إشارات في المتغيَّر العراقي


بالرغم من الصعوبة البادية بوجه أية محاولة تتطلع إلى قراءة الاتجاهات التي تهيمن على خارطة الواقع العراقي الجديد على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو استشراف مستقبلها، فإن بالإمكان تلمس بعض السبل الموضوعية في مختلف المسارات الحياتية، ذلك بالرجوع إلى تاريخية الصراع وفهم أبعاده الحقيقية، وتحديدا عبر تفكيك آليات الصراع من زاوية إمكانياته وآفاقه ومرتكزاته الأساسية. لكن حتى مع الصعوبة هذه بدا لنا إن إحدى المشكلات الملموسة التي بدأت تطرح نفسها الآن بدرجات متفاوتة في فضاء الحياة العراقية الراهنة بمختلف أصواتها وتطلعاتها، هي المتعلقة بتحديد طبيعة الخطاب الثقافي عامة في زمن المتغير السياسي الحالي الذي ترك تداعياته وآثاره على جوانب الحياة العراقية كافة. وقد يكون من المناسب الاعتراض إجمالا على هكذا طموح بالقول : إن من غير المناسب أو المنطقي الشروع حاليا بترسيم قراءة تتعجل معرفة نوع الخبز قبل بلوغ الفرن أقصى درجات سخونته، إلا في حدود القبول بقانون الاحتمال والترجيح الذي يحكم اغلب القراءات التي تتوسم عقلانية ما في تصويباتها المرجوة.


1- ليست ثورة:
من النوع الذي يتكفل مجرى الواقع بتخفيف حدته لاحقا، كان الزلزال العراقي محط أحلام وأمنيات بالنسبة لعديد من القراءات ممثلة بأطرافها أو العكس. فيما يبدو من الضروري حاليا تحرير كل الطاقات والعقول من ربقة الوهم السياسي داخل النخب والأحزاب السياسية، حتى يكون بوسعها التفاعل جدليا مع معطيات الواقع بمختلف صوره، والذي تسهم الأطراف غير العراقية بصياغة ملامحه الأساسية وتحديد اتجاهاته اكثر من سواها. طالما أن المستعمِر يشارك بفاعلية خاصة في كتابة تاريخ الشعوب التي لامس أرضها وناسها، مثلما يذهب المفكر ( إدوارد سعيد ) في قراءته للظاهرة الكولونيالية. ومع تنامي الشعور بعسكرة عالم اليوم لن يعود حتميا إسهام البشر في صنع تاريخهم عبر تصميم ثوري وإرادة طهرانية، تتعاطى بديماغوجية مع ظرف موضوعي بعينه، لا يستقر على حال، في الوقت الذي تدعوك فيه واقعية حدوثه إلى حسن قراءته، اقصد حسن قراءة العالم.
سيكون التحدي الأساسي المحتمل مواجهته عند محاولة قراءة تداعيات الشأن العراقي، مرهون بغربلة صور بعينها من بين مجموعة كبيرة من الصور شغلت الساحة على نحو ظاهر، ورُسمت بأمنيات صرف لتطابق مجرى الواقع ( المنفلت والشائك وغير المسبوق ). وقد يقتضي هذا العمل ضربا من التيقّن الواعي يُظهر للمرء بجلاء أن شيئا من تأثير ( الخميني أو بن لادن أو الدبابات السوفيتية ) لم يكن فريدا في حضوره، ولن يقوى على الاستمرار لوحده في ميدان المخاضات والاتجاهات السياسية والثقافية الأخرى، إلا في حدود التمني الشخصي الواهم للأفراد والجماعات، فثمة صورة أخرى مهيمنة تسعى إلى أن تكون اقرب إلى التصديق تكشف لنا :كيف يقف الحديد المرّ لعجلات ( ابرامز ) صلبا، واضحا، دالا اكثر من سواه، بل كيف اصبح ذلك الاستعراض المخيف للقوة مصدر الواقع المسموح برؤيته وتصديقه والتفكير به. قد نتساءل هنا : ما هي القراءة التي يمكن الاتفاق حولها بشأن ما جرى ويجري ؟ هل ثمة حقيقة متفردة يمكن تقديرها في عالم صوري دفع ( ليوتار ) إلى القول إن حرب الخليج الثانية لم تقع أبدا ؟
ربما كان ( نيتشه ) المفكر الوحيد الذي ازدرى هذا النوع من الجدل العقيم، قائلا : إن امتلاك الحقيقة، مثله مثل امتلاك أي شئ آخر يؤدي إلى السأم والملل. رغم الذي تَقَدَم قد لا يقتصر الجوهر الفريد للعقلانية على معرفة العالم واقعيا، إنما يتعداه أحيانا نحو اختلاق دراية سلبية به.


2- امتياز ثقافي:
علينا أولا تحديد ماهية المتغير السياسي العراقي الراهن وتوصيفه ليكون بالإمكان التعرف على تفاعلاته وتداعياته المحتملة على الساحة الثقافية، مقصد قراءتنا هذه.
وقبل محاولة الإجابة عن أولا، قد نتساءل هنا : لماذا الحاضنة الثقافية دون غيرها مجالا تأويليا للحدث العراقي بكامل جسامته ؟ من أين تتأتى الثقة بممارسة نظرية قد لا تتمثل مقولاتها، فيما تزدري أحيانا مسرح الأحداث برمته، قياسا لاتساع الهوة بين الأفكار والواقع، ونظرا لواقعية قراءات أخرى، مرجحة علميتها، كالقراءة الاقتصادية والسوسيولوجية. مع ذلك قد يكون من العسير التفكير خارج حلول هذا التساؤل الخاص بالثقافة نفسها كامتياز مادي يحدد معالم الصلة بالعالم – كحراك واقعي – بأعلى درجة ممكنة من الوعي/ المفهوم. ولأنها ( أي الثقافة ) غير واعية أو متأكدة من معاييرها أحيانا، برفضها المطلقات والمسلمات، فإنها تاريخيا تعد مجالا جدليا ودنيويا مرجحا للتقويم والتأثير والشراكة مع أيما حقبة زمنية يجري إعادة صياغتها للخروج من اسر هذا المأزق الإشكالي للواقع القائم بكامل التباساته، والذي يستعصي نموذجه العراقي على التناول المفهومي. لذا فإن أية محاولة للخروج بنسق معرفي من قراءة متاهات الملف العراقي وتفسير أحجياته هي عمل إبداعي صرف.
لنجرب أن نتساءل إن كان لدينا اليوم ما يمكن تسميته بـ ( ثقافة تغيير )، تعد نسقا لمجموعة قيم معينة تفتحت أو هبت علينا بمعية المتَحول السياسي الراهن ؟
إذا كنا نتفق على رجاحة البرهان المضاد، من إن الذي حدث ويحدث لم يكن من قريب أو بعيد ( تحولا ثوريا ) بالمعنى الذي يحدده القاموس السياسي لمفهوم الثورة بوصفها باكورة التفاعل بين النظرية والممارسة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فقد لا نختلف في القول بأن التغيير في العراق كان عملا عسكريا دراماتيكيا. عمل هوليودي ذكي صممُ للعرض على شاشات العالم، قد حتمتهُ حاجة أمريكا للتدخل السريع في الشرق الأوسط وإدارة الصراع فيه بشكل ينسجم ومسار مصالحها في رؤية توازنات جديدة تفرغ الدول المارقة – بتصورها – من دائرة العنف وتربط اقتصادياتها بعجلة اقتصاديات الشركات الأمريكية العملاقة، ناهيك عن محاولة تبديل النخب العربية العتيقة بأخرى جديدة تتماشى مع رياح العصر الأمريكي. على الأقل هذا ما يكشفه منطق الإدارة الأمريكية حاليا من على القنوات الإعلامية. وسيكون من مقتضيات هذا التوجه السياسي الأمريكي الجديد الذي تبلور بعد أحداث سبتمبر، استحداث إجراءات عديدة على الصعيدين الاجتماعي والثقافي – بعد تطويع السياسي والاقتصادي - تهدف إلى تخفيف التوترات العقائدية واقامة مؤسسات ليبرالية على الطراز الغربي تؤمن نوعا من الحياة التعددية والرفاهية النسبية بوسعها الوقوف بوجه الأخطار الأصولية والتزمت العقائدي أيا كان. وفي المحصلة لا مناص من التعامل معه بصفته توجها جديا يظهر محدودية الخيارات الستراتيجية لمنطقنا السياسي والثقافي معا. وحيث لم نشهد انتفاضة جماهيرية ولا بطل ثوري ساحر، كما أن لا مجال لافتراض صور بطولية كهذه في مكان صغير معولم يدار من على شاشات حساسة، فليس ثمة ثقافة ثورية بالمعنى الذي تدخره الكتب الصفراء، ويطيب للعقل الدوغمائي إسباغه على مجرى الأحداث بشكل قسري كاذب. فيما يبقى البعض يجاهد برغبوية نفعية على حشر تلك الصورة المتمناة عنوة، لتبدو للعيان وكأنها ديكورا مختنقا لغرفة بلا ملامح، مثلما يبدو الانتصار الكاذب للأصولية العتيقة كأنه مسمارها الصدئ.


3- استنطاق الشفرات:
إن اغلب الخطاب الإبداعي في العهد السابق كان محاطا بنظام شفروي ملغز حقق فيما حقق نوعا من المتعة والشراكة الدالة مع المتلقي، وحصن منتجه في الوقت نفسه من مزالق الكشف المبرهن. بمعنى أن الاتكاء على خندق التأويل المزدوج كان درعا لمنتج الخطاب يحتمي به ويلجأ إليه تجنبا لسلطة هوجاء فرضت أسوارها المنيعة على حركة الإنسان بمجمل فعالياته الثقافية والمعرفية، هذا من جهة، ونقطة شروع بمناورات تكتيكية للخطاب نفسه من جهة أخرى. وباعتبار أن أية محاولة لتأمل مفاصل الخطاب تفضي بالضرورة إلى تلمس نسق سلطوي موارب فيه، سنكون إزاء سلطتين غير متكافئتين، هما : السلطة الرمزية للثقافة والسلطة الفعلية للمؤسسة، مع ملاحظة صعوبة الفصل – كما هو معروف – بين السلطتين بشكل معياري أو تفضيلي، لا في الحقب الدكتاتورية المعهودة ولا حتى في الحقب الليبرالية. فما بالك بامتياز الدكتاتورية العراقية ؟ ولا احسب أننا نتجنى عليه إذا قلنا إن معظم إبداعنا السابق كان يسبح في عوالم رمزية، متوغلا في مناطق محظورة تتغشى بالأسرار والإيحاءات خشية الإمساك به متلبسا، فيتوارى حينا ويؤشر بوضوح نسبي حينا آخر. أما ما ينجز الآن بقليله المعلن للاستهلاك اليومي فيبدو انه يتراوح بين حالتي اليقظة والحذر وعدم استقراء الأفق القادم بجلاء واثق، يحاول الإعلان عما يدخره للحظة المصيرية الراهنة من سبل جديدة للتواصل مع قيم الإنسان والثقافة. وقد يكون من حق البعض ان يتريث قليلا ريثما يصبح بمستطاعه فك شفرة العصر الآتي والذي يحتاج ردحا زمنيا ما قبل استبيان ملامحه وتوجهاته.

[email protected]