خلال حوار معد ينشر للمرة الأولى أنا الحرّاق

حسونة المصباحي من تونس: ظهيرة يوم 24 يونيو حزيران 1984، كنت في باريس، وكانت الحرارة خانقة، خصوصا في محطات قطار الأنفاق، لما أبلغني أحد الأصدقاء إلتقيته وأنا أقطع ساحة "شاتليه" باتجاه "الحي اللاتيني" أن الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو لفظ أنفاسه قبل بضع ساعات في مستشفى "سالبيتريار" الشهير. صعقني الخبر إذ أنني لم أكن أعلم أن ذلك الفيلسوف الذي أصبح يحظى بشهرة عالمية، وبتقدير كبير لدى أحبّاء الفلسفة كان قد أصيب بمرض خطير لا يرحم صاحبه. واذكر أن وسائل الأحلام الفرنسية بمختلف أنواعها وأشكالها تكتّمت عن ذكر أسباب وفاته، ولم تعلن عن ذلك إلاّ عقب مرور بضع سنوات على ذلك. ففي ذلك الوقت كان مرض "الإيدز" في بداياته، وكان الاعلان عن اسم المصاب به أمر غير مقبول من الجانب الأخلاقي. وعليّ أن أعترف بأني كنت في بدايات اكتشافي لميشال فوكو فيلسوفا ومفكرا. وأول كتاب قرأته له كان "تاريخ الجنون في العصور الكلاسيكية". والشيء الذي حفّرني على قراءته، تحقيق كنت أعدّه عن مجانين القيروان وبهاليلها لأحدى المجلات العربية المهاجرة. والحقيقة ان رئيس تحرير المجلة كان قد طلب مني ان اكتب تحقيقا عن القيروان، المدينة الاسلامية الأولى التي أسّسها عقبة بن نافع في شمال افريقيا، والتي أصبحت في ما بعد عاصمة الأغالبة المشرقة علما وحكمة وترفا. لكن عند وصولي إليها عدلت عن ذلك، مفضلا الكتابة عن مجانينها وبهاليلها القدماء والمحدثين لطرافتهم التي أبقتهم أحياء في ذاكرة أهل المدينة. وأعتقد أني وفّقت في ذلك إذ أنّ التحقيق لقي صدى كبيرا لدى قراء المجلة وراق كثيرا لرئيس التحرير. أما شاعر القيروان الكلاسيكي، "الشاذلي عطاء الله، رحمه الله، فقد أصيب عند قراءته للتحقيق بنوبة غضب كادت تفقده صوابه ذلك انه اعتبر أنّ ما جاء فيه تعدّيا على المكانة التاريخية للقيروان، وطمسا لأمجادها الغابرة. والواقع أني لن أتقصّد ذلك ولم أفعله البتّة، بل كان هدفي الخروج عن المألوف، وكشف بعض الجوانب الخفيّة في حياة تلك المدينة القديمة عوض ترديد ما هو متوفّر في كتب التاريخ، وحتى في الدّليل السياحي العادي. وقد أشرت في التحقيق إلى أن المدينة الإسلامية تقبل بهاليلها ومجانينها، ولا تطردهم شرّ طردة مثلما كانت تفعل المدن الأوروبية في العصر الوسيط، رامين بهم في المراكب ليظلوا طول حياتهم يتنقلون من نهر إلى آخر حتى إذا اقتربوا من مدينة خرج إليهم أهلها ليعيدوهم إلى الماء. وهذا ما أكده ميشال فوكو في كتابة الرائع الذي أشرت إليه سابقا. وأول شيء لفت نظري وأنا أقرا من ذلك الكتاب هوان صاحبه أراد أن يقرأ تاريخ أوروبا من خلال المهمشين والمقصيين والمطرودين والمغضوب عليهم، عكس أولئك الذين قرأوه من خلال الملوك والجنرالات ومشاهير الأبطال. وهذا ما سيواصله في ما بعد في مؤلفه الآخر: "المراقبة والعقاب" الذي قرأ فيه التاريخ الأوروبي من خلال السجون والمعتقلات ومؤخرا قرأت في مجلة "لوبوان" الفرنسية حوارا معه لم ينشر من قبل كان قد أجراه روجيه بول دروا الذي يعمل باحثا في مركز البحوث الاجتماعية وفي مقدمة الحوار كتب يقول:" يوم 25 يونيوا حزيران 1984، قبل عشرين عاما توفيّ في باريس، في مستشفى "سالبيتريار"، ميشال فوكو. ومنذ ذلك الوقت، لم تتوقف لا شهرته التي كانت جدّ كبيرة آنذاك، ولا تأثيره عن التوسّع. من الولايات المتحدة إلى اليابان، ومن روسيا إلى أمريكا اللاتينية، وفي كامل أنحاء أوروبا، قراء كثيرون يكتشفون خصوبة تحاليله. وسواء تعلّق الأمر بالسجون أو بمستشفيات المجانين أو بتاريخ الجنس، يحاول ميشال فوكو دائما ان يفهم كيف تكونت البداهات التي تنظم المشهد الحالي بهدف أحداث الفوضى في النظام. وفي أرشيف القرون الأخيرة، يعيد الفيلسوف- المؤرخ تركيب نشأة المعارف (الطبية، النفسانية، القضائية) التي تولّد احتجاز المهمّشين وترويض الأجساد في المجتمع التأديبي. مفكرا لا يمكن تصنيفه، غير موقّع، مخرّبًا ومدّمرا، اكتشف ميشال فوكو أسلوبا جديدا في العمل الثقافي. غير أنه نادرا ما يتحدث عن نفسه، وعن أهدافه، وعن علاقته بالكتابة، وعن مسيرته، وعن تكوينه الثقافي".
في هذا الحوار الذي أجري معه في شهر حزيران ايونيو 1975، بمناسبة صدور مؤلفه :" المراقبة والعقاب"، يكشف ميشال فوكو جوانب مهمة تتّصل بمسيرته الفكرية. ومحاولا تعريف نفسه هو يقول بأنه يهتّم بعمل المؤرخين لكنه ليس مؤرخا. كما انه لا يرغب في أن يقدم نفسه كفيلسوف، وإنما كـ "حرّاق" يصنع شيئا يكون صالحا في النهاية لحصار، أو لحرب أو للتدمير". و"الحرّاق" بالنسبة له هو جيولوجي أولا وقبل كل شيء. جيولوجي ينظر إلى طبقات الأرض، وإلى الطيّات والصّدوع، ويسأل نفسه قائلا: أي شيء يمكن حفْره بسهولة؟ وأي شيء يمكن ان يصمد؟ ومتحدثا عن بداياته مفكرا وفيلسوفا، يقول ميشال فوكو: أواسط الخمسينات، أصدرت بعض الأعمال في علم النفس وفي الأمراض العقلية. وقد طلب منّي ناشر أن اكتب تاريخ طبّ الأمراض العقلية. وقد فكرت أن أكتب تاريخا لا يمكن ان يصدر أبدا، أعني بذلك تاريخ المجانين أنفسهم. من المجنون؟ ومن يقرر ذلك؟ ومنذ متى؟ وباسم ماذا؟" مثل هذه الأسئلة هي التي قادت ميشال فوكو إلى الشروع في كتابة: "تاريخ الجنون في العصور الكلاسيكية". وعند صدور الكتاب، أدرك أنه تناول بالبحث والتحليل مشاكل جدّ خطيرة ذلك أنه اخترق ما يمكن أن يسمّى
بـ "شرف العلوم" الموروثة عن أوغست كونت الذي كان يضع الرياضيات وعلم التنجيم في الصّدارة. كما انه حاول ولأول مرة أن يفهم تاريخ المجتمعات من خلال علم النفس ومن خلال الأمراض العقلية لكن دون ان يعي أن هناك علاقة وثيقة بين الأحزاب الشيوعية وبين تقنيات المراقبة. وبالفعل أثار كتاب "تاريخ الجنون" غضب الكثير من الماركسيين المتشدّدين ذلك ان ميشال فوكو لم يذكر كارل ماركس إلا في جملة قصيرة، فإذا بالشتائم والاتهامات تنهال عليه، وإذا به وحيدا أمام حشود من الماركسيين الحاقدين والغاضبين. ففي ذلك الوقت كان من العسير على المثقف والمفكر والفيلسوف أن يجهر بعدم ولائه لماركس ولفلسفته المادية. ومتحدثا عن ذلك، وعن علاقته بالماركسية، ويقول ميشال فوكو" مثل كل أبناء جيلي تقريبا، كنت بين الماركسية والظاهراتية، لكن ليس تلك الظاهراتية التي عرفها واستعملها كل من سارترو مارلو بونتي، وإنما ظاهراتية هوسرل الحاضرة في نصّه الذي ألّفه بين العام 1935 وعام 1937 والذي حمل عنوان:" أزقة العلوم الأوروبية" أو "La krisis" كما نحن كن نسمّي ذلك. وما كان قد وضعه موضع السؤال هو كامل النظام المعرفي الذي كانت أوروبا مكانه المركزي، ومبدأه، ومحركه، والذي بواسطته تحررت، وحبست أيضا. بالنسبة لنا نحن، وبعد سنوات الحرب الكونية الثانية، وبعد كل ما جرى، برز هذا السؤال في كامل توهّجه. "La krisis" كان بالنسبة لنا النص الذي يثير من خلال فلسفة جدّ متعالية، وجدّ أكاديمية، وجدّ منغلقة على نفسها برغم مشروعها الذي يطمح إلى وصف كوني، إلى اقتحام تاريخ معاصر. شيء ما كان بصدد التقرقع حوا هوسرل، وحول الخطاب الفلسفي الذي كانت الجامعة الألمانية تلقّنه بصعوبة على مدى سنوات طويلة. وهذا التقرقع سمع فجأة في خطاب الفيلسوف. وفي النهاية بدأنا نتساءل عن معنى هذه المعرفة وعن معنى هذه العقلانية المرتبطة ارتباطا وثيقا بمصيرنا، وبكثير من أشكال السلطة العديمة القوة أمام التاريخ. وبطبيعة الحال، أصبحت العلوم الإنسانية أشياء موضعا للسؤال من خلال هذا المسعى. وكانت أولى محاولاتي كالتالي : ما هي العلوم الانسانية؟ وانطلاقا من أي شيء هي محتملة؟ وكيف توصلنا إلى بناء خطب كهذه وإلى ان نمنح أنفسنا أشياء كهذه؟ وكنت أعيد طرح هذه الأسئلة لكن محاولا التخلص من إطار هوسرل الفلسفي. في الآن نفسه كنا نشهد الصعود البطئ للماركسية داخل ممارسة يمكن القول أنها تقليدية وجامعية للفلسفة. بالنسبة لأجيال ما قبل الحرب، كانت الماركسية تمثل دائما خيارا بالنسبة للعمل الجامعي. ومان لوسيان هار، وهو وجه تاريخي كبير، مكتبيّا جريئا في مكتبه مدرسة المعلمين، وفي المساء، بعد الانتهاء من العمل، يذهب لتنشيط اجتماعات اشتراكية دون أن يعرف أحد بذلك مبدئيا". وفي نفس السياق يواصل ميشال فوكو حديثه قائلا:" بعد الحرب دخلت الماركسية إلى الجامعة. وفي فترة ما، بدأ الطلبة يستشهدون بماركس في امتحانات شهادة التبريز. وهذا يتماشى مع استراتيجية الحزب تجاه أجهزة الدولة. وأتذكر جيّدا أن لوي التويسر أرسلني بلطف لكي ألقي محاضرات حول الفلسفة وحول الفلسفة السياسية للطلبة المترشحين للدخول إلى (CGT). وفي الحقيقة يمكن القول أن دخول الحزب الشيوعي في جهاز الدولة لم ينجح بشكل كامل إلاّ في الجامعة. هذا القبول للماركسية في الجامعة وقبول الحزب الشيوعي للماراسات الجامعية خلقا بالنسبة لنا وضعا جدّ سهل. أن يصبح الطالب مبرّزا في الفلسفة وهو يتحدث عن ماركس. كم كانت الأشياء سهلة وهكذا كنا نخوض معارك كاذبة: لكي يكون لنا الحق في الاستشهاد بانجلس وماركس، لكي يقبل رئيس اللجنة أن نستشهد بلينين. كانت تلك معاركنا الصغيرة، وكنا نظن أنها جدّ مهمة  فقط كلما دخلنا في هذه الوحدة بين الجامعة وبين الحزب الشيوعي، إلا واكتشفنا فزعين التطابق بينهما: نفس المراتب وتدرجات القيم، نفس الضغوطات، نفس الارتونكسيات (...). ان تكتب موضوعا لرئيس لجنة شهادة التبريز، أو أن تكتب مقالات يمضيها قائد حزب كما حدث لي، فانت لا تقوم بشيء آخر غير نفس التمرين. هكذا بدأت أعرف شكلا من أشكال الاختلاف سببها سهولة مثل هذه العمليات (...). وعندئذ انطلقت إلى السويد ثم إلى بولونيا".
ويقول ميشال فوكو أنه بدأ يبتعد عن الماركسية وعن الحزب الشيوعي لما كان يعمل أستاذا في بولونيا إذ أنه اكتشف الكيفية التي يسيّر بها الحزب الشيوعي البلاد، والطريقة التي يراقب بها جهاز الدولة. وهكذا بدأت أحلام وأوهام الطالب الذي كان يعتقد أنه بإمكانه أن يكون قائدا طليعيا للبروليتاريا تتساقط وتتهاوى الواحدة يعد الأخرى. ومنذ ذلك الحين لم يعد ميشال فوكو ماركسيا
أما التجربة الأخرى التي أثرت كثيرا في مسار صاحب "المراقبة والعقاب" الفكري والفلسفي فهي التجربة التونسية التي عاشها بين عام 1966 وعام 1968. وعن هذه التجربة هو يقول:" في تونس، اكتشفت ما يمكن أن يكون بقايا استعمار رأسمالي وولادة تطور من الصّنف الرأسمالي مع جميع ظواهر الاستغلال والقمع السياسي والاقتصادي". ويشير ميشال فوكو إلى أن التجربتين اللتين عاشهما في بولونيا قادتاه إلى اكشتاف العلاقة بين السلطة والجسد المقموع. الجسد الذي يضرب بشدة بالهراوات حين يتمرد صاحبه على السلطة. الجسد الذي يتحرك خائفا ومرتعبا ومتوجّسا في الشوارع لأن عيون المراقبين تترصّد حركاته وسكناته. وكان كتاب "المراقبة والعقاب" ثمرة هذا الاكتشاف للعلاقة بين الجسد والسلطة. لكن حال عودته من تونس، اصطدام ميشال فوكو بالماركسية والماركسيين من جديد. وهو يتحدث عن ذلك قائلا:"في السنوات التي أعقبت ماي/ أيار 1968، الذين كانوا يقولون عن أنفسهم أنهم ثوريون من دون ان يرجعوا إلى الماركسية بصورة واضحة وجليّة كانوا يحتفظون مع ذلك بعلاقة مع التحاليل الماركسية. وحين يتدخّلون، أو يطرحون أسئلة، أو يتناقشون مع الآخرين، تكون تدابير السلطة مرتبطة دائما بالماركسية. في "فانسان" طول شتاء 1968 -1969، لم يكن من السهل على الإنسان أن يعلن بصوت عال أنه ليس ماركسيّا"
ومثيرا موضوع العلاقة بين المعرفة والسلطة، يقول ميشال فوكو:"المعرفة منذ قرون، لنقل منذ أفلاطون، كانت دائما وبشكل جوهري مختلفة عن السلطة، عندما تصبح ملكا، فأنت تصبح مجنونا، انفعاليا وأعمى. تخلّى عن السلطة، تخلّ عن الطموح، تخلّ عن الرغبة في قهر الأخرين، عندئذ يصبح بإمكانك أن تتأمل الحقيقة. لقد كان هناك سير عمل قديم لكامل النظام المعرفي في معارضته أو في استقلاليته تجاه السلطة. في الوقت الحاضر، وبالعكس، ما نحن نسائله، هو موقع المثقفين والعلماء داخل نظم الانتاج، والمعرفة تبدو مرتبطة بعمق بسلسلة من تدابير السلطة. والأركيولوجيا هي في جوهرها هذا الكشف وهذا الاظهار. وصنف الخطاب الذي يروج في الغرب منذ قرون كخطاب حقيقة والذي أصبح الان خطابا عالميا، مرتبط بسلسلة من ظواهر السلطة والعلاقات مع السلطة. الحقيقة لها سلطة. وهي تمتلك تدابير عملية، وتدابير سياسية. اقصاء المجنون مثلا، هو واحد من التدابير الكثيرة لسلطة الخطاب العقلاني. كيف تتمّ تدابير السلطة هذه؟ وكيف تصبح محتملة؟ هذا ما أحاول أن أفهمه".