( 1-3 )
الخطاب الثقافي .. وتداعيات بناه التحتية

ان ماهية الثقافة شغلت الكثير من الفلاسفة والمفكرين وتقاربت وجهات نظرهم وتباعدت حول تفسيرها مفهوما واصطلاحا اعتمادا على مناطق اشتغال هذا الفكر وتبعا لمر جعيات حقل اهتمامه ولتعدد حقول الاشتغال الثقافي بسبب تدخل عوالم كثيرة في التاثير على درجات حركتها لتوجية المجتمع ومدى علاقتها بالتطورات والاكتشاف العلمية والتقنية وبالاخص المعلوماتية . تعددت زوايا النظر لماهية الثقافة عبر تاريخ من الرؤى الانسانية بحقولها المتشعبة .
ونعمد في مقالنا هذا الافادة من مفهوم جان بول سارتر للثقافة الوارد في بيانه التاريخي والانساني في مؤتمر السلام ونزع السلاح عام1962والذي ينص على ان الثقافة هي (وعي الانسان الدائم التطور بنفسه وبالعالم الذي يعيش ويعمل ويكافح فيه . واذا كان هذا الوعي صحيحا واذا لم يزور تزويرا متعمدا منظما ، فاننا سنترك بالرغم من اخطائنا وجهالاتنا تراثا سليما للاحقين ، واما اذا اخضعنا عملنا لنزعات العدوان .فاننا سنجعل اطفالنا الذين يستهلكون هذه الحقائق المسمومة فاشيين او يائسين ، الا فلنحذر هذا الخطر المهدد) ان القراءة الفاحصة لهذا النص البسيط الذي انتجه مفكر مهم مثل سارتر تكشف لنا عن مدى عمقه وثرائه الفكري وجدواه واهميته (لعيش يسوده العدل والامان ) . ويكمن الخطر المهدد في تفرد ثقافة العدوان للهيمنة على ثقافة السلام والاخاء بين الشعوب . وبهذه النزعة العدوانية سخرت كل الوسائل لاهدافها المشبوهة من اجل الهيمنة والتسلط فأحدثت تخلفا ثقافيا ملحوظا في حقل الانسانيات وتقدما مدهشا في حقل العلوم والتقنية 0لانها تعي ان تقدم الحقل الاول له الاثر الكبير في دفع الشعوب للسيطرة على حقل العلم وتستخيره لاسعاد البشر لا الى تدميرهم .
لقد سعت وتسعى وللاسف الشديد السياسات العدوانية للافادة من الاكتشافات العلمية من اجل تطوير اسلحة الابادة للدفاع عن مصالحها السافرة ( اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ) معززة هذة الشبكة من المصالح بثقافة مدججة بالسلاح لتدمير اعداء وهميين . وتحطيم التطلعات البشريه للحياة الرغيدة وذلك عن طريق خلق الازمات وتأجيج بؤر الصراع مع الثقافات الحرة المناهضة للتسلط والحروب والداعية للحوار من اجل عالم مستقر وسعيد وآمن .
وبهذا التصعيد المحموم لثقافه العنف يولد في الطرف الآخر رد فعل مغاير له في الأتجاه ويتخذ طابعا متطرفا في اغلب الأحيان . بسبب حصوله على اسلحة الإباده من السوق السوداء العالميه. والتي تشعره بقوته للرد على العنف بآلأعنف ليعصف الخطاب الثقافي في تيارات لا حصر لها من المسارب والمزالق المدمره والتي يكون ضحيتها البشر الأبرياء الذين هم على الدوام وقود الحروب الطا حنة .ان تآثيرات هذا الصراع اخذت تمتد على كل بقاع الآرض بدرجات متباينة وراحت تنشب هنا وهناك بؤر توتر تحولت بمرور الزمن الى مناطق تصفيه حسابات مباشرة وغير مباشرة في هذا الصراع المدمر وبالاخص في البلدان الفقيرة وبالذات الشرقية . ومن اهم هذه البؤر فلسطين وافغانستان والعراق وغيرها . وفيما يخص العراق وبعد ما حدث قي 9/4/2003 من متغيرات وما نتج عنه من تداعيات انهيار النظام الدكتاتوري والمتمثلة في تدمير البنى التحتية للثقافة العراقية ( اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وقانونيا وغيرها ) ، وبالرغم من الاجماع الشعبي على اهمية التوجه نحو الديمقراطية كحل امثل لاعادة هيكلة البنى التحتية للثقافة العراقية . غير ان الصراع بين تياري البناء والهدم ظل قائما بسبب اختلاف المصالح في هذا التغيير واخذ خطاب العنف ينشر جناحيه على الساحة الثقافية نتيجة لغياب الامن وتدهور الاقتصاد وعدم كفاءة المؤسسات القانونية . وعدم قدرة العقل الشعبي العراقي على استيعاب جوهر المتغيرات الجديدة لخروجه منهكا من دوامة الحروب الدموية السابقة . ولضراوة خطاب العنف اختارت الاغلبية الواعية من الشعب دور المتفرج لادراكها بان ما يجري هو صراع نفوذ نفعي وليس صراعا مشروعا لتحقيق اهداف نبيلة . وما حدث هو تشظي الدكتاتورية القمعية الى دكتاتوريات صغيرة تسعى من اجل السيطرة والنفوذ على الساحة السياسية . والزمن كفيل بكشف الاقنعة والازياء والبراقع عن هذه الدكتاتوريات. وكما ان المستجدات السياسية والاقتصادية وظهور مؤسسات السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية كفيلة بفضح متاريس التحين للانقضاض على مراكز النفوذ بمختلف مسمياتها واساليب عملها ما ظهر منها وما خفي . ومهما تنوعت ممارساتها فهي في حقيقتها تنتمي الى مرجع واحد هو الخطاب الثقافي السلفي . والذي يحاول بث الروح في النصوص الميتة . وصنع التماثيل والاصنام الوهمية . وخلق اجواء الشك والريبة ازاء كل ما هو جديد ومتحضر . وبالذات التقدم العلمي ( التقني والمعلوماتي ) .
ان التوجه نحو المجتمع الديمقراطي يتطلب اعادة النظر في جملة عوامل اساسية لتحريره من ثقافة العنف وترسيخ ثقافة السلام والاخاء بعيدا عن نزعات الكراهية والعدوان ومن هذه العوامل بناء اقتصاد سليم يرفع مستوى معيشة الفرد لتطوير ملكاته الابداعية العلمية والنظرية . وهذا لن يتم الا بتحقيق وتوفير عامل الامن والاستقرار الذي لا يتحقق الا عن طريق بناء مؤسسات السلطة التنفيذية القادرة على العمل باستقلالية تامة دون الخضوع للتأثيات السياسية او النفعية ضيقة الافق . وان تركز على مهمتها الاساسية في تنفيذ القوانين والتشريعات التي ترسمها السلطة القضائية المستقلة في صلاحياتها الدستورية والتي استمدت وجودها من السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب عبر مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية . و هذه السلطات الثلاثة يجب ان تعمل منفصلة بصلاحياتها ومجتمعة باهدافها العامة لارساء تقاليد ثقافية جديدة للمجتمع الديمقراطي المنشود والذي يوفر للاجبال اللاحقة تراثا ثقافيا سليما خاليا من آثار جهالاتنا واخطائنا والتي تفرزها دائما تداعيات المنعطفات الاجتماعية الخطيرة . كما ان خضوع هذه السلطات الثلاث الى المسائلة والمراجعة ورقابة مؤسسات المجتمع المدني بشتى اهتماماتها وبالذات الاعلامية بوصفها سلطة رابعة سيبعد الاجيال اللاحقة عن استهلاك الحقائق المزيفة والمسمومة والتي تدفع بهم الى تبني الافكار الشمولية ذات النزعة الفاشية المؤدية الى مسارب اليأس والاحباط . ولاهمية المؤسسة الاعلامية في نشر واشاعة الثقافات الانسانية والعلمية بين افراد المجتمع يتطلب ان تكون حرة ونزيهة وغير موجهة مركزيا من قبل أي فكر شمولي قامع للحريات والافكار الانسانية . وتبتعد عن محاولات التزوير المتعمد والمنظم الذي يحد من وعي الانسان الدائم التطور بنفسه وبالعالم الذي يعيش ويعمل ويكافح فيه . أي بمعنى آخر والذي يكبل الثقافات الانسانية باصفاد المنع التي خلقها الرقيب الخرافي سيء الصيت صنيعة الفكر الشمولي القمعي احادي الرؤية والذي يقيد الابداع في حركته ابان مخاضات الخلق ضمن اطار مثلث الحظر الموجه لصالحه ( السياسة والدين والجنس ) والمليء بالاراضي الحرام والحجابات والالغام والفخاخ والاسلاك الشائكة والتي تفعل فعلها في التأثير على حرية الخطاب الابداعي في استنطاق خفايا عوالم السجايا والطبائع الانسانية بمجسات الهدم والبناء الفني .
هذا المثلث المثير للرعب والخوف لدى المبدعين لعلمهم سلفا بانه وجد لتثبيت دعائم الهيمنة والطغيان عبر قنوات بث المؤسسة النقدية للسلطات القمعية . وان أية محاولة للتمادي في تخطي حدود المثلث المرسوم تعده مروقا لا تحمد عواقبه وتجاوزا على السلطة التي استمدت وجودها وقدريتها الفاشية من خلال تبنيها لعقيدة مخادعة تمرر شبكة نفوذها على كل حقول المعرفة الانسانية . عقيدة تبدو بالترغيب والترهيب وكأنها راعية لكل السنن والقوانين والاعراف الدينية والدنيوية . وبمرور زمن الهيمنة والتفشي تتحول الى ما يشبه القدر المسلط على الذاكرة الثقافية للمجتمع لخضوعها لمختلف اساليب وصور القمع والتغييب والتشويه والغواية والتذويب وغسل الادمغة وغيرها من الممارسات الشيطانية لمحو الذاكرة الواعية لقيمها الاخلاقية والتربوية ولاسباب رقيها وتقدمها الحضاري في حقل الانسانيات وحقل العلوم والتقنيات والاتصالات الحديثة .
ان دولة الخوف والرعب التي يهيكلها الفكر الشمولي احادي الرؤية لن يكتب لها الدوام . لانها تتبنى خطابا ثقافياً قائماً على العنف والتشدد العقائدي. وتستحوذ على شتى ميادين الخلق والابداع من خلال مؤسسة اعلامية مركزية تصادر حرية الرأي والعقيدة .. وتهيمن على حقول المعرفة من خلال مؤسستها النقدية التعسفية التي تدجن العقول وتأسر الارواح تحت شعارات انسانية جذابة ومخادعة. في حين تستبطن الخراب والتدمير للانسان وقيمه الاجتماعية وكذلك حقدها الدفين على الثقافة وقيمها التحررية.