موسى الخميسي من روما: تشهد صالات متحف الجندي المجهول وسط العاصمة الايطالية روما معرضا للفنان السويسري بول كلي "1879-1940" الذي يعتبرمن الفنانين العالمين الذين كان لهم دور بارز ومتميز في وضع القواعد النظرية للتعليم الفني والتي تشكل جزءاً أساسياً من مبادئ الفن المعاصر، باعتبار الجانب النظري هو الأكثر اكتمالاً لمبادئ الخلق الفني. كما يعتبر من أبرز الفنانين المعاصرين الذين زاوجوا ما بين التشكيل والموسيقى والشعر، فقد وجد في هذه الاتجاهات الفنية الثلاثة، الرئة التي تنفس بها كل ابداعه للحد الذي جعل من الصعب الفصل بين هذه الاتجاهات، إذ أنه كان يشعر بهذه القنوات الثلاثة المتصلة كقيمة سيكولوجية ابداعية متوحدة، تحظى دائماً بدافع جمالي مؤثر، فهي حسب وجهة نظره التي طرحها في كتابه "طرق دراسة الطبيعة" والذي يعتبر بمثابة سفر في توضيح ماهية العملية الفنية ودور المبدع والمتلقي من اجل الحفاظ على الغرائز الجمالية في حياة الانسان، اعتبرها نسيجاً واحداً لكل تقنية. ففي التشكيل هو تنسيق ألوان على سطوح فارغة لها القدرة على مخاطبة المشاعر بصورة متطابقة وعلى النحو نفسه الذي تفعله الموسيقى او العمل الشعري الذي يصفه بأنه ليس شكلاً من أشكال التعبير فقط، وانما هو شكل من أشكال الوجود الانساني، وينبوع خفي يمكن ان ينبجس اذا ما أطلقنا لخيال الفنان أبواب الحرية. لقد حاول بول كلي بتقصيه المنهجي للون والشكل، أن يجد في الفن مضموناً جماليا ولغة نوعية مجسدة مختلفة ومتباعدة عما بلغته وسعت اليه الفنون التقليدية، فالتجريد لديه هو نهاية المطاف لمسار التطور الفني في العصر الحديث، ولقد ظلت رسوم الاطفال والنتاجات العفوية للناس في الرسم، نبعاً مهماً وثرياً لأعماله، لأنه وجد من خلالها عدم القصدية في التقيد بالمنظور والطبيعة التي كان يشعر بضرورة الابتعاد عنها أو السيطرة عليها بواسطة الاشارات والرموز، فهو يصف بمجازية خيالية رحلة الخط واللون في هذه النتاجات لعكس منظر طبيعي فيقول "جميع أنواع الخطوط المختلفة واللمسات والسطوح الملساء والمرقطة والمظللة بحركة موجبة، حركة مقيدة موصلة، حركة مضادة، مرقطة منسوجة، مسودة، مرهقة، اجتماع، تجمع الخط يتلاشى ثم يستعيد قوته مرة أخرى" إنه بعبارة أوضح يحاول على الدوام استخراج المحسوس في الواقع من دون التقيد بشيء.

كرس بول كلي طاقته كاملة لابراز خيالاته العميقة وتصوراته الأكثر بعداً في اغوار الحياة الداخلية، في الطبيعة وعالم اللاشعور، كان يتبع في ذلك مبدأ: الفن لا يمكن ان يعمل على تكرار الأشكال المرئية والمدركة، ولكنه سيعمل على إعادة النظر اليها، ليفرز مردوداً آخر لها، فأخذ يختار المشهد المرئي للكون وللعالم الخارجي، ليقترب اكثر فأكثر للداخل.
عوالم هذا الفنان هي عوالم خرافية مليئة بالأشباح والموسيقى والزخارف والمخطوطات المنمنمات، فهي جسر ما بين التجريد الهندسي ورمزية الأحلام، ما بين التكعيبية وما فوق الواقعية، وقد ظل بشاعريته العذبة، وحسه العفوي وبساطته الساحرة أحد كبار عمالقة فن الرسم الحديث، فقد كشف عملية العبور الصلب عن التشخيصية الى التجريد وبالعكس، وجعل من رسومه مادة كشف للعوالم الحلمية المختفية، للحد الذي اعتبره العديد من السرياليين واحداً منهم، ولكنه لم يعلن عن انضمامه لبرنامجهم لاختلافه معهم حول تفسيرهم آلية انبثاق العمل الفني عن اللاشعور، ففي الوقت الذي تؤكد به السريالية على تخلصها من هيمنة العقل والايمان بسلطة الحلم المطلقة، والتعبير اللاإرادي لما يمليه لا وعي الفنان، فإن بول كلي باعتباره واحد من أشهر "الفرسان الزرق" وواحد من الآباء المجددين في الفن الحديث، وشارك مشاركة فعلية في الوقائع والمتبدلات الداخلية والجذرية للثقافة والملاحظة الدقيقة، وذلك لأن العلاقة حسب وجهة نظر بول كلي ما بين المصادر الذاتية والمصادر الموضوعية، هي علاقة قوية وانتقائية وبالتالي فإن مراقبة الفنان لها دور هام فيها.
رمزية بول كلي تختلف عن رمزية عدد كبير من الفنانين المعاصرين له، فهو يعتبر من قبل كبار النقاد، أول من قطع ما يربط الفن ببعض التماثل مع المنظر الواقعي التشخيصي، وخلق عوالمه من أنظمة اللون والإيقاع وأنسجة الخامات التي يستخدمها، أو تقسيم الفراغ والمساحة، وترتيب الأحجام.
كتب يقول "ان العمل الفني هو عبارة عن نزهة يمكن القيام بها مع أحد الخطوط" وقال بعد ذلك الفنان الروسي كاندنسكي "إن الخط العمودي المرتبط بالخط الافقي ينتج صوتا دراميا" وبعدهم قال الفنان مالفيتيش "لا شيء له واقعية سوى الحساسية". وبهذه الأقوال وغيرها تعززت طموحات وطروحات الحركة التشكيلية المحدثة لتتساير مع واقع ظروف تاريخية واجتماعية، ولتساير التحولات التي أدخلها تقدم التقنيات في الوسط الانساني، وما رافق ذلك من تبدل في الأعراف والأفكار نتيجة التطورات العلمية وانبثاق الفلسفات الجديدة، الأمر الذي جعل من الاتجاهات الجديدة في الفن الحديث عاملاً مشتركاً لمحاولات متعددة قام بها عدد كبير من الفنانين، وقد تعززت هذه الاتجاهات ما بين الحربين العالميتين، وتكرست من ثم بعد الحرب العالمية الثانية، حتى بلغت القمة في بداية الخمسينيات.

حالة جديدة من الضوء، سواء كان ذلك نهاراً أو ليلا، فله على تلك السطوح المرسومة سطوع وسطوة، فالشكل عند بول كلي ينصهر في الضوء الساحق، ولا يتبقى سوى الجوهر، فهو يتسامى بهذه المساحات السرية فوق كل شيء. انه عالم متشابك ومتشعب كان فيما مضى مقفلاً على الفنان وحده وأصبح مقروءاً ومعاشا، فأشكال الطبيعة تتلون بحساسية ورقة، وبروح مفعمة بطاقة كبيرة متميزة، وبسحر الأجواء كانت في أوروبا أو تونس العربية.
زار ايطاليا وأحب ليوناردو دافنشي وميخائيل آنجلو وروفائيل، وبالمقابل صب احتقاره على كل ما أفرزه عصر الباروك من قساوة وعظمة زائفة، الا ان دهشته الأولى كانت مع رؤيته لمعرض لرائد الانطباعية الفرنسية سيزان وهو الأمر الذي ألهمه في السيطرة على طاقات اللون كمادة خلاقة وفعالة في التصوير، وكان ذلك مدعاة له لأن يعتبر نفسه فناناً تخطيطياً يصور التقاليد الجرمانية ويجيد تنفيذ الرسوم المصاحبة للمؤلفات الأدبية والشعرية، ليصبغ عليها روح الأدب، ولم يكن يرى في نفسه طيلة هذه الفترة مصوراً حقيقياً لأنه كان يعتقد بأنه لا يزال بعيداً عن ادراكه للبعد الحقيقي للون، حتى جاءت رحلته العربية الى تونس عام 1914 لمدة عشرين يوما فقط لتكون نقطة التحول الكاملة في حياته، ليصل الى فك اللغز المحير وبصورة مباغتة، فها هو بمواجبة الصفاء والوضوح وشفافية اللون، ويكتب في يومياته "ان شعوراً بالارتياح يتغلغل عميقا في داخلي، أشعر بالثقة، ولا أعاني من التعب، فاللون يمتلكني، ولم يعد بحاجة للامساك به بل انه يمتلكني والى الأبد، أشعر بذلك. هذا هو احساس هذه الساعة السعيدة، انا واللون واحد، أشعر بأني مصور" انها نقطة التحول الكبير ليس في فنه وانما في فكره وثقافته وكتاباته التنظيرية بالفن، حيث أدرك بأنه مقتنع بكونه رساماً بعد ان كان يعتقد بأنه لا يعدو أن يكون مصمماً لأغلفة الكتب وتزيينها، فالتجربة "العربية" حيث يجتمع الحلم، والحقيقة جعلته يستيقظ على ينبوع الالهام، وظل يغذي عطاءه حتى نهاية حياته "جولة ليلية في المدينة العربية، حيث يجتمع الحلم والحقيقة في آن معا، وكعنصر ثالث، حكمي الشخصي والمستقل الذي سأستفيد منه كثيرا".
تميزت لوحات مثل "جبل النيزن" و"قهوة عربية" و"مقابل الباب" و"منظر تونسي" و"أغنية عربية" وغيرها من اللوحات بعمق التماسك وتطور التدرج اللوني عنده على حساب الحدود الخطية التي كان يستخدمها في أعماله الفنية قبل رحلته العربية، فالشمس العربية كما رآها، تختلف عن تلك الباردة المحتجبة في أوروبا، فهي حسب تعبيره "تتغلغل في الجسم الانساني وروحه، وقادرة على عكس نفسها في كل بقعة لون، للحد الذي لا يمكن تفاديها، لبريقها ووهجها المشع". اما ليل العرب "فهو الآخر مختلف، فهو ليل صاف وكل شيء فيه يحمل النقاوة". أما الصحراء العربية "فهي مليئة بالألوان المرتبة".
يقول في اليوميات العربية "بعد الظهر بدأ الساحل الافريقي، وبعد قليل المدينة العربية الأولى: سيدي بوسعيد، كتلة جبلية تنتصب فوقها بتناسق حي، أشكال بيضاء هي بيوت، انها تجسيد للاسطورة، ومع انها ما زالت بعيدة، فهي واضحة بما فيه الكفاية. الشمس ذات القوة الطاغية، والوضوح الملون على اليابسة يحمل البشرى". وحين يضع بول كلي قدميه على أرض تونس وهو ما زال مسحوراً بالطابع الاسطوري للمكان، يشعر ثمة شيء يتحرك تدريجياً بداخله للحد الذي شعره بانغمار فيض السعادة "جولة ليلة في المدينة العربية، حيث يجتمع الحلم والحقيقة في آن معا وكعنصر ثالث، حكمي الشخصي والذي يحمل استقلالية الذي سأستفيد منه كثيرا". وتزداد تأثيرات الشخوص التي يلاقيها ومشاهد الناس وعاداتها وتقاليدها لتثري روحه فيقول في يومياته "وصلنا الحمامات، ما زالت هناك بعض من الطريق يجب قطعها سيرا على الأقدام، يا له من يوم، الطيور تغرد في كل مكان، في احدى الحدائق هناك جمل يعمل الى جانب بئر، انها لوحة توراتية بكامل أوصافها. لا بد ان ميكانيكية العمل بقيت على حالها، فالمدينة تقع على البحر، ولها أسطوريتها فشوارعها تتقاطع كيفما اتفق، النساء في الخارج أكثر عدداً من النساء في تونس العاصمة، فتيات صغيرات دون حجاب، تماما كما هو عندنا، وهنا يمكن الدخول الى المقابر بحرية تامة، وتوجد مقبرة في موقع رائع الجمال يطل على البحر، انتهز الفرصة وأحاول الرسم، القصب والشجيرات تشكل بقعاً متناغمة، تحيط بالمرء حدائق رائعة الجمال، النباتات الصبارية الضخمة تشكل جدرانا، وحين يمشي المرء فإن طريقه تحدده أشجار الصنوبر على الجانبين، لقد تمتعت ورسمت كثيرا، وفي المساء جلسنا في مقهى، كان هناك رجل ضرير يغني وبرفقته فتى ينقر على الطبل، انه لحن لا يُنسى".
على ضوء تجربته العربية التي ولدت في فنه ونفسه تأثيراً عميقاً ومحفزا، فإن كتاباته في " اليوميات" تؤكد اهتمامه الكبير في بناء اللوحة وفهم عملية تحليل العمل الفني، حيث قدم لنا بعد هذه التجربة شيئا خاصاً وأسلوباً جديداً مختلفا عن الذي كان ينتجه من قبل، أكثر اضاءة وأكثر بهجة، فاللوحة أصبحت بناء من المتعة البصرية واللونية، وفيها جمال الحركة، والعديد من هذه اللوحات اعتمد على الحرف العربي، ووضعت ببنائها خارج حدود التنسيق الهندسي التصميمي الصارم الذي كان يتبعه في بدايات عمله الفني، فالطابع اللامادي الذي انعكس في الخط وفي الرقش الزخرفي العربيين ذا البعدين والسطح الواحد، يقود المشاهد الى الايهام المنظوري.

لقد أصبح هذا البناء مزيجاً من دوائر وانحناءات وأقواس تبعث على التأمل من خلال لمسات شاعرية لروح الحرف العربي واستبطاناته واستيحائه لأجواء الفضاءات الممتدة وغير المحددة. ويمكن القول بأن التجربة "العربية" في أعمال بول كلي اعتدت على خاصية جديدة في بناء اللوحة، فبذكاء واحساس مرهف استطاع الابتعاد عن اظهار الابعاد والأعماق وبالذات الخاصية البنائية للمنظور الذي عرفته المدارس الغربية، واختصر كما هو حال الرسم الاسلامي القديم، على استخدام اللون والاضاءة. ويمكن ملاحظة ذلك ليس عن طريق الاستقراء السطحي، وانما عن طريق ربط العلاقات القائمة ما بين الشكل الذي يتناوله، وانفعاله الداخلي الذي يوحي على الدوام بعالم خيالي ما ورائي أقرب ما يكون الى روح المواقف الصوفية.