الورقة الأولى

يعتبر درويش في مقدمّة الشعراء الذين ظفروا بحضورٍ خلاّقٍ ومؤثر في خارطة الشعر العربي المعاصر، فلقد استطاع ، من جانب، أن يُقدّم أعلى المراتب الغنائية في القصيدة، ومن جانبٍ مرافقٍ، كان له الإطلاع الناضج على تجربة الرواد، ومن ثم راحَ يطوّر عليها متجاوزاً بشعريتهِ مسافاتِ قُصوى على صعيد التجديد والاستثمار التقني في قصيدة التفعيلة؛ التي يتّخذها هويةً جماليةً لا تتغيرُ. هذا بالإضافة إلى إرتباط شِعره بالموضوعات والقضايا الوطنية الساخنة التي حلّت بخطابه الشعري حلولاً جعل منه شاعراً جماهيرياً لصيقاً بالوجدانيات العربية.
وقبل أن ننصرف إلى تناول ديوانه الجديد " لا تعتذر عما فعلت"؛ سنلقي أبعاضاً من الضوء على السياق المراحلي الذي عُرفَ فيه، وبه الشاعر. فلقد عُرِفَ عن خطاب درويش الشعري على أنه "أنموذجٌ مثاليٌّ للنص الكبير المحمَّل بالإشارات التاريخية، والمحمول من جمهرة قراء سياسيين على تأويلات تفصيلية لا يتحملها المشروع الجمالي للشاعر.." وبذلك، فإن الخطاب السياشعري لدى درويش قد أرهق القصيدة " بمفردات واضحة تماماً: " تفاوض، سلام ، حرب ، أعلام ، معاهدة ، ...إلخ..، وحين يستخدم شاعر ذو حثيثة محددة مثل محمود درويش هذه المفردات، فإن علم الأجناس الذي يصف الإنسان بأنه حيوان سياسي، سيدرج لغة الشاعر في قاموسه الصارم، لتدخل معمل التأويل وتخرج بياناً سياسياً أو أي شيء سوى الشعر"(1)

واستناداً لما سبق ذكره يمكننا وضع درويش في محطتين إعلاميتين بارزتين، من منظور خارجي. مع عدم إغفال حلقة البروز الإرهاصية التي تنامت حركتها في إثر نشاط درويش الحزبي ـ راكاح (في داخل الوطن). على أننا سنستند غالباً على هاتين المحطتين المتعالقتانِ بشكلٍ مباشرٍ بأبرز موضوعات درويش الشعرية- المنفى، وأفعال تشكيلات الصفّ القيادي الذي ساسَ وقاد الحركة النضالية من جهة الخارج:

المحطة الأولى: منظمة التحرير الفلسطينية، فارتباط اسم محمود درويش الشاعر بذاكرة القاعدة الجماهيرية والثقافية ترافق ومكانته كشاعر وسياسي في بيت المؤسسة الوطنية التحررية؛ فهو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي خاضت وتخوض المعارك القتالية وغير القتالية مع الآخر على جبهات متعددة، بمستويات متنوعة. إذن؛ فتجاورُ الخطاب الشعري الدرويشي مع الخطاب السياسي، جعل من درويش شاعراً رسولاً يحمل رسالة أرضية سائحة وعادلة.

المحطة الثانية : وهي المحطة الأهم، بيروت زمان ومكان الفعل والقول والانقسامات والميليشيات، ففي تجربة بيروت كان درويش يصغي جيدا لتتابع سير المعركة وتداعياتها من جهة، وتوالي ردود الفعل القاعدية والرسمية من جهة، وموقف الوجدان من جهة أُولى. فقدم خطابه الشعري للجمهور المفجوع، للمدينة المدمرة ، للمثقف المشروخ، للعالم الأصم، ألقى خطاب الصرخة الشعرية المتحلقة " في مديح الظل العالي " ، فصرنا نردد معه بغنائية عالية [ حاصر حصارك لامفرُّ / إضرب عدوك لا مفرّ ] و نلقي مثله ،تماماً، بنبرةٍ تهكمية [ ندعو لأندلسِ إن حُوصرت حلبُ]، ونغني لبيروت في مكانٍ آخر[ "بيروت تفاحة/والقلب لا يضحك/وحصارنا واحة/في عالمٍ يهلك ] وننتمي إلى هذا الألم الناصع في منظومته الكوكبية، [ للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا/ لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا]

في " لا تعتذر عما فعلت" يحاولُ الخطاب الدرويشي أن يكون مختلفاً إلى حدّ ما، ويتضح ذلك من إنصراف الشاعر إلى مخاطبة ذاته، وآخره، صورته، مرآته، ظله، شبحه؛ في محاولةٍ منه لتغيير مادة الخطاب الجاهزة ،التي عُرِفَ بها، وتخليصِ الذاتِ بنقلها من العام إلى الخاص؛ غير أنّه لم يستطع أن يُقدم للقاريء ذاته المخلَّصة في القصيدة الجديدة، ذلك أن الذات الشاعرة عند درويش تحرصُ دائما على إدغام "الأنا بالنحن" منتجةً خطاباً واحداً غير منفصل، ولا يمكن له الانفصال. ويُشير الناقد العراقي محمد الجزائري إلى ذلك في كتاب "خطاب العاشق"، قائلاً: "المبدعونَ عشّاق إندمجوا بفنهم، اندمجوا بخاصة، بذلك الوهج الذي يقدمه خطابهم، تماما مثل نحاتي سومر وأكد وبابل وآشور...، اندمجوا بالذات العامة ضمن فضاء التعبير الخالص الانتماء إلى آلهتهم، ملوكهم، مقاتليهم، طقوسهم. ويضيف، كذلك الحال في قصص البطولة، والمقاومة والنضال، والهيمنة تبقى لعاطفة الخطاب لأنّ العاشقَ يمدّ خطابَ عِشقه إلى الوطن، الناس، ضد قطيعة خارجية، ضد قطيعة تفتعلها قوى ضاغطة، كي ينأى بنفسه وإنسانيته، عن نفسه وإنسانيته.(2)

وهو ما يؤكدّه درويش في " لا تعتذر عما فعلت:

...وأنا صوتُ
نفسي المشاع: أنا هو أنت ونحن أنا.
( بيت من الشعر/بيت الجنوبي)

... كلما ضاق سجني توزّعتُ في الكلّ،
واتسعتْ لغتي مثل لؤلؤةٍ كلما عسعس
الليل ضاءتْ/
( كحادثة غامضة)

يخلق درويش في هذا الديوان تشبيكاتٍ وعلاقات وصلات وروابط بين القصائد المُرتّبة عن وعي تام،ومن جانب آخر يخلق الشيء ذاته فيما بين دواوينه. ويسعى بذلك إلى استدراج القاريء وإبقائه في فلكٍ شعريٍّ متناغمٍ وفق رسمهِ لخرائطه المتشابكة، فنجدُ أن دليلَ أو مفتاح أو عنوان قصيدة تالية ترتيبياً يندرجُ كسطر شعري في قصيدةٍ سبقتها سواء في الديوان ذاته أو في ديوان آخر، فمثلاً: عنوان الديوان الجديد " لا تعتذر عما فعلت" نجده في ديوان " هي أغنية ..هي أغنية " كسطرٍ شعريٍّ في قصيدة. أما فيما يتعلّق بتناولنا للديوان الجديدِ، فسنلاحظ عند قراءتنا لهذه القصائد (وأنا وإن كنت الأخير/ في بيت أمي / لا تعتذر عما فعلت)،والتي تعتبر من البداية المُهمة والخصبة في الديوان، سنلاحظ أن بذورها كامنة في قصيدة " يختارني الإيقاع" تلك القصيدة التي ،من جانبٍ، تمثّلُ بياناً استهلالياً محتواه الرضا بالشكل الشعري الذي يتعاطاه الشاعر،؛ ومن جانبٍ آخر، تُمثّلُ تأسيساً لتناول شعري يتسع في قصائد لاحقة، كيف ذلك؟!

عند قراءة أول قصيدة في الديوان" يختارني الإيقاع" سنلاحظ أنّ الشاعر قد شَغّل وركّب وكثّف معانٍ في جُملٍ، وجاور بين مفرداتٍ مثل( قلب الأم/ مرآة/ امرأة مطلقة/ مازلت موجوداً/ لن تعود كما تركتك/ ولن تعود..) ومن ثمّ كانَ الذهابُ لفرطِ المكثّفِ، وطرق المعنى ذاته بتوسعٍ شعري مُفَصّلٍ؛ من شأنه أن يضع المتلقي في دائرة التساؤل حول تضخّم وتكرار الخطاب. في قصيدة (وأنا، وإن كنت الأخير) يقول :

وأنا سيحملني الطريق
وسوف أحمله على كتفي
إلى أن يستعيد الشيء صورته
كما هي،
واسمه الأصلي في ما بعد/
كل قصيدة أمٌّ

وهو ما تطرّق إليه ،بصيغة أخرى، في قصيدة (يختارني الإيقاع):
أنا مازلت موجوداً
ولكن لن تعود كما تركتك
لن تعود ولن أعود

إننا نقرأ مما سبق اقتباسِه انعكاساتِ التغيّر والتبدّل والتحوّل التي طرأت على "الشيء"، الذي يعبأ الطريقُ بحملِ الشاعر فيه، كما يعبأ الشاعر بحمله على كتفه؛ إلى أن يستعيد الشيء صورته، وهو ما يعني أن الغاية هنا حاملةٌ لطلبِ الاستعادة، وهو ما يشي بوجود شيء- رمز ،بالضرورة، معنويّ، ما يزال ناقصاً أو مفقوداً لدى صاحبِ "أنا مازالتُ موجوداً" الذي يقول في قصيدة "إن عدت وحدك":
قل لنفسك: عدتُ وحدي ناقصاً
قمرين،
لكن الديار هي الديار

أيضا يتناول المعنى ذاته في قصيدة " لو كنت غيري" :
كم أنتِ أنت
وكم أنا غيري أمامكِ ها هنا

ولعلّ في قوله "وأنا سيحملني الطريق/ وسوف أحمله على كتفي" ما ينفتح على محتوى قصيدة "لو كنت غيري" والتي فيها ما يشي بانشغال مسافة الشاعر الزمنية والمكانية بالسفرِ الخياليّ، وبالتمني وبالغناء إلى البيت الأبعدِ، رغم كون الشاعر فيه، وهو بذلك يؤكد المعنى المتناصّ بشكله الفعليّ في الديوان مع بيتين شعريين: "لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديارُ"[ لأبي تمام]، و"والآن، لا أنا أنا، ولا البيت بيتي" لـ [لوركا] حيث يضعهما الشاعر تحت لافتة: "توارد خواطر، أم توارد مصائر".

لو كنت غيري لانتميت إلى الطريق،
فلن أعود ولن تعودي. أيقظي الجيتار
كي نتحسس المجهول والجهة التي تغوي
المسافر باختبار الجاذبية. ما أنا إلا
خطاي، وأنت بوصلتي وهاويتي معاً.
لو كنت غيري في الطريق، لكنتُ
أخفيت العواطفَ في الحقيبةِ، كي
تكون قصيدتي مائيةً، شفافةً، بيضاء،
تجريديةً، وخفيفةً...أقوى من الذكرى،
وأضعف من حبيبات الندى، ولقلتُ:
إن هويتي هذا المدى!
لو كنت غيري في الطريق، لقلتُ
للجيتار: درّبني على وترٍ إضافيّ!
فإنّ البيتَ أبعدُ، والطريقَ إليه أجملُ-
هكذا ستقول أغنيتي الجديدةُ- كلما
طال الطريق تجدّد المعنى، وصرت اثنين
في الطريق: أنا ...وغيري!

وإذا ما انفصلنا ،قليلاً، عن القراءة في ديوان "لا تعتذر عما فعلتَ"، واتصلنا ،قليلاً، بالقراءة في ديوان "هي أغنية..هي أغنية" سنجدُ أننا لم نكن حقيقيين في انفصالنا واتصالنا، ذلك أن بعضَ المقتنيات المعنوية الموجودة في قصيدة (عزف منفرد) منقولةٌ أو موجودةٌ في الشواهد التي عينّاها سابقاً من القصائد(وأنا، وإن كنت الأخير/ يختارني الإيقاع/ إن عدت وحدك/ لو كنت غيري)؛ إذ معنى الغناء هو نفسه ،في قصيدة عزف منفرد، حاملٌ لطلب استعادة الشيء المعنوي غير الموجود، الناقص، المفقود. حيثُ يبتديء الشاعر عزفه المنفرد بـِ:

لو عدتُ يوماً إلى ما كانَ، هل أجدُ
الشيءَ الذي كانَ والشيء الذي سيكونْ؟
العزف منفردُ
والعزف منفردُ
من ألف أغنية حاولت أن أولدْ
بين الرماد وبين البحر. لم أجدِ
الأم التي كانت الأمّ التي تلدُ
...........................
لو عدتُ يوماً إلى ما كان لن أجدا
غير الذي لم أجدْه عندما كنتُ
يا ليتني شجرٌ كي أستعيد مدى
الراوي.(3)

أما في قصيدة "لا كما يفعل السائح الأجنبي"، فإننا نقرأ وجهَ الانتماء، والمسؤولية التي يحملها خطابُ الشاعر في "المكان العاطفيّ، متخذاً من الخيالِ فسحةً وملهاةً لتجاوز الواقع الخراب، ففي قصيدة " ولنا بلادُ" يجسّد ذلك بقوله:

فانفتح الخيال
على مصادره، وصار هو المكانُ هو الحقيقيَّ الوحيدَ،
وكلّ شيءٍّ في البعيدِ يعودُ ريفياً بدائياً

كذلك في قصيدة " بغيابها كوّنتُ صورتها" يقول:
يعلمني الغيابُ دروسَهُ:
"لولا السرابُ لما صمدْتُ.."

وفي قصيدة "لا كما يفعل السائح الأجنبي" يتساءلُ:
كيف يصير المكانُ
انعكاساً لصورته في الأساطير،
أو صفة من صفات الكلامِ؟
وهل صورة الشيءِ أقوى
من الشيءِ؟
لولا مخيلتي قال لي آخري
أنا لست هنا.

وبخصوص التجاور والعلاقات البينية بين القصائد (وأنا، وإن كنت الأخير/ في بيت أمي/ لا تعتذر عما فعلت)؛ فإننا نقرأ إشاراتها ومعانيها في هذين السطرين:

1. " إلى أن يستعيد الشيء صورته " 2. " وكل قصيدة أمّ "

بمعنى أن الاقتباسيين السابقين هما محوران هامان في قصيدة " في بيت أمي، التي يستهلها الشاعر بسطر شعري يجمع بين المحورين [الصورة والأم] = "في بيت أمي صورتي ترنو إليّ، ".

- من قصيدة (يختارني الإيقاع) = "سمعتُ قلبَ الأمّ "
- من قصيدة (وأنا،وان كنت الأخير) = " كـلّ قصيدة أمّ "
- من قصيدة ( في بيت أمّي) = " فـي بيـت أمّي صورتي ترنو إليّ،"

المكان=[ قلب/قصيدة/بيت] + أمّ

أنا الأمُّ التي ولدته،
لكنَّ الرياحَ هي التي ربتهُ
قلتُ لآخري: لا تعتذر إلا لأمّك!
(لا تعتذر عما فعلت)

وكان الشاعر قد أفرد ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا" للحديث عن الذاكرةِ، وهو ما يكرّره في الديوان الأخير:

أطلّ على صورتي وهّي تهرب من نفسها
إلى السلم الحجريّ، تحمل منديل أمي
وتخفق في الريح: ماذا سيحدث لو عدت
طفلاً؟ وعدتُ إليكِ وعدتِ إليّ
(أرى شبحي قادما من بعيد) (4)

" في بيت أمي" هي شبه جملة "المكان العاطفيّ" التي يستهل بها الشاعر القصيدة ـ صورة الشاعر القديمة التي ما تزال ترنو إليه. إذ نقرأ الاستمراريةَ من الفعل " ترنو"، كما نجد في" صورتي " هذه المفردة المؤنثة دلالةً تتماهى في مفردة " أمي ". والأخيرةُ معادلٌ تأنيثيٌّ لمفردة " صورتي"، وصورتي ،أيضاً، مرادفةٌ في أحد وجوه المعنى للمرآة التي قد خذلته:

أما أنتَ،
فالمرآة قد خذلتكَ،
أنت... ولست أنتَ، تقولُ:
"أين تركت وجهي"؟
(إن عدتَ وحدكَ)

ويتجلى غناءُ صاحب "أنا مازالتُ موجوداً" في حضرة ياء التخصيص الموجودة في "أمّ/ي"، والموجودة ،أيضاً، في " صورة/ي". كذلك، فإن هذا التخصيص يقودُ إلى قراءة مستوى ذاكرة المكان في مفردة " بيت " الذي هو بيت أم الشاعر، إشارة إلى هوية المكان وخصوصيته؛ فإنه لأمه، وفيه ذاكرة وتذكاراتُ الشاعر " صورته" التي في فضاء معانيها تنشط ذاكرة الشاعر ومُساءلاته.. وهي الصورة الموجودة في [بيت الأمّ/قلب الأم] والتي لا تكف ،هي، عن السؤال، وليس الشاعر في عمره الآن. ويتجلّى سؤال الاغتراب في "أأنت ،يا ضيفي، أنا؟" كما تجلّى أيضاً في قصيدة "إن عدت وحدك" :
"أنتَ.. ولست أنتَ، تقول:
أين تركت وجهي"!
ويكرر الشاعر ذات السؤال على ذاته في ثلاثة أسطرٍ من قصيدة " في بيت أمي"، وهي:[- أأنت ، يا ضيفي، أنا.- ويا ضيفي...أأنت أنا كما كنا.- أأنت أنا].ومجيباً عليها بقولهِ: "قلتُ: يا هذا، أنا هو أنتَ". ثمّ يعود ليطرق ذات السؤال في قصيدة "لا تعتذر عما فعلت": [أهو الذي قد كان.. أنت أنا]. وهي كلها أسئلةٌ لا تنطوي على إنكار بقدر ما يثير ويشيْعُ بها ،الشاعرُ، الدهشةَ وحالات التبدل والغرابة بين زمنين مختلفين: زمن الشاعر في صورته، وزمنه الآنِي. وهو بذلك ،أيضا، يضع المتلقي في صورة توتراته التي توتّر صورة المعنى في هذا المكان العاطفيّ = [البيت/القلب/القصيدة+ الأم]:

في مثل هذا اليوم، في الطرف الخفي
من الكنيسة، في بهاء كامل التأنيث،
في السنة الكبيسة، في التقاء الأخضر
الأبدي بالكحليّ في هذا الصباح، وفي
التقاء الشكل بالمضمون، والحسي بالصوفيّ،
تحت عريشة فضفاضة، في ظل دوري
يوتر صورة المعنى، وفي هذا المكان
العاطفي/
سألتقي بنهايتي وبدايتي
(في مثل هذا اليوم)

وبالعودة إلى قصيدة المحور" في بيت أمي" نجد أن الشاعر في المقطع التالي يخاطبُ آخرَه الزمني بـ " كنتَ "[ التاء منصوبة]، ولا يخاطب ذاته القريبة، ولو أرد ذلك لجاء بـ " كنتُ " [ التاء مرفوعة]:
هل كنتَ في العشرين من عُمري،
بلا نظَّارةٍ طبيةٍ،
وبلا حقائب؟
كذلك نقرأ المسافة الزمنية الواسعة في قوله " في العشرين من عمري "، فتخصيصه هنا لـ " عمري " من شأنه أن يحيلَ المتلقي إلى الوقوف عند "العمر الآنِي" الذي وصله الشاعر، وفي ذلك إشهارٌ للفارق الزمني بين الآن و العشرين من عمره، وهو الفارق الزمني الذي تخللته أحداث وانكسارات وطنية بها تأكدت وأنيطت شهرةُ الشاعر. ولعلّ تناول الشاعر لمسألة العمر هنا، ينطوي على الخاصّ الذي يتزيا بصورة العامّ؛ لاسيما وأنه يتطرق لعمره في موضع آخر من الديوان، كما في قصيدة "لا كما يفعل السائح الأجنبي":
لكنني قلت في السرّ:
لو كنت أصغر عشرين عاماً"

وفي الفارق الزمنيّ بين العشرين والآن؛ تجدُ الذاكرةُ مجالَها واستمرايتها. حيث يَعرضُ الشاعرُ مشهدين مختلفين بسؤال : "هل كنتَ في العشرين من عُمري، بلا نظارة طبية، وبلا حقائب". فهو في صيغة السؤال هذه يروح لمعنى يفتقده الآن، صورته الطبيعية والمستقرة، دون نظارة طبية، ودون حقائب، أما الآن؛ فلديه نظارة طبية ، ويحمل حقائب وأعباء المعنى والشيء. إن نظرتُه إلى صورته العشرينية تنطوي على أمنيةِ شاعرٍ يطمح بعودة البهاء واجتياز دورة الحزن والاختلاف والاغتراب وصولاً إلى الأنا المحررة من النظارة الطبية ومن الحقائب .


وثمة في الديوان إنتاج لا يخلو من تهمةِ الصنعة والاجترار، فكثيراً ما نقرأ نصوصاً مُترتبةً عن إعمالِ لغويّ، وعن ترفٍ مُوسيقيّ؛ فبالنسبةِ لقصيدة "التفعيلة" فإن المتلقي العابرَ سوف يصرفُهُ هذا الترفُ الموسيقيّ عن حقيقة الاصطناع اللغوي، أما في منطقة كتابة "قصيدة النثر"، فإن المناسبة والقصدية والذهنية والصناعة في النصّ ستنكشف، لأنّ لا غطاءً موسيقياً يَحمِي أو يُخبيءُ صرامة البناء، وفداحة العَمديّة، وتتكرّس ظاهرة الترفَ الموسيقي والبذخ اللغوي في أكثر من موضع، كما في هذا المثال:

في مثل هذا اليوم، في الطرف الخفي
من الكنيسة، في بهاء كامل التأنيث،
في السنة الكبيسة، في التقاء الأخضر
الأبدي بالكحليّ في هذا الصباح، وفي
التقاء الشكل بالمضمون، والحسي بالصوفيّ،
تحت عريشة فضفاضة، في ظل دوري
يوتر صورة المعنى، وفي هذا المكان
العاطفي/
سألتقي بنهايتي وبدايتي
(في مثل هذا اليوم)

ويشتعل درويش على ذلك كثيراً، على امتداد منجزه الشعريّ، الذي يتألف من مرايا شعرية ،كثيراً ما، تُتهم بترداد وبِعكس الصورِ ذاتها. بمعنى أن مرايا شعرية درويش أصبحت تجترّ كائناتِ المعاني والمفرداتِ المُشعَرنة ذاتها، تلك التي وطأتها وألفتَها ذائقةُ المتلقي العابر والمقيم سواء؛ من قبلُ. ويكرّر درويش ذاته داخل ديوان " لا تعتذر عما فعلت" كما يكررها خارجه. فمثلا نجد أن المقطع التالي من قصيدة (تنسى، كأنك لم تكن-أ-) مكررٌ ،تماما، في المقطع الذي يليه من قصيدة (ليس للكردي إلا الريح -ب-):

-أ-
أمشي على هدي البصيرة، ربما
أعطي الحكاية سيرة شخصية، فالمفرداتُ
تسوسني وأسوسها.
-ب-
ويسوسُ خيلَ
الأبجدية كالخراف إلى مكيدته.
----------------------------------------
وكان الشاعرُ قد كرّر معنىً مرتين في كلّ من قصيدة (تنسى/كأنك لم تكن-أ-)، وقصيدة( سقط الحصان عن القصيدة-ب-):
-أ-
لكن قيل ما سأقولُ
يسبقني غد ماضٍ
-ب-
لم يبق في اللغة الحديثةِ هامشٌ
للاحتفاء بما نحبّ
فكلّ ما سيكون كانْ
----------------------------------------
كذلك الحال بالنسبة للمعنى المكرر في كلّ من قصيدة" بغيابها كونت صورتها-أ-" وقصيدة" لا كما يفعل السائح الأجنبي-ب-":
-أ-
يُعلّمني الغيابُ دروسَه:
"لولا السرابُ لما صمدْتُ..."

-ب-
لولا مخيلتي قال لي آخري
أنت لست هنا.


الورقة الثانية

أولا: مرجعيات الديوان

إنّ الكلامَ المباشرَ للشاعر، أي شاعر، يكونُ حاملاً لأفكارٍ ومعانٍ ومرجعياتٍ ثقافية ومعرفيةٍ؛ تشارك المخيلة في كتابة القصيدة. وهو بدوره يشكّل أهميةً للقرّاء عند تناولهم لمنجز شعري ما. وكانَ الناقد العراقي حاتم الصكَر في تناوله التطبيقي لبعضٍ من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً" ضمن دراستهِ في "مرايا نارسيس- قصيدة السرد الشعرية"؛ قد لجأ إلى الحوارات التي أجراها البعضُ، مع درويش. غيرَ أنّ سؤالاً يطرح نفسَه في هذه المناسبة: هل هذه الطريقة في النقد محبّبةٌ وتعبّر عن ذاتية الإبداع النقدي، ودقّته ؟ ليس من شكّ بأنّ هذه الطريقة تتضارب مع التعريف الدقيق للناقد؛ إذ "الناقد الممتاز هو فنّانٌ تَبَحّر في المعرفة وذوّاق كبير، لا أفكار مسبقة عنده ولا غير.(5)
كما إن العمل بها يهدمُ ويلغي مصطلح " موت المؤلف " من قاموس رولان بارت، ويَحِلّ محلّه مصطلح "موت الموت"، ما يعني "نجاة المؤلف" الحاصلِ بتبحّرنا في سيرته الذاتية. هذا ،بدوره، يقودنا إلى مارسيل بروست Proust ، الذي" ربط العمل الفني بمؤلفه في مجال النقد، فبّين السمات المشتركة في مؤلفات رسكن Ruskin المختلفة كي يرسم "الشخصية الأدبية" للفنان، ولكنه اكتشف بعد ذلك خطر مثل هذا المنهج الذي يخلط، كما فعل سانت بوفSainre Beuve ، بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة، وبالفعل فإن جوهر العمل الفني لا يتطابق مع شخصية مؤلفه كما تبدو في الحياة الظاهرية، والكتاب هو ثمرة أنا أخرى،يتعذر بلوغها من خلال دراسة السيرة الذاتية ولا يمكن فهمها إلا بمحاولة تأليفها من جديد في داخلنا".(6)
إن كل ما أوردناه سابقاً يدعوننا إلى هدم ما جاء في ورقتنا الأولى، وكأننا بقصد أو من غير قصد، نُمارسُ علينا مَحْواً نقدياً حيادياً، يُعلّمنا أن النقدَ أرقى مما نتصوّر في حدودنا هذه. ولنا أن نقف عند تلك المحاذير النقدية النظرية السابقة، لاسيما ما قاما به مارسيل بروست وسانت بوف من خلط بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة؛ لنقولَ: إنها لم تُشكّلَ بُعداً جوهرياً يَحدّ من حراك ناقدٍ كالصكَر، رأي أن ينهض بكتابه على سير شعراء كتبوا جوانب مهمة من سيرهم شعراً؛ كما هو الحال في قصيدة "هذا هو اسمي" لأدونيس الذي اتفق كثير من النقاد على أن لها خصائص السيرة، كذلك الحال في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً"، والذي يعيدُ فيه درويش كتابة وسرد الذاكرة بالشعر. وبذلك يكون الصكَر قد عَمِلَ ،بذاتيةٍ نقديةٍ إبداعيةٍ، فخلق كائناً اصطلاحيا نقدياً مَسْنوداً بالتطبيقِ، ما يعني اتساع دائرة الاشتقاق والخلق النقدي خارج المحاذير وشروط النقدنة الصارمة.
كذلك إلى أيّ حدّ، ستقنع تلكَ المحاذيرُ النظرية القاريءَ الذي باتَ لا يستطيع في ،حالة محمود درويش، أن يفصل بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة؟ وقد قلنا في الورقة الأولى: إن الذات الشاعرة عند درويش تحرصُ دائما على إدغام "الأنا بالنحن" منتجةً خطاباً واحداً غير منفصل.

أما فيما يتعلق بقراءتنا التي نحن فيها ، نشير إلى أنّ كلّ شيءٍ تمّ بالمصادفةِ؛ فبالمصادفة عثرنا على مجلة الكرمل في عددها 33، وباهتمام قاريءٍ ،من أجل القراءة، قرأناها، وبشغفٍ. دون أن نفهم أو نتعرفَ على الدافع الخفيّ الذي جعل عجلة الرغبة تقودنا لقراءة هذا العدد، أو لعلّها حَسَنات النوستالجيا!
هنا، أعني في المجلة العتيقة، توجد دراسة لصدوق نور الدين عن دلالات شعرية الماء؛ ونص للشاعر والروائي السوري سليم بركات مُهدى إلى محمود درويش؛ وحور مع محمود درويش. إنها إذن نعمة عظيمة!

كنا نتحدث، في الورقة الأولى عن الاختلاف، وعن المغايرة التي نفّذَها درويش في ديوانه الجديد، لأجل الخروج من إهابِ السياقِ الذي تكيّف فيه. ولعلّ المغايرة التنفيذية في هذا الديوان: بترتيبه وتجديده؛ تنهض على فكرة التحديث الداخلي، مع الاحتفاظ بتقاليد القصيدة "السيّابية"، أو الدرويشية في المشهد الشعري الراهن.

وبالعودة إلى مجلة الكرمل في عددها33، فإن قراءتنا للحوار المنشور هناك تحرّضنا على إعادة القراءات في ديوان"لا تعتذر عما فعلت". حتى بتنا نُسلّم بأن هذا الحوار يُشكّل أهم منطقة كلام مباشرٍ حافلٍ بالمعاني والتوجهاتِ الحاضرة في الديوان. يستهل المحاور"عقل العويط" الحوار(7) بهذا السؤال:

•أبعد من الصورة التي يظهر فيها درويش الشاعر والثائر والسياسي والإنسان؛ أبعد من هذه الصورة، أو على هامشها الظليل والحالم، من يكون محمود درويش، أي ما هو ذلك الهامش الآخر الذي يظلل محمود درويش، ويبعث فيه الطاقة على التأويل والجنون؟
يجيب:
•قد لا تجد أبعد من تلك الصورة...أحداً. أحيانا أنظر من الناحية المقابلة لأتساءل: هل أنا صورتي، وهل صورتي هي صورتي؟ كم حاولت أن أنزع الإطار لأجلس بعيداً، لأكتب ما لم أكتب، وقد نجحت دون أن ينتبه الكثيرون إلى ذلك. إن تلك المحاولة المتجرئة على السؤال: هل أنا صورتي" هي التي تزج بي.

بالرجوع إلى الديوان، نجد أن الشاعر يُعدّد من الأسئلة التي تدور في فلك الصورة والأنا، وتبدو "الأنا المبدعة"، في إجابة درويش السابقة، حاضرة بكامل فرديتها وخصوصيتها؛ أما حضور "الأنا" في الديوان فيتمثلُ في إندغام "الأنا بالنحن"، حيث يتعذر على القاريء الفصل بين "الأنا المبدعة" و"الأنا الاجتماعية". والأدلة التي تتناول هذا المعنى المصرّح به في الحوار، والمُشعرن في الديوان، من ثَمّ، غنية وواضحة من كثافة الأسئلة المطروحة على امتداد قصائد الديوان، لاسيما المتركزة في قصيدتي(في بيت أمي، ولا تعتذر عما فعلت(

وفي المحاورة أيضاً يسْألُ المحاوِر:
•أنت في أعلى هيئة فلسطينية "آنئذ"، وتُساهمُ في ترسيخ التوجيه الفلسطيني السياسي والثوري والثقافي. كيف تجمع أولاً بين الغرق في الشعر والغرق في الثورة السياسية، وكيف تستطيع ثانياً أن تتحرّر من طغيان الواقع وتأثيره على النص، والتالي كيف تعمل على تحرير اللغة الشعرية وتصفيتها، وكيف تحرس النص الشعري من بأس الواقع المباشر وسلطته اليومية؟
يجيبُ:
•لا معضلة. لا معضلة إذا وَعِيَ الشاعرُ طبيعته. لأن الواقع في علاقتنا به وبالتاريخ هو موضوع الشعر أو الموضوع الأساسي للشعر، حتى لو انشغل في ما وراءه. ولكن اليوميّ هو الذي يهدّد لقدرته على الظهور منسلخاً عن التاريخ. يهدّد بفوضى السياق وبعشوائيه الزمن وبجاذبية الرؤية الصحافية. كم من شاعر دمّرته الرغبة الصادقة أو الإعلامية في التسابق مع نشرة الأخبار، والرغبة الصادرة عن وعي يومي أو سياسي لدور الشعر..كأن يتمكن الشعر من تقديم خدمات يومية للناس بتصفيته للحدث أو باحتجاجه على الحدث حين يكون الحدث حادثة. ويضيف.. كم أقع في أسر هذه الجاذبية، وإن عرضني ذلك أحياناً إلى نميمة وطنية، وإلى اتهام بالترف الجمالي. إنني أعرف كيف أصمت لأعثر على حبه القمح المتبقية من عاصفة عابرة. إن الحرارة العاطفية أو الوطنية الشديدة تماماً كالبرودة الشديدة ليست هي مناخي الملائم للتأمل والكتابة، فأنا مشحون متوتر ونزق. ولكني في حاجة إلى الحياد الزمني وإلى ما يشبه الحياد العاطفي والثقافي، لا فرق بين ما هو شعر وبين ما هو هياجُ ثَوْرٍ. ويضيف أيضاً.. إن وضعي السياسي الجديد الذي فاجأني هو وضع مؤقت. أتعامل معه على أنه مؤقت فليس في وسع المرء أن يكون نصف شاعر ونصف سياسي. هذا الإحساس بوضعي المؤقت هناك أمدّني بتوازن أحتاج إليه لأتمكن من فتح أبواب ملعبي الخاص؛ مقهاي الداخلي؛رصيفي الحرّ وبهجةَ كسلي الداخلي. لم أكن متسكعاً بطبعي ولا رائد مقهىً، فقد حرمتني ظروفي الموضوعية في سن مبكّرة من طبيعة ذلك الفتى. ولكن الرقابة الذاتية الصارمة التي أفرضها على حرية سلوكي الآن تعلمني فنّ سرقة الوقت، واختطاف الذات من الآخرين، وتسييج زاوية الرؤية الشاعرية أمام اختراق الصفة الرسمية، وحين أضع نفسي في عزلة الكتابة احتفل بتحرري من كلّ شيء، وانتقم من زيّي لأقول لنفسي أولا :إني لن أسجن، فأركض خيول الشعر بقدر ما أستطيع. وهكذا فإن إفراطي في الخوف من اليومي زاد من انخراطي في الإبداعي. لم تعد لغتي الشعرية تسعى إلى التحرر من طغيان اليومي ولا حتى السياسي فحسب. بل صارت تسعى إلى التحرر التدريجي المكبوت من تقاليدها ذاتها، ومن تاريخها ذاته، وقد تتطرف في عملية الدفاع عن مستوى البراءة في الشعر في محاولة الالتقاء مع الواقع من واقع آخر. (8)

ما يجعلنا نورد الإجابة كاملة، هو انتباهنا إلى أن لهذه الإجابة خصائص البيان الشعري الذي تبنّاه درويش فيما بعد، وسوف لن يختلف معنا أحدٌ على أن صيغة الإجابة السابقة، التي قدّمها درويش من أهم صيغ البيان التحديثي لديه؛ لما فيها من توجّه للذاتي، وخروج على السياقِ المراحلي الذي عرف به وفيه، ولا ندري ماذا يعني درويش "بالوضع المؤقت في قوله "إن وضعي السياسي الجديد الذي فاجأني هو وضع مؤقت. أتعامل معه على أنه مؤقت فليس في وسع المرء أن يكون نصف شاعر ونصف سياسي. هذا الإحساس بوضعي المؤقت هناك أمدّني بتوازن أحتاج إليه لأتمكن من فتح أبواب ملعبي الخاص؛ مقهاي الداخلي؛ رصيفي الحرّ وبهجةَ كسلي الداخلي" إنه إذن، طامح للمؤبّد، ويريد تجاوز هذا الوضع المؤقّت، و ما يعنيه درويش بالمؤقت هو ارتباط الشعر لديه بـ"الوضع السياسي المؤقت". كما يظهر ذلك في قصيدة "نزل على بحر" من "هي أغنية.. هي أغنية":
متنا من النوم انكسرنا ههنا
أفلا يدوم سوى المؤقّت يازمان البحر فينا؟(9)
غير أن الجمهرة والإعلام استطاعا أن يَسِما الشاعرَ بميسم المؤبّد. وعليه، فبين بهجة الخروج عن السياق الذي ينفّذه درويش، وبين بهجة الجمهرة بالقراءة بمنظور السياق؛ يتراوح درويش في "لا تعتذر عما فعلت"!

ثانياً: بين درويش وبركات
(محاكاة أو توارد الخواطر أو توارد مصائر أو تناصّ )


كانتْ إلتماعةٌ خاطفة قد أحالتنا مباشرة إلى ديوان" لا تعتذر عما فعلت" عقب قراءتنا نصّ الشاعر والروائي السوري سليم بركات في المجلة العتيقة، ويحمل عنوانَ: [محمود درويش(مجازفة تصويرية)]، وقد كُتبَ،بخطٍ صغير، في أعلى يسار صفحة البداية (إلى الذكرى التاسعة معا في " الكرمل ")، والنصّ مؤلّفٌ في ثلاثة أقسام، هكذا:
I/المكان بحسب انشغالاته: أ- وصف الريح، ب - وصف الظلال، جـ – وصف الشرفة، د- وصف المصعد، هـ – وصف الردهة الخارجية، و- وصف رواق البيت، ز- وصف البيت
II/ مشيئة تؤلّف المشهد: أ- محبرته، ب-علبة تبغه، جـ- قهوته، د- كسله الصباحي، هـ- سيرة قلبه، و- نظارته.
III/ هو، في الأكيد ذاته.(10)

وكنا قد قرأنا في العدد ذاته دراسةً للناقد "صدوق نور الدين" حول " دلالات شعرية الماء"، ويطرحُ الناقد خلال تناوله لـ"أنشودة المطر" سؤالاً: هل يمكن الحديث عن مؤثرات خارجية في شعر السياب؟ ويجيب ، في الحال، قائلا: اختلف النقاد بصدد النصّ المُؤثّر في " أنشودة المطر"، إن لم يكن في شعر" السياب" عموماً، ثمة من رأى تأثير "ت.س.اليوت" من خلال " الأرض الخراب"، خاصة جانب اللعب على توظيف الرمزي. " شيللي" وفق الاعتماد على " أنشودة للريح الغريبة"، ما دامت تتضمن كذلك بعداً اجتماعيا يُطرح بالارتهان إلى ثنائية الموت والانبعاث. أيضا هناك " ايديث ستويل" في قصائدها المسماة بـ" أنشودة الوردة" ، وبالضبط قصيدتها "مازال يهطل المطر".. ولقد ذهب الدكتور" عبد الواحد لؤلؤة" إلى اعتبار نص " أنشودة المطر" قد رُكّب من " أنشودة" المأخوذة من عنوان القصائد بمجموعها، ثم " المطر" الذي اختص به نص من نصوص المجموعة. إلى جانب ذلك، فإن قصيدة" ايدثت ستويل" ردّدت كلازمة " ما زال يهطل المطر"، بينما نص" السياب" حافظ على ترديد " مطر". الواقع، والكلام ما يزال لـ" صدوق نور الدين"، أن مرجعية " السياب" في الأساس إنجليزية. بيد أنه لم يكن ليقف على نصّ يتيم يتفاعل معه ويستحضره في فترات إبداعه. وإنما هناك هذا الخليط من النصوص المتضامّة، أو ما نسميه بـ"الضم/ نصوصي"، التي تهدف إلى إنتاج نصّ متميز عن بقية النصوص. علماً بأن القراءات تسوقُ إلى ما يؤكد النص السالف دون تغييبه، في الآن نفسه قد تعمل على إنتاج نصّ مغاير تذوب فيه تلك القراءات حدّ عدم إدراكها والاهتداء إليها.(11)

بالاتكاءِ على آخر سطرين، يمكننا القول: إن القراءات المتكررة، لديوان " لا تعتذر عما فعلت" تقودُ،أول ما تقودُ، القاريء المتأمّل إلى ما يؤكّد النص السالف " محمود درويش مجازفة تصويرية" دون تغييبه!. هذا التأكيد،بالضرورة، يطرح سؤالاً حيّاً ومفصلياً: أيمكن لشاعر كمحمود درويش أن يورّط نفسه بالاتكاء على ..واستخدام أدوات شاعر آخر؛ له وفرةُ حضورٍ مائز في المشهد الشعري بعامة؟ هذا السؤالُ سيكون محور هذا الجزء من القراءة. ومايلي بالطبع سيكون إجابة ممكنة عليه، إلا أننا لن نجزمَ على أية حالٍ، بكفايتها.

لقد فرّق النقادُ الغربيون في دراستهم للسرقاتِ بين السرقة Plagiarism ،و المحاكاة أو الاحتذاء أو التقليد Imitation . وهذان المصطلحان يقابلان عند القاضي الجرجاني السرقة المذمومة، والسرقة الحسنة. والمحاكاة عند الأوربيين على أنواع ثلاثة وهي:
1. الاستيحاء: وهو أن يولد الشاعر معنى جديدا من آخر قديم، وقد فطن النقاد العرب إلى هذا النوع عندما تحدثوا عن السرقات الممدوحة، وتوليد المعاني.
2. التأثر: وهو أن يتأثر الشاعر بغيره في أسلوبه وفنه. وقد فطن الآمدي إلى هذا عندما اعتذر لسرقات البحتري من أبي تمام بتأثره به.
3. استعارة الهياكل: ويكون ذلك في الأعمال الأدبية ذات الوحدة، وكأن يأخذ الشاعر موضوع قصيدته من أسطورة شعبية، أو قصة تاريخية. وهذه الأنواع الثلاثة محاكاة من صميم الفن، ومن أقوال أناتول فرانس المشهورة: " إن الفكرة المنقولة ليست ملكا للأول الذي عثر عليها، وإنما يكون أحق بها من ثبتها في ذاكرة الناس." ويقول عند حديثه عن موليير: "كل ما ينقله يخصّه بمجرد وضع يده عليه،ولأنه يطبعه بطابعه." (12)

وكنا قد انتهينا في الورقة الأولى إلى وجود ظاهرةِ التكرار؛ في جانب من شعر درويش. وحيث أطلق النقاد الغربيون على هذه الظاهرة مصطلح " السرقة الشخصية" أي تكرار الشاعر لأفكاره وعباراته وصوره الشعرية.(13)

وينبغي ،لنا، في مستهلّ هذا التعقيب أن نتساءل: هل أناتول فرانس على حقّ عندما قالَ: " إن الفكرة المنقولة ليست ملكا للأول الذي عثر عليها، وإنما يكون أحقّ بها من ثبّتها في ذاكرة الناس.. وفي ما تحدث به ،أيضا، عن موليير: " كل ما ينقله يخصّه بمجرد وضع يده عليه، ولأنه يطبعه بطابعه. تعالوا نجيب على هذا التساؤل، بما أوتينا من حيادٍ عمليٍّ. هذا مقطع من نص" بعنوان "الحديد" للشاعر سليم بركات، في مجموعته" بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح"(14)، يقول فيه:

قلتَ: "لا تغضب"، إلهي.
قلتَ" "هذا خَلْقيَ الأصفى" فقعّرْت مدايْ
تحت ما يسقط من زيتونِه
غير أني حين حاصرت حصاري،
وتتبّعت إلى "خلدةَ" أجراس هوايْ
والمكانُ الصلد أفضى بي إلى ملهاتهِ،
فإذا البحر سلاحي ويدايْ.

وهذا، أيضا، محمود درويش في مديح الظل العالي، يقول: /حاصر حصاركَ لا مفرُّ/ وهي الجملة الشعرية الموجودة في المقطع السابق من نص "الحديد" لبركات، دون "كبير اختلاف ظاهري". بالارتقاء إلى "أناتول فرانس" نجد أن السؤال يطرح ذاته: من الأحق بتثبيت (غير أني حين حاصرت حصاري) أو (حصارْ حصارَك) في ذاكرة الناس؛ سليم بركات أم محمود درويش أم ماجدة الرومي ؟! ومن ذا الذي طبعَ ظلّه على شأن الآخَرِ، وإلى أي حدّ يمكننا القبول بمقولة أناتول فرانس عن موليير" كل ما ينقله يخصّه بمجرد وضع يده عليه، ولأنه يطبعه بطابعه". إننا لن نجدَ عناءً في الإجابة على هذه الأسئلة، بالمطلق. ذلك أن جملةَ درويش غدتْ راسخةً في ذاكرة الجمهرة التي استمعت إليها من مستويين صوتيين: إلقاء درويش، وغناء ماجدة الرومي، هذا من جانب شعبي. ومن جانب توثيقي، نجد أن "مديح الظل العالي" أسبق ،تاريخياً، في الصدور؛ من نصّ سليم بركات "الحديد" المؤرخ في (ص35،نيقوسيا، شباط/اذار1983). وكانت قد نُشرتْ ملحمة "مديح الظل العالي" في 1982. هذا الشاهد، بالرغم من خُفوته أمام عِظَمِ المنجزات الشعرية لكلا الشاعرين، إلا أنه يظلّ هو وما يُماثله مؤشّراً لوجود حالات التأثر والتأثير فيما بين شعراء جمعت تجاربهم منطقة زمكانية مُعَرّفة. ولكنّ فارقاً جوهرياً ومُهماً يفصل بينَ بركات ودرويش، برغم كون ظاهر الشاهدِ يشير إلى التشابه، فحين يكتب بركات(غير أني حاصرت حصاري)؛ فإنه يكتب ذلك ضمن إطار منطوي داخل منطقة ذاتية خالصة، بينما يقول درويش وكما عَوّدنا: (حصار حصارك لا مفرّ) في سياقٍ منفتحٍ على منطقة كليةٍ تتكيف فيها جمهرةٌ من القراء والمتلقينَ. وهكذا شواهد ينظر إليها تارةً على أنها مَأخذ، وتارةً على أنها دليلٌ كافٍ للدخول في دوائر هذه المصطلحات (توارد الخواطر/ تضامّ/تناصّ/ تلاص). سنظلّ نقولُ: إن الأمر،في حالة الشاعرين هذه مختلف وبعيد عن فحش ملفوظات السرقة والاتهاماتِ التي ينتجها النظرُ من ظاهر النصوص؛ إذ المسالةُ باتت لا تتوقف عند أوهام تناسخ يفترضها ،أو يراها القاريء، لظاهر النصوص؛ للوهلة الأولى. إن المسالة لها علاقة ببنى وعلاقات أخرى، و" البنية تستند ،إذن، على مفهوم متجمد للنص- إذ أن مجموع العلامات التي تكونه تحدد دلالته ولو تعددت هذه الأخيرة. وهو مفهوم يدحضه مفهوم " الإنتاجية" (Productivity): إذ يشكل النص بالنسبة لكريستفا.J.Kristeva مجال لعمل ذاتي التولد، ويفكك اللغة الطبيعية المرتكزة على التمثل لاستبدالاتها بتعددية المعاني التي يستطيع القاري، وحتى الكاتب إيجادها انطلاقا من سلسلة جامدة ظاهريا.. وتستخرج J.Kristeva من مفهوم الإنتاجية، تمفصلاً ثنائيا أساسيا:"النص الظواهري"pheno-texts"، و"النص التكويني" "geno-texte"؛ إذ يقصد بالمصطلح الأول مستوى القول الملموس، وبالثاني جميع ما يحدث تحت هذه البنية الظاهرية. عندئذ يصبح النص نقطة الالتقاء ليس فقط بين منتجه ومتلقيه، بل وأيضا بينه وبين النصوص المتعددة التي سبقته أو القريبة منه والتي تربطها به علاقات غير متوقعة ولكن فعلية.(15)
أما في ما يخصّ "توارد الخواطر" فيُعرّفه المتنبي بقولته الشهيرة: "الشعر جادّة، وربما يقع الحافر على موضع الحافر". لكنْ يبقى هذا المصطلح "غائم الدلالة في النقد العربي، وإذا كان القاضي الجرجاني قد فهم منه ما فهمه أبو عمر بن العلاء حين سئل: أرأيتَ الشاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، لم يلقَ واحد منهما صاحبه، ولم يسمع شعره؟ قال: تلك عقول رجالٍ توافق على ألسنتها" ... ولكننا نجزم بأن القاضي الجرجاني قد فهم من " توارد الخواطر" غير ما فهمناه، لأنه يذكر عند حديثه عن السرقة المذمومة أن اتفاق اللفظ والمعنى هو أسوأ أنواع السرقة، فهو نسخ ونقل، ولعل ما يعنيه الجرجاني أن الشاعرين بتأثير البيئة الواحدة، والعصر الواحد، والثقافة الواحدة قد يتفقان في البيت الواحد في بعض المعنى وبعض الألفاظ، ومثل هذا التعليل يعطي هذا المصطلح مفهوما فنياً له قيمة الإبداع الفني(16(

على أن هذا التعليل لا يشفع لشعراء يكرّرون النسخَ والنقلَ عن بعضهم. أما فيما يعرف بالـ" تحوير الفني" فنسوق فيما يلي شاهدين لكلا الشاعرين، نسعى بهما إلى توضيح المسألة: في نصّ "وصف أخير يلزم كلّ وصف بعد الزيارة التي.." من مجموعة [بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح] يكتب بركات: "وأنتنّ يتها الخيلات اللواتي تتأففن من شرودي، ابقين حيث أنتن، تحت الظلّ الذكوري، وعرائشه المتكئة على تماثيل الساحة". وفي قصيدة "الظلّ" من [لا تعتذر عما فعلتَ]، يقول درويش: "الظلّ لا ذكر ولا أنثى".. هذه العلامة الظاهرة لا تقود إلى القول بوجود نسخ ونقل ومناورة في ذات المعنى، فما جاء به درويش له معنىً وجمالاً شعرياً آخرَ؛ ولا يمتُّ إلى ما جاء عند بركات بصلةٍ مَشبوهة.

ولكي لا نَقَعُ ونُوْقِعُ المتلقي في مَطبّاتِ التجني والتعسف في تشغيل المصطلحات، ولكي يَفلحُ الحيادُ باحترام المصطلحاتِ المشاركة في هذه القراءة؛ فإننا سوفَ نقدّم جملةً من الشواهد، بهدف المقارنة. ليرى القاريءُ، من ثَمّ، بِمحض ذائقته وخبرته: أين تَشتغلُ المصطلحات التالية(المحاكاة أو الاحتذاء أو التقليد/ توارد الخواطر/توارد مصائر/التضام/ التناص/ التلاصّ).

منذ الآن سنقول: إنّ "توارد المصائر" متأكّد الحصولِ بين درويش وبركات، فكَما يَتناصّ درويش، في ظاهر الديوان، مصيرياً مع أبو تمام ولوركا؛ نجده في توجّهات ديوانه الجديد ،أيضاً، يتناصّ مصيرياً وإجرائياً مع بركات. فأوّل الانتباه يقودنا إلى الكشف عن وجودِ تناصّ فني يُحدثه درويش مع بركات في أكثر من نصّ، لاسيما النصّ المشار إليه ،آنفاً، في مجلة الكرمل. حيث نلمس ،من ذلك، ذهابَ درويش إلى تَرويض النثر بالوزن الذي ينأى به ،ما أمكن، عن الغنائية؛ الأمر الذي يجعلنا نقول: إن القصائد الأخيرة من الديوان، ولا سيما قصيدة " ليس للكردي إلا الريح" المهداة إلى سليم بركاتِ ما هي إلا تناصّاً كلّياً ومحاكاةً مقصودة لدقّة الوصف التي يتمتع بها بركات من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر محاكاةً لكتابة نص الذات الذي يكتبه بركات بطريقة متناهية الذاتية والخصوصية، ولقد كان بركات من الدقّة والقدرة حين جازفَ في التصوير والكتابة عن خواصّ درويش الذاتية، إذ في " هو ، بالأكيد ذاته" يغامر بركات في الإجابة عن أسئلة درويش التي يطرحها هو على ذاته عن ذاته. غير أن هذه المغايرة لا تخرج من دوائر المحاكاة والتناصّ، وتوارد المصائر بين الشاعرين. ونكاد نقولَ:إن درويش، من المهارة عندما اختار لديوانه عنوان"لا تعتذر عما فعلتَ"، وإذا ما قرأنا العنوانَ من خارجهِ قراءة مستقلةً عن وجوده كسطر شعري في داخلِ القصيدة التي تحمل عنوان الديوان ذاته، فإننا سنكون أمام مقاصد كثيرة، لعلّ أولها قيامنا بربط العنوان بقصيدة" ليس للكردي إلا الريح"؛ وكأنَّ الديوانَ مُوجّهٌ إلى مُخاطبٍ كان قد أرْجَأَ درويشُ الإخبار عنه إلى آخر الديوان .وفي ما يلي نظهر بالأدلة النصية ما يُبرهن على وجودِ توارد مصائر فعليٍّ في خطابي الشاعرين.

"في المنعطف الأولِ، إلى جهتي" من مجموعته [بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح] يكتب بركات:

ماذا ينبغي عليّ؟
ماذا ينبغي على المكانِ الذي لن تعودَ إليه؟(17)

وفي المنعطف الأول، شرقاً، إلى المدرسة في"آيوس ديميتوس" يكتب، أيضا:

"إن سألتُ يا بيتي، الذي ليس لي، عن سُكنى كشغفِ اللهبِ بنسلهِ، فلا
تُقَسِّمَنّ جوابي بينك وبين الحاضر المتسوّل تحت النافذة الجنوبية، حيث
العداءون ي بقرون عظيمة لحيوانات الفجر. بل امتحن أبوابك، وجدرانكَ
المتأبطة حجارتها الرحبة وتخلّع قليلا لتتذكرك أرضك المنسية في جمالها
المنسيَّ.
وبإذنٍ منكَ، وباعتذارٍ خجولٍ، يا بيتي الذي ليس لي، سأدلق الحيّ من
قارورتي، شجرا، وسياجات، وحماماً في الأقفاص، وأطفالا صاخبين،
وورداً، وقُبلات لا تصلُ، وهرير آلاتٍ لم تُفطمْ جِراءَ حديدها بعدُ، وضبحَ
خيولٍ في مران عدوها بكورا لسبت آخر، في حلبة"سباق الخيل" ذاتها، لِصْق
السياج غير البعيد ذاته، الذي أراه من حديقتي.

آه يا بيتي الذي ليس لي،
وأنت لست لي.

كذا عليك أن تهمس صراخك، فالمكان ليس لك. السياجُ، والشارعُ،
والزهر البريّ اليابسُ، في العراء المنظور، ليس لكَ. المديح وأنقاضُه كذا،
والمُتَباركُ من غُنُمٍ. رديفك المُسَمّى. لَجْلَجةُ الحطامِ بين يديكَ كذا، وكذا
غَلَمةُ الشفق العريسِ وخُطّافاتُ ذكورتِه.

هيءْ لي ،إذاً، يا بيت نعمة عبوري بكَ إلى ما ليس لي. (18)

إن ما جاء في المقطع السابقِ يُحيلنا إلى الورقة الأولى من القراءة، والتي رأينها فيها قصيدة" "في بيت أمي" محوراً وركيزة أساسيةً؛ عند درويش. ونحن نرى ،في هذه الراهن المؤتلفِ، معالجة وجدانية للـ"بيت" الذي يرمز إلى علاقة الذات بالمكانِ لدى الشاعرين الذين جَمعهُما مصيرٌ أهّلْهما للمنفى وللفقد وللشقاءات والأسئلة. إذ تتوثق العلاقات لدى درويش بين القصائد؛ لاسيما(وأنا وإن كنت الأخير/ في بيت أمي / لا تعتذر عما فعلت) التي تتأكّد فيها العلاقات البينية المتشابكة. وبإلقاء نظرة على القصائد الثلاثة ونظرة مقارنة على مقطع بركات السابق؛ نكتشفُ وجود علاقات خارجية متينة ومتبادلة بين الشاعرين.
ولعلّ في هذا السطر من نص بركاتِ "وبإذنٍ منكَ، وباعتذارٍ خجولٍ، يا بيتي الذي ليس لي" ما يشي بتعمّقِ المُشترَك، الذي يتكرر بغزارة في شواهد كثيرة.

في "كمائن في المنعطفات كلها/ ختاماً- سهمٌ بكتب بركات:

"هكذا يترصّد المشهدُ ذاته من مشارف الحقيقةِ؛
هكذا يكتمل المنذورُ.
وأنتم، أخوتي الجالسون في نفق البلاغة،هناك، ناسين أن تسرودا لي تمرّدَ
الحكاية، وانقسامَ الرواة، لا تنتظروا أن ينسى المشهدُ فضولكم فيختزل القتلى، وأن تتبادل السماواتُ المهشمةُ مفاتيحها المهشمةَ.
وباليد اللدنة كشفافةٍ تسرقُ القُمُراتِ، وتلمّسوا عذاب الماء، واتخذوني شفيعاً
لدى المغيبِ يغويه الأكيدُ فيتبعثر خطابُهُ.
ليس لي غير هذا،
ليس لأخوتي غير هذا،
فإن يضمنَ الحجرُ كثيْفَهُ المهرقَ ضَمَنّا الأقفالَ الرقيقة كنداءٍ، مُقْدمْينَ على
شُكْرٍ تنسربُ من خُرومِه المآذنُ والسروجُ. وبطشاً إثرَ بطشٍ سنلهم الروحَ
نثرها الأجملَ، دون أن نعلنَ في الشهودِ - المتأبطينَ محتوياتِ الهياكل،
وظلالها، والمغيبَ الذي يصعدُ الهياكلَ وظلالها إلى ملهاته المُعادَةِ ـ سِحْرَ
الكلامِ في انكساره كلما استلهم المعُادَ الفرحان.

ليس لنا غير هذا الذهبي
ليس لنا غير هذا المشهد.(19(

وهذا درويش في قصيدة "لا تعتذر عما فعلتَ" يقول:
...................
...................
وأصدقاؤك في الطفولة،والفضوليون:
"هل هذا هو؟" اختلفَ الشهودَ:
لعلّهُ، وكأنّهُ. فسألتُ: "من هو؟"
لم يجيبوني.

كذلك في قصيدة "في القدس" يقول:

كنتُ أمشي فوق منحدرٍ وأهجسُ
كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجرٍ؟

إذ نلاحظ ،مما سبقَ، أن كلا الشاعرين يكتبان من حكاية مصيرية توحّدهما، ومن مشاهدتهما لمشهد فيه مَن وما فيه من الأخوة الجالسين في البلاغة والكلام، وفيه الأسئلة، الفضوليون، وانقسام أو اختلاف الرواة،والشهود.

كما تظهرُ قوّة المحاكاة في أحد مستوياتِ بناء الجملة الشعرية التي نعاينها ،عند درويش،في قص