"فهرنهايت 9/11"

لتحليل حدث الحادي عشر من سبتمر، لا يكتفي جان بودريار بتوصيفه على أنه " إرهاب أثرياء " ولا يبدأ فيلم مايكل مور التفضيحي "فهرنهايت 9/11" من ذات البؤرة المعقدة، ولكنهما يلتقيان في ذات المكمن لتفكيك ذلك اللغز، كل بطريقته، فالإرهابيون بتصور بودريار، يمتلكون كل الوسائل لإفقاد أفعالهم كل اعتبار، والرغبة في هلاكنا، والقدرة على المخادعة حتى في أصول لعبة الموت، دون مبالاة بالقواعد، وهو الأمر الذي يصادق عليه مايكل مور سينمائيا في عمق المؤسسة الأمريكية الحاكمة بجرأة فنية وموضوعية تقوم على تدريم المادة الوثائقية، لتطال ما يزعم بأنه تورط سعودي، وإن بالغ في الحذر حيال الدور الإسرائيلي لدرجة الخرس.

هكذا رأى مايكل مور حدث الحادي عشر من سبتمبر كمنقذ لرئيس فاشل، وعليه صار يقرأ ذهنية الإرهاب، بتجاوز محدودية الأفق الذي تحصر فيه الزمرة الإرهابية عادة في أصحاب اللحى الخارجة على حدود اللياقة والخارطة الجيوسياسية، إلى الفاشيين الجدد، أي المتنفذين سياسيا واقتصاديا، حيث يسمي الفيلم تلك العصابة دون مهادنة أو مواربة، وبتوثيق لافت نشر أصوله على الأنترنت ليفضح كل دسائس تلك الزمرة السياسية والمالية، فهو لا يتوقع شيئا من أشكروفت مثلا الذي هزم أمام شخص ميت، ليضيف إلى غبائه وضعف شخصيته وقارا مصطنعا لحظة قسمه على كومة من الكتب المقدسة بتحقيق العدالة، ولا يمكنه تصديق كولن باول بكل تاريخه في الكذب، ولا الثقة بديك تشيني كسمسار نفطي، وهو الأمر الذي لا يروق لمثقفي اليمين الذين يعتبرن مثل هذه الحدة النقدية مجرد إفراز لثقافة شعبية وسوقية حاقدة تحلم بأمريكا أخرى بديلة، والأمر يبدو كذلك حتى لمفكر بسمعة جاك جوليار، إذ ينعت مثل هذه الملاحظات بنزعة معاداة أمريكا، حتى لو جاءت من داخلها، وعلى ذلك يسمي كل من ينتقد عمى وطيش سياسات اليمين الأمريكي باشتراكية الحمقى.

إذا، فالأثرياء الذين يعنيهم بودريار في تحليله لذهنية الإرهاب، هم المستفيدون من هشاشة النظام، ومن صورية النزعة الأخلاقية، وميلودراما النبرة العاطفية للإنسان الغربي، بحيث يبدو التنديد وشعارات الثأر، والتخطيط الصوري لضرب الإرهاب مجرد نكتة سمجة تتغنى بها منظومة عالمية فائقة القوة فيما تدمر نفسها بنفسها، أو تتفنن في ابتكار وسائل انتحارها، بالتآمر الضمني والصريح على منجزاتها مع من يفترض أنه العدو، وكأنها تكرر حماقة " النوم مع الأعداء " وهو الأمر المؤكد عليه في ( فهرنهايت 9/11 ) فهؤلاء الارهابيون هم صناعة المؤسسة الأمريكية، وبالتالي فهم " أسرى الشبه " بتعبير فيليب موراي، خصوصا في نزعتهم الراديكالية، وعليه يصعب تصور التجابه معهم بأكذوبة التحالف الملفق وفق ذهنية الكابوي وعجرفة " من ليس معنا فهو ضدنا " كما رسم معالمها مور بكاريكاتورية مثيرة للضحك.

هذا لا يعني أن الفيلم مجرد ترجمة بصرية، أو سينمائية بمعنى أشمل لجانب هام من تحليلات بودريار لأولئك الذين يقاتلون بموتهم، حسب تعبيره، ولا يمكن بحال اعتبار الفيلم حالة من التشفي في الجمهوريين والرئيس بوش لإخراجه من البيت الأبيض ليستكمل تاريخه الطويل مع الفشل، انتقاما من رئيس قال لمور " ابحث لك عن عمل نافع " فهو - أي الفيلم - قطاع عرضي في عمق الوعي والضمير الأمريكي، إذ يسائل، بسخرية مرة، وعي الفرد الأمريكي ومزاعمه الأخلاقية، وحيرته المصطنعة، أو خوفه ازاء سؤال حاد انبثق بقوة بعد الحادي عشر من سبتمبر " لماذا يكرهوننا!!؟؟ " وكأنه يريد القول بأن أمريكا ليست الجامع الإفتراضي لقوة مجازية بقدر ما هي فاعل يتوهم ويخطئ حد الجناية إذ يلعب دور الرب.

هنا يلتقيان أيضا فمايكل مور - الأمريكي جدا - يحاول في ( فهرنهايت 9/11 ) تفسير ذلك الزلزال الجيوسياسي ورد الفعل عليه من منظور أمريكي محض، فيما يشبه الرسالة الشخصية لكل فرد أمريكي، أما بودريار فهو معني بفلسفة ذلك الحدث وتأوينه على خلفية العولمة، وموت الأيدلوجيا، ونهاية الحرب الباردة، وتفتت القوميات، وصدام الحضارات، أي على حافة التبدلات الكونية، وقراءة آلية التصريف السياسي لذلك الحدث، وهو ذات الأمر الذي يفضحه مايكل مور، بتشريح عبثية النخبة اليمينية، ومطامع عصابة الكاوبوي، في محاولاتهم الماكرة لإمحاء مبررات الحدث أو التعامي عن هوله، وإلهاء الشعب الأمريكي بعدو افتراضي لا يتناسب مع أخلاقيات وجبروت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة الأمريكية في سعيها الواضح لتكريس وجودها كقطب أحادي، أو حتى كامبراطوية.

هكذا أمعنوا عبر الماكينة الاعلامية في دكتاتورية صدام حسين وتفننوا في ابراز سفالاته بشكل شخصي للهروب من استحقاقات اللحظة. وبرأيه، صار يرمى البسطاء والفقراء من الشعب الأمريكي في محرقة لا تقل رعبا عن فيتنام، بحيث يحشرون في دبابات على خلفية أشبه بصخب الديسكو حيث الأسطوانات التمجيدية للحرب والتلذذ بفكرة الفتك بالعدو أو " الآخر" لتبقي تلك العصابة على امتيازاتها السياسية والإقتصادية، فثمة من يصنع الحرب دائما ولا بد وجود من يدفع ثمنها، أو ضريبة وهم الانتصار، كما يسمي تلك الحرب التي يهلل لها الأمريكي بفخر حتى يخسر ابنا أو صديقا أو حبيبا، فيقف على حجم الخديعة.

وبنفس الروح التهكمية فضح ذلك مور في جهل أعضاء الكونغرس ولا مبالاتهم بكل القرارات الصادرة بعد الحادي عشر من سبتمبر، أو بمعنى أدق عدم اطلاعهم عليها، استخفافا بحياة الأمريكي، بدءا من الرئيس بوش الذي واصل زيارته لمدرسة أطفال فيما كان يتلقى أخبار حدث مزلزل بحجم الحادي عشر من سبتمر، واستمر لشهور يمارس ببلاهة توزيع الابتسامات والتصريحات اللا مسؤولة من ملاعب الغولف، الأمر الذي اضطر مايكل مور لقراءة " قانون الوطنية " عبر مكبرات الصوت في الشوارع، وكذلك في محاولته للاستفهام من سر رفض أعضاء مجلس الشيوخ ارسال أبنائهم إلى حرب لا يكف الإعلام عن التهليل اليومي بضرورتها.

بتلك الوخزات الساخرة جعل مايكل مور من فيلمه خطابا سياسيا ولكن بحرفية السينمائي، أي بتأويل بصري مقنع يحد من غلواء الخيال والخدع التشخيصية، ودون إفراط أو تصعيد ميلودرامي، فالبعد الرمزي للحدث يتعبأ في صور استفزازية وتهكمية صادمة. وبقدر ما تذكّر الفرد الأمريكي بجرحه النرجسي وضرورته ربما، تستفزه للتفكير عن الأسباب الكامنة خلف ذلك الخراب، فهو يتفادى حتى صور الإرتطام بالبرجين، ويستعيض عن ذلك بشاشة سوداء مسكونة بالعويل والإستغاثات وهدير الطائرات، إيمانا بإشارية الفن السينمائي، وتأكيدا على قوة الأثر، فيما يبدو تفعيلا للعلامة البصرية، التي يحاول بها كسر وهم التوحش الأمريكي، ومقولات الضرورة السياسية لتفكيك أحد " محاور الشر ".

وعلى ذلك يجادل مور نفس الاعتقاد الميتافيزيقي كما أستجلبه بودريار من عصر الأنوار، فالشر والخير يرتقيان بالقوة ذاتها، وانتصار أحدهما لا يعني زوال الآخر، على اعتبار أن الشر ليس مجرد " هفوة طارئة " كما تحاول النخب المتنفذة تصوير ذلك في آلية اختصار " الآخر " في مفهوم التخلف والإرهاب والعنف، والنتيجة بمنظور ( فهرنهايت 9/11 )، توريط الشعب الأمريكي في مستنقع آخر، يعيد ذكريات فيتنام، فمنطق مكنمارا يتوارثه رامسفيلد وهكذا يحاول الفيلم انقاذ الفرد والشعب الأمريكي مما يتوهمه عن نفسه ومن أكاذيب بوش ، او سارق الإنتخابات الأمريكية، كما يسميه.

هذا ما يحذر منه الفيلم بفصاحة الشاشة، فهذا النوع من الإرهاب الجديد، بتصور بودريار، يعي تماما قواعد اللعبة ويمكنه زعزعة سياقاتها، ولا بد من الإقرار بتلك الحقيقة التي دمرت العصب الرمزي والحيوي لأمريكا بتكنولوجيا نظيفة، فقد استخدموا رتابة الحياة اليومية الأمريكية للعبة مزدوجة، واستطاعوا مقاتلة النظام بأسلحته والتكيف مع الشبكة العالمية، لدرجة لم يعد بمقدور أحد التعرف على العدو من الصديق، وهو الأمر الذي أكد عليه ( فهرنهايت 9/11 ) بفضح عصابات المال الذين لم يتعاملوا مع ذلك الحدث إلا ككرنفال استعراضي، وإدخال الفرد الأمريكي في لعبة الألوان الحمراء والبرتقالية والصفراء، للتأكيد على تفسير قاصر للإرهاب يختصره في رغبة تدمير " الآخر " الحضاري وحسب.

هكذا يأتي ( فهرنهايت 9/11 ) كفيلم شعبي، وشخصي، وتوظيفي أيضا لمفهوم " حرية المعلومات ". يأتي مبكرا لينتقد كل مجريات ومعالجات الحدث، ليطالب بالتحقيق الفوري والجماهيري مع من أغفلهم التحقيق في " إرهاب الأثرياء " فلا حاجة لانتظار عقدين أو ثلاثة عقود للتماس بالحقيقة كما هو الحال بالنسبة لحرب فيتنام. ويأتي فنيا لتبديد سذاجة الصورة الإعلامية في استبسالها اليومي لتفريغ الحدث من معطياته الموضوعية والروحية، أي العودة به إلى واقعيته، بمعنى إعادة الوعي للأمريكي الذي يراد له أن يقاتل في حرب لا يفترض بها أن تحدث، لئلا يلتفت إلى ما يبدد فيه ما أوهام القوة والإستهلاك اليومي.

هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الأمريكي، بتصور ( فهرنهايت 9/11 ) مايكل مور، فهو ليس منذورا لسلسلة من " الحروب الإستباقية " وتأديب طابور من " الدول المارقة " ويفترض أن يتوقف عن عبادة الضحايا والنجوم، وتعليق النياشين على صدور الموتى من الأحبة، ولا يتورط في لعبة رمزية تحت مسمى الوطنية المضلل، فهذه اللعبة التي تقوم على التبادل بالجثث،كفيلة بإنهاء مشروع ومعنى الحياة، وقد اختصرها أحد المجندين بكثير من الأسى Its Hard to kill someone with out killing part of yourself . بالتأكيد، يصعب أن تقتل أحدا، دون أن تقتل جزءا من ذاتك. هذا بعض ما أراد مايكل مور أن يقوله لروح أمريكا المعذبة بعذابات الآخرين ....

كاتب وناقد من السعودية
e-mail:[email protected]