس كحول ذات جنبات بالغة الشّفافية راشحة بالبرودة تأتى لتلفـّـنا بضباب فترفع نحو أرواحنا تعرّجات النّسيان؛ و ذلك حسن.

دلفت إلى هذه الحديقة من قطعة ثلج اللـّون.
يمكن الدّخول إليها من أيّ من قطع الثـّلج المحيطة. و يبدو أنّ الحديقة تكون مختلفة باختلاف المكعّب الذي يُدخل منه إليها.

مكعّب اللّون


هناك سياج لا شكل له و إنّما يوجد من خلال الانطباع الذي يثيره. و ما أحسّه هو انطباع عن موضع محميّ، مخفيّ عن الأبصار و الرّياح. حالة حميمية، موضع مسوّر مقصور على حركتي المطّردة. أحسّ حدّا ينتشر حسب انحراف دليلي، على امتداد يدي مثل نبضة لون لا تظهر على أيّ جسد.
إن ّحيّـز هذا المكعّب مجبول من لون .
لا منظور له ولا عمق.
و اللون لا أبعاد له.
يخترق جسدي مثل ماء، فيصبح مثل قطعة سكّر منقوع في قهوة. يبدو كأنّه يتحلّل في اللّون حتّى
لا يكون غريبا عنه ولا يصبح حدّه بشرتي ولكن اللاّنهاية الخرساء للخضب. حدّ غريب حقـّـا ينتج عنه أن يضحي الإحساس بشخصي ليس من قبيل الكتلة. لقد غيّرت نقاط استدلالي. إنّ ما هو غريب عن كياني الفيزيولوجي ليس هو العالم الذي يدفعه جسدي ، و إنّما الموجود وراء طيف ضوئي. وراء أطوال الموجات للون العنب.

لون العنب سيّدتي.

لون تلك الثـّمرة المضيئة هو الذي يميّز حيّز هذا المكعّب. هو الذي يشكّل سياجه الطّيفي.
يخبُرُه المرء عند الدّخول من هذه القطعة من الحديقة.
عند الخروج منها يخْبُرُ قيمَها التّكاملية.
بين الاثنين يُعْــبَـرُ إلى المكعّب الموالي.

المكعّب مورفوزيس


يوجد في هذا المكعّب شكل كرسي، و لا شيء سوى ذلك.
حيّز هذا المكعّب له شكل كرسيّ.
و ما ذاك لأنّ هذا الحيز قد يكون لعمارته شكل كرسيّ.
إنّه، شكلا، كرسيّ. أعترف لك أنّه واقع صعب التّصوّر، لكن، مع ذلك، هذا ما وجدته هنا.
إنّه حيّز لاتوجد به سوى توتّرات و ما تدخله التّوتّرات على حركاتنا من تعقّـل: لحظات صغيرة نحسّ خلالها بأنـّنا نستمرّ، كلّ مرّة في شكل مختلف قليلا، كلّ مرّة أكثر اكتمالا قليلا، دون كمّ ما أو علامات استدلال. فلا ثوان ولا أمتار ولا غرامات ولا أيّ رقم يختزن هذا العالم.

لقد تدحرجتُ في عالم الأشكال. لعل وعيي يكون فيه أشبه بشهوة. شهوة بلا تعقّل، بلا رأي. قيمة انزلاق مطلق على إثر الاحتكاكات.
شهوة أن يرتخي الجسد فوق الانحناءة المذهلة لشكل كرسيّ من الخيزران.

و في هذا الغياب للكمّ، تلاشى انتباهي.
و دون أن أفهم ، خرجت من هذا المكعّب المذهل و أنا أحمل انتفاء فكرة عن السّعادة ملأني سرورا.

المكعّب الوظيفة


هو المكعّب الثّالث من الحديقة.
ما سقفه سوى فتحة فسيحة على السّماء.
يُستعمَـلُ معبرا بين القسمين الثاني و الرّابع.
ليس له ، فيما يبدو، و وظائف أخرى.

عندما نعبره إنّما نعبر فراغا وظيفيا.

مع هذا الغياب للأسباب يتعاظم العقل و يبحث، مهما كان الثـّمن، عن مجال استمرار.
إنّها مسألة توازن.

هو ذاك عقلي مشتّتٌ في الحيّز. قد يستسلم لأوّل طفيليّ يلقاه، لو يعده ببضع خطوط مستقيمة، بضعة ملاجئ، بعض العناوين التـّأمّلية. إنّه منفجر، إنّه هشّ، و له الحبكة النّفيذة للتّساؤل.

ما النّفع من هذه الحديقة؟
ما النّفع من سترتي الخضراء الفاتحة؟
ما النّفع من الرّقص؟
ما النّفع من السّماء؟
ما النّفع من طرح هذه الأسئلة؟

سترتي تصلح للخداع و الحديقة للسّفر. الرّقص لا نفع منه. و السّماء تصلح للرّقص و النفع من هذه الأسئلة أن نجد.

أجبت هكذا و لكنّ شيئا لم يحدث.

النّفع من سترتي أن ألبَسها. و الحديقة تصلح للاستراحة. والنفع من الرقص التّسلية. السّماء تصلح لحماية الأرض. و هذه الأسئلة لا تصلح لشيء.

كذا أجبت ولم يـُـنْـجـَزْ شيء.

سترتي طريقة لأختراع جسمي. و الرّقص طريقة لإخصاب الزّمن. السّماء متفرّج على تسليات العاشقين. الحديقة طريقة للعطاس. و هذه الأسئلة صُوًى تجعل توافقات حركاتها مزبدة.

أجبت بأساليب مختلفة أخرى منتظرا حدوث شيء ما ؛ أن تنفتح مغارة، أو يهبط اللّيل؛ أن يصفـّق جمع من النّاس أو يخرج آلاف من البطّ من قبّعة سوداء.

أجبت حسب أشكال متنوّ عة من المنطق، آملا على الأقلّ تجميع عقلي المفتّت.

وجدتـُني و معي كمّ من الوظائف المنسوبة إلىالسّماء و الحديقة و سترتي و الرّقص، بحيث ملأت كل ّحيّز المكعّب مثل آلاف من الجزر صارت ـ بحكم عددها ـ أرخبيلات و الأرخبيلات أرضا طينيّة تنحرف بمسيل المياه نحو اتّجاهات عدّة، إلى حدّ تتحوّل معه عن أيّ وجود ماديّ فلا تصبح أكثر من مجموع الحركات التي ترسم الأراضي و الغدران و الأودية و الهاويات و الإبتسامات و غيرها من التّعابير المصطنعة.
وجدتُني و على أطراف أصابعي قوّة اختراع لمسي يعطي للطّين وظيفة الأرواح.

استبدلت ذكائي بذكاء المذاق الذي يعطي لوظيفة الأشياء أناقة لحظة دون افتعال، على حساب خضوع ما.

أناقة حبّة عنب.
أناقة كرسي موضوع تحت السّماء.
أناقة رغبة في الجلوس للإنصات إلى تحرّك لون.
أقسم لك، سيّدتي، إنّني عند التّفكير لم أعد أستعمل أيّ لغة!


مكعّب التّخوم


ندْخــلُ إليه مثلما يدخل الصّيف دون فتح أيّ باب.
ننتصب في المعبر؛ في حركة فعل عبر؛ هناك حيث لم نعبر بعدُ لا في الصّيف الذي مضى ولا في
الخريف . متشرّدين فوق هذه العتبات. هناك حيث نكون بين وقتين. بين الرّبيع و الصّيف. بين الصيّف والخريف.
في هذا الموضع رزنت الجوّ مثلما تـُرْزَنُ ثمرة قبيل أن تـُـؤْكـَل.
ألا يكون نيئا أو طازجا أكثر ممّا يلزم. ألا يكون معتدلا كما ينبغي؟
سواء كان فاقد الطعم أو متعفـّـنا فهو يُـذاقُ الآن بالذاكرة، في المسافة بين الأسوإ و الأفضل.
إنّه نموذج.
إنّه لحظة التّخوم.

لقد رزنت في هذا الموضع تخوم الصّيف.

إنّها تحدّد حيّزا مشعشعا، حيث كلّ حركاتنا تُحوّل نحو الجمادية نفسها. جماديّة حركة غطسة.

إننا نترك كلّ ما هو خلفي، شرفة الغطس، الأ رضَ، العشبَ، الجاذبيّات، و الضّرورات، الخطوط والمستويات، الواجبات و الرُّهابات. و يُـتـْرَكُ كلّ شيء أمامي، البحر و تيّارات الهواء الصّاعدة، الهدف، العودة إلى الأوعية و إلى جاذبيّاتها. إنّنا في الجوّ.
لا نغطس في شيء ما ، لانغطس نحو شيء ما، لانغطس في أيّ موضع كان، إنّما نغطس فقط.
إنّنا في تباعد بين صوّتين يجتاحه الحاضر.
إنّها مادّة بصدد الإنتشار، مثل ديمومة مشعشعة، حيث الليل لايفتأ يهرق حبره.
و الشّمس لا تفتأ تغرب.
أنا لا أفتأ أحسّ لطفه على بشرتي و أسمّيه مثل طفل يكرّر كلمة، مثل صرّار يغنّي: صيف !

شبكت يديّ خلف رقبتي، و ضعت قدميّ في مهبّ النّسمات و فتحت أصابعهما مثل المراوح.
لقد أقمت في هذا الفصل الشّاسع؛ جاوزت عتبته؛ غادرت حدّه؛ و هكذا نخْرجُ من ذلك المكعّب.
نخْرجُ منه كما يخرج الصّيف دون غلق أيّ باب.



مكعّب العطر


إنّه يؤوي دعوة.
دعوة للتّمدّد. لترك الجسد ينسكب.
للحيّز بنية ليفية.
الأليافُ أنابيب تشبه ُزبانَى الحلازن و تملأ كامل المكعّب. و عندما يتحرّك المرء يُدخل عليها الإضطراب. و عندما تتقدّمين داخلها تنزلق على طول جسدك، أو تنثنى تحت قدميك، أو تنكسر أحيانا. والذي بينهما، أي المنطقة التي يبدو أنّك تمشين فيها، ليست بقيّة حيّز. ليست " ظاهر" الألياف، و إنّما هي حضورُُ لها في شكل آخر؛ تنظيم هبائيّ آخر يهيكل الموضع الذي كانت فيه قبل أن تدخلي عليها الإضطراب؛ تقريبا كما لو كانت تحمل في ذاكرتها و ضعها الأصلي و تحمل الحيّز الذي قد تكون مَسَحَـتهُ في أثناء تنقــّـلها، بتكاثر مادّتها الغريبة و قد انتظمت على نحو مختلف. و هكذا لا نكون أبدا خارج البنية الحيّزية التي تنظّم هذا المكعّب؛ و إنّما نكون في مختلف حالاته الماذّية التي توجد بحسب حركاتنا.

تدعوني أنواع السّويقات إلى الإحتكاك بها، تقريبا مثلما يجلب المخمل الملامسة. يدعوني بوحها إلى أن أنسكب فيها كما أنسكب في إثر عطر غضّ.
عطر العشب الأخضر الذي يضوع عندما نطأه أو عندما تمرث حرارة الشّمس الحياة التي تهمش بها.
مرّرت بها طرف جسدي على أشكال العطر كما تـُـمرّرُ أطراف أصابع على رسم شفاه حارّة.

لقد دخلت في لغة العطور عبر سفر محجامي.
تمدّدت في وشوشة كلّ تلك الإحتكاكات.
كنت عاشق المروج الحميم. كنت أعرف تنفـّـس العشب، أعرف كيف أنّ زمنه إسفنجة تمتلئ و تُعصر وتجعل من العشب شيئا مريحا.
و تجعل من الصّرّار...، ولكن تلك قصّة أخرى و هي مكتوبة في المكعّب الموالي.

مكعّب الحركة


إنّه المكعّب السّادس من الحديقة.

يقال إنّ أنثى الصّرار تجلب الصّيف؛ يقال إنّ أنثى الصّرار تنضج الثّمار. يقال إنّما هي قصص تحكى لينام الأطفال؛ و إنّ الصّيف هو الذي يخرج الحشرة من نومها، و إنّ الثّمار هي التي تجعلها تغنّي.

يقال إنّ أنثى الصّرار أميرة وإنّ لها منذ الأزل عشاق : الشّتاء و الأشجار. وفي الخريف تتقدّم من الحشرة وتبوح لها بالحبّ.

قالت : يتزوّجني من يهديني قصرا دائم الرّطوبة و كلّ مادّته شفـّانية.
قالت الأشجار: لا ضير، و استدعت الكرمة.
قال الشّتاء في نفسه هذا أمر سهل، سيصنع لها نديفة ثلج.
لكي يهدأ ضمير كلّ منها أرسلت جواسيس لرؤية ما يفعله الخصم.
فأخبر الغراب الأشهر الباردة بمشروع العنب؛ و أخبر اللّبلاب الأشجار بقرب صنع النّديفة.
آنذاك، يا للممارسات الخاطئة ! تقرّر اللجوء إلى التّخريب.
طفق الشّتاء يصنع البرد. جمّد استراتيجية النّباتات. ادّخر آلاف القصور في الثّلج في انتظار أن يحسم الأمر مع عدوّه.
و لكنه وضع أيضا من القوّة في المعركة ما جعله في النّهاية أقلّ اندفاعا.
حينئذ بدأت الأشجار تنمو و تبرعم و تتفتّح و تعرق وصوّرت الكرومُ عناقيدَ. و أنفقت من الطّاقة
ما جعل حرارة الجوّ ترتفع و الثلج يذوب و تتلاشى هدايا الشّتاء.
و لكنّها أنفقت من الطّاقة ما جعل الثّمار تنضج أكثر ممّا ينبغي، ففقدت الأعناب غضاضتها و التماعها.

فما استطاع أحدها أن يقدّم إلى أنثى الصّرار المهر المطلوب.
و لكنها كانت قد تسلّت في الأثناء بالتّفرج على حفل الفصول.
و لكن في الأثناء، شربتِ أيّـتها الأميرة الماكرة، من كلّ العصائر.
و آنئذ غنّيتِ.
إنّها لا تغنّي لتجلب الصّيف أو لتستدرّ عطف التّين، و إنّما لمحو ذاكرة الأشجار و الشّتاء؛ و هكذا في كلّ عام، و كأنّ شيئا لم يكن، تعود لمغازلاتها و لتدر عجلة ملهى الفصول !

يقال أيضا إن أنثىّ الصّرار ليست هي من يغنّي. و إنّما هي النّجوم التي تمقمق، فتستعمل تلك الموهبة لتسلية قريبة لها وحيدة، ليست حقّا مرحة و هي أميل إلى الزّرقة و لا تلمع إلاّ في الصّيف.

و لقد سمعتُ أقاويل أخرى كثيرة في هذا القسم.

إنّه مكعّب يحوّل غناء الصّراصير إلى حركات ، و تنتج عن ذلك قصص تأخذنا إلى نبرة الفرضيات.


مكعّب الزّمن


منذ متى دخلتُ إلى حديقة الرّياضي؟ منذ سبع دقائق؟ سبع ثوان؟ سبع سنوات أو سبعة قرون؟ منذ متى أقصّها عليك؟ لست أدري.
أعرف أن ّالزّمن عند دخوله المكعّب السّابع يتدحرج. يغيّر منطقه.
ندخل في نقطة الإستدلال الزّمنية للكرمة.
ليس هناك ثوان، هناك زوايا.
عندما مررت من هناك كنت في زاوية الانحناء الثّالثة عشرة لساق الكرمة التي تعد ّمنها واحدة وعشرين.
في الزّاوية الواحدة و العشرين يتوّقف النّسغ عن المرور فينضج العنب.
عندما تكون كلّ الأعناب قد سقطت، لايعود ثمّة زوايا و يطابق ذلك عادة نهاية الصّيف. نحن في الزّاوية الصّفر. لايطابق ذلك شيئا. الثّانية الصّفر. الزّمن يغيّر العالم.
إنّه هكذا زمن الكروم.
بدأ منذ آلاف السّنين، عندما قطفت آنسة، ذات يوم، ورقة عنب لتسترَعريَها.
و استغربت الكرمة ذلك الإستعمال إلى درجة أنّها احمرّت حتّى الثّمار.
وردا على ذلك الإنفعال بثت الأعناب في الإتّجاه المعاكس لسيل النّسغ، رحيقا لاحامضا و لا حلوا: عصيرا رقيقا سال حتّى الجذور.
شوهدت النّبتة تؤرجح أوراقها في كلّ اتّجاه؛ و تراقص الطّيور و ذوات أجنحة أخرى.
لقد اخترعت، لتوّها، السّكر. اخترعت لتوّها إمكانيّة اختراع عوالم.
من ضمنها عالم النّسيان.
فمنذئذ وحتّى لاتنسى ذلك اليوم، اعتبرت الكروم الزّمن.

تلك القصّة حدّثني بها الصّرّار في مكعّب الحركة؛ ولكنّ الجميع يعلم إنّ للحركيّة و الزّمن علاقات غريبة.


مكعّب العمليّات

إنّه المكعّب الثامن.
أعذريني، سيّدتي، إذا كانت حكاياتي تتلاشى فلأنّني أقترب من مكعّب الوسط و ذلك يثيرني.
إذن مكعّب العمليات... يا إلهي، لم أعد أعرف بم يتّصل ! إنّه أمر محبط،، أعلم أنّه كان مهمّا.
أعلم أنّه كان يفتح إمّا على مكعّب اللّون الذي منه نعود إلى البداية، و إمّا على مكعّب الوسط.

أعلم أنّ منطِقه يتجاوزني، و به تحدث شبه معادلات، عمليات توصل إلى مكان ما، و تمزج بين الأرقام والحدائق.

أعتقد أنّنا ندخل في حركة حسابات خوارزمية تطرح و تتفادى و تدمج وتحتفظ بالعدد، و تسوّي و تستكمل و تشكّل في المجموع ثمانية لحظات لحديقة واحدة، تنساق نحو ثمانية أحيازتحفظ للتجربة بعضا من حضورها.

مكعّب الوسط


مكعّب الوسط حديقة.
لها سياج صغير يحميها.
أرضها يغطّيها عشب برّي أخضر كثيف.
في وسطها تنبت كرمة. إنّها فخورة بأعنابها.
السّماء زرقاء.
ثمّة كرسيّ خيزران أجلس عليه.
ثمّة صرّار يغنّي.
الجوّ طيّب مثلما يكون في الصّيف.

محتمل جدّا أنّكَ كنتَ في يوم ما موظفا؛ أمّا أن تكون قد زرت حديقة عالِم رياضي فذاك أقلّ احتمالا.
أن تكون رحّالة في عوالم مختفية، فتلك حقيقة قد تقبل النّقاش. و حتّى وإن كانت خدعة فإنّها تحلو للسيّدة ذات النّظر الحائر. بينما يتركك حياء ضمنيّ لمناوراتك، تسجّل، هيّ، ملاحظات و تحلم؛ أنت تتسلّى بمفاجأتها و يعجبك دفء غرفتها.
أنت تستجيب لطلبية، فقد طابت منك خمس عشرة حديقة.

لقد مرّت سبعة أيّام على التقائك بها لأوّل مرّة. لاقيتها في نهاية مسار بأربع عشرة نقطة.
أربعة عشر شيئا تؤثّر فيك على الطّريق بين فيكغرونوا و بوليكميد. تأثيرات حضرية.

أوّل ما لفت انتباهك، لدى خروجك من عند العرّافة، كان الحضور المتحوّل للمباني الواقعة على طول شارع نيــه. إنّها مباني أحياء قصديرية؛ تغيّر مظهرها عندما يضيف إليها أصحابها أشياء مأخوذة من مواضع أكثر متانة. و تتغيّر أيضا عندما يكون هناك متّسع من الوقت للنّظر إليها. و يـُـتفطّـَـن، حينئذ، أنّ لها مواضع تحمل أسماء، و كلّ اسم حكاية فيها شخصيّات تتهجّأ ذاتها. كلّ حكاية تضيف إلى الموضع بعدا ليس بالإمكان إدراكه من أوّل نظرة.

النّقطة الثـّـانية التي لاحظتَها، النّقطة الثّانية التي من خلالها وضعتَ طريقك. هي ناطحات سحاب بوليكميد إذ تـُـرى عن بعد. إنّها أبراج من جير الطّين و الزّجاج تنمو وسط الصّحراء. إنّها كقطع شعرية متصلّبة رفعها البشر حتّى يقـفـّى الرّمل و الشـّمـس مع شيء من الظّلال(؟): انحناءات احترام، أدعية أو إخلاص للكسل.

في أسفل أبراج الدّنتيللاّ تلك، على امتداد الشـّوارع الضّيقة و المظلمة، عنزات تجري. إنّها تعود إلى مواضعها دون راع أو كلب. هي تعرف الطّريق. تبعتَ إحداها وكانت تلك النّقطة الثّالثة.

تبعت عنزة و كانت ضئيلة في أسفل تلك العمارات الضّخمة؛ قادتك نحو زهرة نبتت في صدع بين دكّانين في المدينة. ذهبت العنزة إلى هناك لتأكل العشبة، و أنت تبعتها لتلتقي امرأة. إنّها زهرة زرقاء ذات خمس بتلات تورث من ينزعها حبّها على نحو مجنون. تقول في نفسك: هذه زهرة شجاعة؛ و قد تكون زهرة عالمة تدرس البشر؛ لعلّها عاشقة لناطحة سحاب، أميرة يدللها ثلاثون عملاقا من الفولاذ. إنّها النّقطة الرّابعة، قالت لك اقطفني فقطفتها.

النّقطة الخامسة نافورة. إنّها جافةّ. و أعتقد أنّها لم تر الماء يوما. و حيث أنّها في وسط المدينة، فالمدينة تبدو على و شك الفوران منها. إنّه حدث جميل؛ طريقة جديدة لاستقبال الحيّز. إنّها النقطة الخامسة من مساري.

لقد انزلق بصركَ على طول الواجهات المنفتلة. رأيتَ في إحدى الشّرفات درّاجة طفل حمراء بثلاث عجلات. هي تماما مثل تلك التي أهديتها لابن صديقي. بودّي أن أعرف سريعا نهاية هذه الحكاية حتّى أرويها له. لمثل هذا يصلح الصّديق، من أجل أن نقول، من أجل أن نحيا، من أجل أن نتابع، مرتاحي القلب، مسار القدر. كلّ ذلك إنّما جُعِلَ من أجل الأصدقاء. تلك الدرّاجة هي سادس نقطة في مغامرة بدت، فجأة، منعشة.

وسط ساحة صغيرة، بدت لك ساعة متوقّفة كأنّها عوّامة تـُلقى لأولئك الذين يغرقهم جريان الزّمن.
لم تعطك الوقت، و لم تسرّ إليك بتواريخ. سجّلت المرحلة السّابعة من فسحتك، إيقاع متكاسل لآستفاقة الحواسّ.

فجأة، امتلأت المدينة بالبشر. لعلّها ساعة يتلاقى