التمركز حول الذات في القصيدة العربية المعاصرة

حوار وتقديم: اثير محمد شهاب: يعد مفهوم التمركز حول الذات في القصيدة العربية المعاصرة أحد إفرازات الحداثة الشعرية، لما رافق هذه الحركة من تغيرات وصدمات، أفضت بالقصيدة إلى أن تكون ذاتية منذ نشأتها، لان الذات تتجه صوب نفسها حينما لا تجد ما يلائمها، لكي تعيد تصحيح الأشياء ومن جديد، فما هو وليد الذات يقع في د ائرة الصدق ويخرج عن مضمار الزيف والكذب، لان الذات في صراع دائم مع تجارب الحياة والمجتمع الموضوعية والذاتية.
ربما يثير موضوع التقوقع حول الذات او التمركز حولها اسئلة كثيرة داخل خارطة الوطن العربي وبحسب تعدد البيئات الثقافية، لان علاقة الذات المبدعة بالفرد تكاد تكون علاقة مكانية ، نتيجة حساسية المكان وظروفه على الفرد ، فمع توفر المكان الأليف تزداد الذات الشعرية إبداعا وانثيالا، ومع اختناق المكان تخبو الذات الشعرية، فتصبح العودة رجعية غير تقدمية ، وهذا السبب يفسر لنا حصيلة التراث الشعري الذي يمتلكه شعراؤنا الآن(*).
إن العودة إلى الذات أو التقوقع حولها - بحسب ما اسميها - لا يمكن عدها – بالضرورة - نرجسية بقدر ما تعد انكفاءة وتراجعا من لدن شاعرنا بعدما ادرك الهزائم، وهذا التنوع في الاحباط جعل منه في مناشدة مستمرة لذاته إلى درجة التوسل بها، علّها ترفع من مستوى شعره، وحينما أصر على هذا الرأي، فقد أخالف مقولة : " إن الشاعر الحقيقي يجب أن ينطلق من ارض السواد "، لان هذه المقولة تنتمي إلي النرجسية اكثر من انتمائها إلى الذات ، او بالأحرى ترتقي إلى السلم الطبقي اكثر من انتمائها إلى نوعية او عدد الشعراء ، فحساسية المقولة - ربما تنبع - من عمق الواقع العراقي وثوريته في استمرا ه خلق شعراء يمتلكون من الشعر الكثير.
مع بداية القرن الجديد وبتطور فاعلية الثورات المعلوماتية والاتصالية والتكنلوجية، ظهر لدينا مفهوم جديد يعيد تأثيث الذات وترتيبها بحسب هواه، يمكن أن يطلق عليه بـ ( عولمة الذات ). اسهم هذا المفهوم في تأجيل الذات المبدعة، مما ترتب على ذلك العودة نحو الذات والتمركز حولها وبعناد، لأنها مرآة الصدق وصدق المرآة.
ومن اجل فحص مفهوميّ عولمة الذات والتمركز حولها في القصيدة المعاصرة، كانت لدينا هذه الآراء التي تتضارب حينا وتتفق حينا آخر.
إن فحص الذات وبيان آليات تشكلها داخل مضان النص الشعري يتطلب إعادة كشف مستويات ظهورها تارة واختفائها تارة اخرى، من اجل التعرف على سبل الغياب / الحضور التي تجعل من النص مبدعا مرة وخلاف ذلك مرات اخرى.

الناقد فاضل ثامر:

قد يبدو غريبا مثل هذا التساؤل حول دلالة ظاهرة التمركز حول الذات في القصيدة العربية الحديثة، فالشعر الحديث، ومنه شعرنا العربي الحديث، شعر غنائي في الجوهر وقد ظل يحمل هذه

الخاصية الأساسية على الرغم من موجات الحداثة المتعاقبة التي شهدها شعرنا الحديث، ولذا تظل الذات هي المركز الاساس لكل خطاب شعري عربي غنائي، مادام هذا الشعر يتحرك داخل فضاء الجنس الشعري الغنائي ولم ينتقل إلى أجناس موضوعية ( مثل الشعر المسرحي مثلا ).

إن هذا الحكم لايتعارض مع حقيقة أن الشعر الحديث ومنه شعرنا العربي الحديث ( اركز على استخدام الحديث ( بدل ) المعاصر ) قد اعتنى بعناصر موضوعية كثيرة ودخلت إلى نسيجه أصوات شعرية متعددة، منها أصوات شعرية حوارية وموضوعية وقدم تنويعات بنيوية في إطار قصيدة القناع والقصيدة الحكائية ( البالادية ) والقصيدة البصرية وقصيدة المشهد الشعري، إلا أن ذلك لم ينقل هذا الشعر من خاصيته المركزية بوصفه شعرا غنائيا يمنح فرصة كبيرة لحضور الذات والانا الشعرية، إلى فضاء مغاير هو فضاء الشعر الموضوعي حيث يخبو أو يتلاشى صوت الانا الشعرية وتبرز حالة يمكن أن نسميها بحالة الأنا الشعرية، درجة الصفر كما نجد ذلك في بعض أنماط الشعر الدرامي. فالشاعر الغنائي يظل ذلك الرائي الذي يستنطق المرئيات والأشياء ويعيد انسنتها وهو كما يقول الشاعر والفيلسوف الصيني القديم ( لوتشي) : " يجلس على محور الاشياء ويتأمل في سر الكون ".
ومع ذلك فان التساؤل المطروح حول دلالة هذا التمركز المفرط حول الذات في شعرنا الحديث له دلالته ومبرراته ايضا، ففي كل خطاب شعري غنائي لا تشكل أنا الشاعر إلا أحد العناصر البنيوية الأساسية، وهي لا تمثل نسبة ثابتة او واحدة في مختلف التجارب الشعرية الغنائية القديمة منها والحديثة على السواء، فقد تشغل نسبة متوازنة مع مكونات النص الشعري، وقد تتضخم فتهيمن على المناخ الشعري وقد تنـزوي او تتوارى بمكر وحياء أو بمواربة مقصودة، وهذا التبيان في درجة حضور الأنا الشعرية ربما هو ما يميز مرحلة شعرية مهيمنة عن مرحلة شعرية أخرى، أو شاعر معين ضمن مرحلة محددة عن شاعر آخر ضمن تلك المرحلة.
فألانا الشعرية في الشعر الر ومانسي تختلف اختلافا جذريا عن الأنا الشعرية في الشعر الكلاسيكي كما أن هذه الأنا تختلف في الدرجة والحضور والتأثير في التجارب الشعرية الحديثة والحداثية بشكل خاص. أنا الشاعر الرومانسي أنا متضخمة بصورة مرضية، فالعالم الخارجي وكذلك العالم الداخلي يمران من خلال هذه البؤرة الذاتية. لذا تكتسب كل الأشياء طابعا عبر إسقاط مباشر على الأشياء والمحسوسات والمرئيات . أما " أنا " الشاعر الكلاسيكي، فهي في الغالب " أنا " عقلانية متوازنة تخضع لضوابط المنطق والعقل والعرف الفني والاجتماعي ولا تملك ذلك الانفلات الصاخب المتمرد للذات الرومانسية. أما ذات الشاعر الحديث والحداثي – ومنه الشاعر الواقعي – فهي تتحرك ضمن مدى متباين وتضم خلال ذلك الكثير من العناصر الموضوعية غير الذاتية، وتمزج أحيانا بين الذات الرومانسية والذات الكلاسيكية في توليفة جديدة غير مستقرة تماما، ففي قصيدة القناع مثلا يحاول الشاعر الحديث أن يتوارى خلف قناع شخصية تاريخية أو موضوعية خارج نطاق ذاته الشعرية ، لكن الذات الشعرية تتسرب على الر غم من كل تحوطات الشاعر فيشكل حضورها مؤشرا على الجوهر الغنائي للتجربة الشعرية الحديثة.
ولكن وضمن هذا الإطار الواسع، كيف نقيم هذا الحضور الضاج " الأنا " الشاعر في الكثير من التجارب الشعرية العربية الحداثية؟ هل يمكن القول إن ذلك يمثل عودة إلى لون من الغنائية الخالصة وانقطاعا عن العناصر الموضوعية التي اغتنت بها القصيدة الحداثية؟ اهي عودة إلى لون من الرومانسية المتأخرة أم هو مظهر لعودة القصيدة التقليدية؟ هذه وغيرها من التساؤلات قد تتبادر إلى الذهن ونحن بصدد فحص مثل هذه الإشكالية.
في تقديري أن الشاعر العربي الحداثي اليوم يشعر بأنه مهروس حتى النخاع تحت كماشة ضغوط داخلية خارجية رهيبة، وانه يحاول أن يعبر عن توجعه هذا مطلقا صرخة استغاثة أخيرة قبل أن يبتلعه الموج الأسود، وهذا الطوفان القادم من كل مكان والمتمثل في الإحساس المدمر بالتهميش والدونية بأزاء موجات العولمة الخارجية واكتساح النـزعة الاستهلالية لكل القيم . فلم يعد شعر الشاعر الحديث ديوان العرب، ولم يعد الشاعر " صناجة العرب " ولا رائيتها وصوتها ؛ اصبح يقف في أقصى درجات السلم الاجتماعي تحاصره الكوابيس أينما يولي وجهه ويشعر بالبارانويا وبانعدام الأوكسجين النقي اللازم للحياة والإبداع.. انه مثل طريدة سقطت في فخ هلامي لزج، فهل يسعفه صوته الشخصي أو ذاته الشعرية الجريحة في مواجهة كل هذا الانسحاق والإحباط والخسران؟
ترى هل ستكون أنا الشاعر هي طوق النجاة الأخيرة الذي يعبر به هذه المتاهة المرعبة أم هي راية بيضاء مرفوعة في وجه هذا الأخطبوط اللامرئي؟

الناقد محمد مبارك:

التمحور على الذات إفقار للذات ؛ لانه يخرج بالإنسان وقواه الروحية الخلاقة إلى مايهبط بها لصعيد أدنى في الصيرورة البايلوجية للكائن الحي، ذلك أن الجهاز المركزي للأعصاب في الإنسان إنما ا

نتهت إليه الصيرورة البايلوجية لتخرج بالنشاط الحيوي له من دائرة الأنعام والبهائم إلى صعيد يضعه فوق الطبيعة وقواها الحية ويمكنه من الإحاطة بها وعيا وامتلاكها قوانين وضرورات بقصد تثمير إمكاناتها ومقوماتها لما يخدمه ويستجيب لمطالبه.

إن القصدية التي تنماز بها أنشطة الجهاز المركزي للأعصاب في الإنسان بخاصة، تفرض على هذا الكائن أن يغادر شرنقة الذات المحدودة إلى ما لا يحيط به غير الكائن الأعلى من فضاءات الكينونة الموضوعية للوجود وصيرورة تحققاته واعيانه وإشكاليات تموضع حالاته وأوضاعه العينية.
وكما أن الوعي ثلاث خطوات هي : الجيشان الأولى للأعصاب بازاء أي مؤثر خارجي، ثم الانفصال عن المؤثر بقصد رؤيته وتحقيق ثنائية الذات / الآخر ؛ ثم الإحاطة بهذا الآخر وامتلاك قوانينه بقصد الهيمنة عليه واعادة خلقه وتركيبه، كذلك هو الفن غناء حيث الجيشان الأولى والانطباع البدئي ورد الفعل الفطري يعقبه السرد الذي يوفق إلى وعي الآخر وفرزه عن الذات، ثم الدراما التي يوفق فيها الفنان إلى إعادة تركيب ما وعاه وخلقه.. وهو ارفع ما يصير إليه الخلق الفني بعد أن يتحرر من تمركزه على الذات حيث الغناء الذي لا يتقدم بأكثر من البوح بخالجة أو هاجس ولا يرقى إلى التعبير الذي هو الكشف الذي تضحى به الجماعة البشرية اكثر وعيا باوضاعها وارقى درجة في سلم صيرورتها الاجتماعية.
والحقيقة أن ما تدعوه بالتمركز على الذات يقف بإمكانات الذهن والحس البشريين عند طاقة الوهم - الفنطازيا من قوى الحس الباطن التي تقوم في الأحياء الأدنى مقام طاقة التفكير عند الإنسان، والتي لو تهيأ للإنسان ما يمكنه من رصدها حركة ونشاطا لوجد منها العجب العجاب، حيث هي تركيبات عجيبة من الصور والتشكيلات ليس لها من ضابط منطقي أو ذهني، وانما هي محض فوضى من التشكل الحر والانثيال المنفلت من أي عقال للصور والتراكيب التي يحكمها الانفعال من خوف أو فزع أو فرح وانشداد إلى هاجس أو موضوع أو رغبة، ولكنها لا تقود إلى الإحاطة بشيء أو الإرهاص بقيمة اللهم إلا ما يمكن أن تكشف عنه من ادواء الذات وخصوصها اللذين يمكن أن تكون مادة لقراءة أوضاع هذه الذات سايكولوجيا وعصابيا، ذلك أن هذا التمركز حول الذات يفقد النفس العاقلة ما يدعوه ابن سينا ( قوة العمل ) التي تمكن الإنسان أن يوفق إلى أن يكون عضوا فاعلا في محيط الجماعة البشرية، و يدعوها العلم الحديث ( الطبيعة الاجتماعية ) للإنسان التي يتحول الإنسان بفقدها إلى مخلوق لا اجتماعي، رغم احتفاظه بقوة النظر التي تفقد هي الأخرى طابعها الاجتماعي، ليكون الإنسان بذلك خارج إطار الجماعة وربما معاديا لها معاندا لسياقات ذهنها وتقاليدها.. فهو أميبيا تملك ما خص به الإنسان من منطق وذهن.
أذن أنت مما تأتي به الذات المتمحورة حول نفسها بازاء قراءة سايكولوجية لما تعانيه هذه الذات من ادواء، وليس لك منها ما يكشف لك عن خصوص اوضاعك الموضوعية وحقيقتك الروحية، إنها خلو من خطوتي السرد والدراما وبالتالي من اية قيمة روحية او فكرية ، تقف بموجودها عند الغناء حيث الجيشان الأولى للأعصاب والانثيال الحر - الفوضوي لما تركبه طاقة الوهم - الفنطازيا من صور وتشكيلات ربما انحطت إلى ما تقود إليه هذه الطاقة من صور وتشكيلات عند الأحياء الأدنى من الاميبيا إلى أقربها كينونة من هذا الكائن العجيب الإنسان . فالتمحور على الذات يخرج بكينونة الإنسان إلى صعيد أدنى في سلم التطور.

الناقد فائز الشرع:

اذا كان التمركز حول الذات يحيل إلى تحديد الفلاسفة له بأنه انحياز الفرد لذاته في التعامل مع الأشياء – أو الذوات الأخرى - بصرف النظر عن موضوعية وجودها الخارجي فان ذلك قد يكوّن

رؤية إيجابية لعلاقة الفرد بذاته وإدراكه لكينونته بازاء الأخر بصورته المطلقة أو بوصفه الخارج الذي يؤطر الداخل ( الذات )، ولكن الرؤية التي يمكن أن تؤمن تضامنا اكثر صميمية واقل إيجابية هي ما الذات عندما تكون الذات فضاء يتيح المجال واسعا لسباحة الخارج فيه وعلى وفق ما يفترضه من منطق للوجود ضمنه، عند هذا الوصف وبتحققه تنقطع الصلة بالخارج وتتلاشى الرغبة في ايجاد موقع للذات على سطح الوجود الخارجي ، وتصبح الفاعلية الفردية متجهة إلى تأثيث عالم خاص مستقل ينطلق من رغبة حقيقة بالتوازي مع المحيط والاكتفاء بماهو متوافر عما هو سائد في الخارج ويمكن أن يكون هذا السلوك حاصدا لإيجابية تضمن إفراز عالم مضاف أو مفردة جديدة لها حضورها اللامع والشديد الوضوح ضمن مفردات العالم الخارجي عندما تضاف إليها، وهذا بالطبع متوقف على نوع الاتصال بالعالم الخارجي وافاضة الداخل عليه ، بما هو غير مكتسب للاعتياد في الحضور أو التحقق، ولا هو مستقر في المتخيل الذي يدعم الموجودات العيانية ويؤمن عمقا غائبا لحضورها.
ولكن هذه النظرة المنعزلة تنطوي على خطر محدق بالوجود الإنساني بسمته المنتسبة لهوية ما ، ويتأتى هذا الخطر من شيوع الايمان بها ومحاولة تعميم تجاربها والتبشير بنماذجها ، ولا ينسحب هذا الأمر بالطبيعة على السلوك الاجتماعي، ولكن على النظرة إلى الحياة وتكريس رؤية لمعالجة تحولاتها وتفاعل الذوات معها. إنها سلبية بالمعنى الذي يشيع سلوكا يؤمن بالانقباض تجاه امتداد الاخر ، واعني الذي يملك هوية جمعية مختلفة ويسعى إلى تطورها وإحلالها محل غيرها وتصدير أنموذجه ليكون العموم تجاه انحسار يمثله الشذوذ عن القاعدة حتى ضمن التضاريس التي تضم الكيان المنعزل المتهم بالشذوذ والثبات المؤدي إلى الجمود.
الأسباب كثيرة لهذا التقوقع بعضها واضح في التوجيه والآخر غير مدرك ، ولكن الخطر كل الخطر في صور التقوقع المزيف الذي ينطوي على فراغ يسمح بتسرب رؤى الآخرين ومحاولة محاكاتها على النحو نسخي بما يجعلها تقدم رؤى لا يسبح في فضاءاتها غير المسوخ ، والخطر الآخر يكمن في تعميم الانموذج كما اسلفت وهو ما يتجه بنا إلى الضمور.

الناقد عبد الستار الاسدي:

يسمي علماء البايولوجيا ظاهرة نفوق الحيوانات الإرادي بـ ( الانتحار الجماعي ) ، وقد يكون من التعسف استعارة هذا المصطلح لتوصيف هذه الظاهرة الأدبية التي ألمت بمشهدنا الشعري المعاصر،

غير أن النظر إلى النتائج المباشرة المترتبة عن هذه الظاهرة والمتمثلة في قطيعة التوصيل والتواصل مع المتلقي تبيح لنا الاستعارة، فما يفعله الشعراء الذين يدبجون قصائد مغلقة عسيرة الهضم لا يستشف منها سوى صراخ انو اتهم التائهة في ضبابية المعاني والدلالات ليس سوى انتحار لهم ولشعرهم، بيد أن ضرورة الإنصاف الموضوعي تستدعي منا التأمل في النظر بأسباب وعوامل نشوء هذه الظاهرة ، ويقينا أن هذه الأسباب والدوافع هي محض افتراضات تأويلية استشفها تأملنا من السياقات النفسية والاجتماعية والثقافية الحافة والمحيطة بظروف ولادة هذه الظاهرة ومراحل تكونها، وقد آثرنا حصر هذه الأسباب في جملة من النقاط التالية :
1- النرجسية المفرطة التي تؤدي بصاحبها إلى هوس الاستعلاء الذاتي على الاخرين ، بحيث لا يرى غير نفسه فيجرف لغته إلى الانغلاق في التعبير والتوصيل المنكمشين حول ذاته التي ستجتر كمّا من التكرارت الفارغة من المعاني ذات القيمة والجودة.
2- الفقر الثقافي والمعرفي الهزيل، وعدم هضم وتمثيل القضايا الفكرية المهمة، بل عدم الإحساس بقيمتها الجوهرية، والعزوف عن التعبير عنها.
3- العزلة والقطيعة الاجتماعية من خلال عدم تبني قضايا المجتمع والناس ، والانزواء بعيدا عن مواكبة التغيرات والتطورات الاجتماعية، والتقوقع في حدود اللاانفتاح على الاخر ، ومحاولة فهمه ومشاركته.
4- الوقوع في غواية المغايرة مع المألوف والسائد ، ومن اسهل الطرق وابسطها، باستثمار قابليات التلاعب اللفظي الذي يدور حول الذات ، ولكن من أضيق المنظورات وابعدها عن التعبير الحقيقي للذات.
وبلا شك أن قائمة هذه الاسباب تظل مفتوحة لسياقات أخرى كالتاريخية والسياسية وغيرها، لا تتسع قصاصاتنا هذه لاحتضانها ، ولكي يأخذ توصيفها حدود تأشيراته، نؤكد انه لا ينطبق على النصوص الشعرية التي احتضنت ايضا موضوعة التعبير عن الذات ، وهي تمثل ايضا ظاهرة اخرى متزامنة مع ظاهرة موضوعنا، تتفق معها فقط في الاطار الشكلي لموضوعة الذات ، وهي عودة تأريخية للكتابة الشعرية عن الذات ، ولكن ليس بأشكالها الغنائية والرومانسية السابقة، وانما بلغة جديدة مشبعة بالمجازات والاستعارات والتراكيب المنفلتة من قيود المناسبة والموائمة بين اطرافها، وهذا ما يمنحها سمة اللامقروئية التي هي بدورها نتيجة اللافهم المتولد من غياب وضياع المعنى في متاهات هذه اللغة الجديدة التي اصبحت بالنسبة لاصحابها حبل اعدامهم الاختياري دون أن يعلموا.

الناقد احمد ناهم:

يعد مفهوم التمركز أحد مقولات جاك دريدا الفكيكية واهمها ، وقد كان هذا المفهوم مرتبطا عنده بالعقل والكتابة والصوت والجسد ، إذ يعنى بالتمركز حول الجسد رفض سلطة الوسيط ومن ثمّ إلغاء لفكرة الروح والتركيز حول الجسد ( المادة ) وحول الأنا الشاعرة الفاعلة الخالقة والمتصورة للنصوص والأفكار. لقد كان لطغيان الأنا في القصيدة العربية الحديثة وضوح بارز لدى كتاب هذا النص الحداثي الذي رفض الواقع واحس

بالضياع والاغتراب وانعدام التوصل والثقة مع الاخر ( وهذا الاخر يحتمل دلالات مختلفة ).

ونتيجة لضغوطات وافرازات ومشاكل العولمة الجديدة المتمثلة بتهميش الدول الاخرى ومصادرة ثقافتها وحضارتها وجعلها قاعدة تابعة ومركزا من بين مراكزها المتشعبة.
والشاعر قبل هذا كله يعيش حالة فصام مع الواقع مما يرفع نسبة الانا في شعره ودفعه للاغتراب الحاصل بسبب هذه العولمة الجديدة إلى زيادة الهوة بينه وبين الاخر مما جسد فكرة الرجوع والخضوع لسلطة ( الأنا ) من اجل غرض رئيس هو تناسي الواقع الاخر غير المرغوب فيه وهو في الاساس أحد أسباب معاناته واغترابه وتهميشه وجعله نجما في مجرته الواسعة فرفض الشاعر الحق بحكم شاعريته طبعا هذه المصادرة واعتبر نفسه مركزا لكل شيء من خلال تجسيده ( اناه ) ورؤياه في نصه لتدور من حوله - بعد ذلك - الكوكب؟.