في صحة ابراهيم المصري

هيأت المائدة، اشعلت البخور، ووضعت امامي صحنا كبيرا، ملأته بالدموع والشعر والاغاني، ثم بدات بقراءة ماحفظت من تعازيم واوراد، ماتعلمت من ادعية سومرية وكلدانية: عربية وكردية وتركمانية، حتى بدأت المعجزة بالتجلي، اذ سمعت عراك الجمر، وطقطقة الدموع وهي تشتعل، في صحني، كالحطب، ثم تصاعد خيط دخان ازرق تكاثف، فاعطى خيوطا اخرى من دخان ابيض واسود واحمر، التحمت ببعضها وتكاثفت، فظهر المارد الذي الذي انتظرت: " شبيك لبيك، عبدك بين يديك، ماذا تريد ياعادل كمال؟ "
لم ارتبك من طوله او عرضه، بل وضحكت، لأن ياقته كانت ممزقة، اثر عراك، كما يبدو مع إحدى سيطرات الاخوة الاعداء وقوانين الطواريء، لكننى قطعت عليه الطريق فورا:" اريد أن يفوز الشاعر حسين علي يونس في انتخابات اتحاد الادباء هذا اليوم حتما".
انا رجل ميتافيزيقي، اؤمن بكل هذه الخرافات، لانها تعطينى تفسيرا بسيطا للعالم، لايقلق عقلي او يملأ حياتى سخاما ونظريات، وعلاقتي بهذا المارد الذي يشبه القمر في تمامه، قديمة، وأنا قد جربته في محن عدة، ولم يخذلنى قط، فقد تمكن من نقلي من مدينة إلى اخرى، انا وعفش بيتى واولادي، رغما عن سيطرات الاطلاعات الايرانية ورجال الحدود في باكستان وتركمانستان، بل وفي " باكو" عرفنى بامراة ايرانية، التقيتها فيما بعد في صحن سيدنا الكاظم محملة بالديناميت، مع ذلك فلم اقتل يوم حدثت الانفجارات هناك.هكذا، فانا متاكد من أن هذا المارد سوف ينجز مهمته، فيفوز الصعلوك حسين في الانتخابات، برمشة عين، ولاحاجة به إلى الوقوف امام عدسات الاعلاميين ليعرض نفسه، كبطل من أبطال التحرير او الاحتلال: القضية بسيطة: " كن فيكون" كما فعلها عدي ابن العوجة مرات ومرات، في فوز مرشحيه، رغما عن انف فلان وفلان وفلان، بل وكما فعلها صديقنا" بريمر " مع الحكومة الانتقالية الحالية.
على أي حال ليس كثيرا هذا على حسين الصعلوك، وهو الذي احرج المؤسسة البعثية، ودائرة الرقابة في وزارة الثقافة، عندما اشاع طريقة الاستنساخ كوسيلة لطبع مجوعاته الشعرية، التى ابتداها بعنوان لافت: " اساءات "، هذه الطريقة التى تحولت إلى موضة شائعة، لحد الآن في العراق، بالرغم من تبييض الحيطان والسجون في دائرة الشؤون الثقافية !
وبما أن لكل شىء ثمنه، فقد كان علي أن احتمل المرات الكثيرة، التى انقطع فيها التيار الكهربائى عن قاعة المسرح الوطنى، حيث عقد المؤتمر الانتخابي الأول، في مرحلة ما بعد صدام، وان اصبر على الحر التموزي في القاعة، وان لا اتبرم من غياب الوجوه الجميلة لاصدقاء وصديقات، وكتاب وكاتبات، والاهم: أن استمر بقراءة الاوراد والتعازيم، كيما يفلح ماردي بمهمته.
ابتدا المؤتمر بكلمة الشاعر هادي نعمان الهيتى مسؤول مالية الاتحاد، التى بينت العجز المادي للهيئة التحضيرية السابقة للاتحاد، والتى – ايضا- بينت، من خلال ملموسات النشاط الثقافي للدورة السابقة، مدى الاصرار والصبر الاسطوري الذي كان يتمتع به القاص حميد المختار في قيادة الاتحاد.
الادباء والكتاب الذين غابوا عن المؤتمر ربما فاتهم أن يتعاملوا مع هذه الامكانية المادية المتواضعة، وكذلك الاصدقاء في الخارج. فاتهم ايضا أن يتذكروا بان المؤتمر الانتخابي قد عقد تحت ظرف قوانين الطواريء. ففي صباح يوم 25\7نفسه كان شارع السعدون من بدايته حتى قاعة الانتخابات مدججا بالقوات المسلحة العراقية والاجنبية، ومنع فيه سير العجلات والمركبات والسيارات، وحتى الدراجات الهوائية، إلى ساعة متاخرة من ذلك النهار.
مع ذلك فان الاجواء كانت ديمقراطية داخل القاعة. فبعد أن حل المختار الهيئة التحضيرية السابقة، جرى ترشيح رئيس المؤتمر من الحاضرين. صار الرأي في الأول على ترشيح اكبر الحضور سنا، وهو الدكتور عناد غزوان، فاعترض عدد كبير من الحاضرين على ذلك باعتبار أن الدكتور غزوان هو أحد المرشحين للانتخابات، هكذا اذن تم ترشيح القاص احمدخلف رئيسا بدلا عنه، وبموافقةالاغلبية.
القاضي الذي رعى الانتخابات كان هو قاضي بداءة الكرادة، ولم اسمع صوته عاليا إلا مرة واحدة، عندما طلب احد الحضور أن يقدم المرشحين انفسهم للتعرف عليهم، فاجابه القاضي: "هذا الشىء كان يجب أن يحصل قبل يومين او ثلاث، ومن خلال وسائل الاعلام.."
" حسين الصعلوك " وجدها فرصة للتملص من الاستمرار في الانتخابات، فسألنى: " انتهبيش ورطتنى؟ "
قضية ترشيح حسين للانتخابات جاءت صدفة، فبعد يوم ساخن من الركض لجمع اثار عبد الرحمن الماجدي، من قاعة حوار إلى المرديان، مرورا بحسن عجمي ومقهى الشابندر، وجدنا انفسنا – انا والصعلوك- في باحة اتحاد الادباء، وبمواجهة الصديق الروائي الدكتور طه حامد الشبيب " كضيتكم.. ياملاعين " فاقترح علينا ترشيح انفسنا للانتخابات، مادامت الحياة تسير باتجاه الديمقراطية. حسين نظر الي، مستفهما، فقلت له: " فرصة افضل من فرصة الركض والبحث عن عبد الرحمن الماجدي ! "هكذا اذن، وخلال ثوان، وافق على ترشيح نفسه، لكنه اشترط على الدكتور الشبيب:" رسوم الترشيح عليك !" فوافق الرجل.
حسنا، لقد وجدنا اخيرا، مبررا لطرد الخيبة، فمن المفروض ان اقبض من عبد الرحمن الماجدي مبلغا ماليا محترما، وبما ان ذلك لم يتم على الوجه الذي كنا نتمناه، فقد سارعنا – هكذا يبدو – الى تغيير وجهة سير السفينة.

" اسمع، اذا انتخبونى، اصير مسؤول النادي " وضحك ضحكته الشهيرة " اشكبرها عد الله لو افوز ! "
صباح يوم الانتخابات التقيته ثانية بانتظاري امام باحة القاعة. كان المرشحون قد توزعوا على ثلاث قوائم: اسلاميين وديمقراطيين ومستقلين، عندما سالت حسين: انت في أي قائمة؟ اجابني " وانى اشمدرينى، تعال شوف هاي الشاعرة العجيبة " ولم تكن هناك ثمة شاعرة، فكل شىء جميل هو شعر بالنسبة لحسين.
المرشحون، وان توزعوا على ثلاث قوائم، الا ان ذلك لم يعكر من الصفو والود، كان الناقد فاضل ثامر احد المرشحين الساخنين، وكان يتحرك بنشاط لافت داخل القاعة وخارجها، ومع الوفود القادمة من المحافظات، التى شهدت حضور الوفد الكركولي ممثلا بشاعر واحد هو رعد مطشر، فيما كان حضور باقي المحافظات متواضعا ايضا، ربما بسبب الاوضاع الامنية، التى صارت الشماعة المفضلة لكل انكسار وفشل، اذ ان الوفود العربية الشقيقة، هي الاخرى، لم تحضر الى بغداد: هكذا يبدو ان على العراقيين ان يتعاملوا مع محنهم لوحدهم.

بعد تسمية القاص احمد خلف رئيسا للمؤتمر، تعالت اصوات استنكرها معظم الحاضرين، كان ثمة من يطالب بان تتقدم وفود المحافظات اولا بالادلاء باصواتها، بناءا على ان الطرق اليها بعيدة، ، ولما لم يعر رئيس المؤتمر اهمية لمثل هذا الموضوع، بدأ احد الحاضرين بالزعيق مطالبا بالانفصال، على نغمة خشنة وموحشة وقاسية لم يقبلها احد..

حسنا، هانحن في القاعة مع قلة، نستمع الى الاسماء يذيعها احمد اخلف، فيما توزع ثمانية من الشباب على المسرح، يؤشرون النقاط ازاء كل اسم. عندما وصل عدد البطاقات الانتخابية المقرؤة 25 بطاقة، ولم يذكر فيها اسم حسين على يونس، التفت الي هذا الاخيرقائلا: " يبين سالفتى امطيّنة " فنظرت اليه مازحا ومطمئنا الى ان كل شىء على مايرام، فلايستعجل، ثم لاتنسوا اننى انا من ورطه، اما الدكتور طه الشبيب فقد تملص منها، وجدته جالسا عند باب القاعة: " ها..بشّر، اشلونه وضعي؟ "
مرة، عندما انقطع التيار الكهربائي، لكزنى حسين قائلا " اشكبرها عدالله لو اصعد للمسرح هسه ! "
هكذا اذن، وصلنا الى الساعة الرابعة عصرا، وحسين على يونس لم يحصل الا على خمسة اصوات، فنهض منزعجا، ميمما وجهه صوب نادي اتحاد الادباء، حيث سيبدا الفصل الدامي من مخاضه العسير، ولم اجد بدا من مشاركته بعض همومه، ساخرا، لكن على مهل، من وساوسه، فالفكرة التى بدأت كمزحة، تحولت الى عملية تحدي ومغامرة.
كان ثمة موعد لابد منه مع الشاعر ابراهيم المصري، ومع الفنان سيف الخياط مدير اذاعة دجلة، في الطريق اليهما، عرج حسين الى احد المخازن القريبة من نادي الاتحاد، وخرج خائبا: " يبدو ان وزارة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلت الى قلاعنا ياولد "
اعتاد الادباء، من رواد الاتحاد، ان يبتاعوا مشروبهم السحري من المخازن القريبة، نتيجة لارتفاع اسعار المشروبات داخل النادي، لكن الرياح جاءت بالعكس مما تشتهي السفن، اذ هدد مسلحون ملثمون اصحاب هذه المخازن، فكفوا عن ذلك في الساعة التى كان فيها " الصعلوك "بأمس الحاجة الى وقفتهم معه: وضع يديه على خاصرتيه: " هسه شنسوي؟ "
حديقة نادي الاتحاد، تحولت مع الايام، الى بار شعبي بسيط، يروده ايا كان مقابل رسم قدره 250دينار، ومع ذلك فليس هناك ذكر للمتاعب ولا للمشاكل، وحين دخلنا في تلك الساعة كان النادي في ذروة ازدحامه.
التقينا باصدقاء لم نرهم منذ زمن بعيد، بزملاء اعتقدناهم قد ماتوا في الحروب الكثيرة او في المجاعات او في المقابر الجماعية، تبادلنا التحايا والكؤوس والدموع، قرانا الاشعار والقصائد، وتجادلنا في العراق ومستقبله، لكن ذلك لم يخفف من توتر الصعلوك، بل تحول فجأة الى محاضر بالحداثة والشعر وقصيدة النثر، فانقض على شاب مذيع كان بصحبة سيف الخياط واشبعه كلاما كبيرا عن الشعر، لأن هذا المذيع المسكين تورط فقرأ علينا قصيدة عمودية..
غير ان ذلك لم يلغ روحا من الفكاهة، كانت تتخلل ذلك الاحتدام، عندما كان حسين يقوم من هذه المائدة الى تلك، ثم يعود هامسا في اذنى: " ايكولون وضعي صار زين بالانتخابات ". مرة عاد فرحا، طربا، قال: " صار عندى اربعين صوتا ".." من قال لك؟".." زيارة مهدي " تعمدت فذهبت صوب الشاعر زيارة مهدي، فقال لي ضاحكا: " خلي بواهسه..تره هوه بعده عالخمس اصوات " هكذا فقد صار صاحبي محل التندر، وهكذا يبدو ان المارد الذي استنجدت به قد خذلنى هو الآخر.
وكما هو متوقع فقد اسرف " انكيدو " في الشراب، نتيجة تنقله بين الموائد – كان عذره طريفا: " اريد اسوي دعاية " – ونتيجة لاسرافنا معا في الاحلام، ولذلك كان لابد له من الانصراف، فانصرف تاركا اشلاء معاركه الكلامية على الموائد. كان الليل قد اصبح ليلا حقيقيا، فلم تبدده الا قصائد ابراهيم المصري، الذي بدا في تلك الليلة عراقيا اكثر من العراقيين انفسهم، لكننى ايضا – والحق يقال – شعرت بالاستياء مما جرى، ومن اشياء غير مفهومة بدت من الصعلوك، فطلبت اقفال الملف، ورجوت سيف الخياط ان يسمعنا فيروز، ونحن نخترق ليل بغداد بسيارته صحبة ابراهيم.
في الصباح: كانت نتائج الانتخابات قد اعلنت، ولم يكن لحسين ايما ذكر بين الفائزين. لم ار على وجههحينما ايقظنى من النوم سوى انكسار حزين، لما فعله بنا البارحة، لكنه اردف قائلا، وهو يهز كتفيه: " لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب".

هناك بالتاكيد ثمة خطأ ما قد حصل: اننى اعرف حسين الصعلوك جيدا، واعرف انه قاريء جيد للشعر، ولذلك اعتقد انه اكتشف سر التعازيم التى اؤديها لاستحضار ماردي العظيم – قاضي الحوائج – اذ بعد عودتى الى البيت، فعلت ما فعلته في كل مرة لاستحضاره، ولما تجلى لي وجدته مرتبكا، لم يقل لي كعادته:" شبيك لبيك، عبدك بين يديك " لكنه فسر لي ما جرى: " يمعود صاحبك حسين اصطحبنى معه الى البيت، وبقي يقرا علي اشعاره حتى الصباح، فلم اتمكن ان افعل له شيئا"