فالح الحُمراني من موسكو: مع ان قرنا مر دون انطون تشيخوف( 1860ـ 1904) فابداعه ، يظل المصدر الثري الذي يلهم المبدعين في كل مجالات الفن، ويفتح امامهم افاقا وعوالما جديدة وعلى حد قول احد دارسي المسرح فان كل هذا يؤكد مقولة قسطنطين ستانسلافسكي عن ان تشيخوف (عدة الوان رسام "لاتنضب").
ان موضوعة مؤثرات تشيخوف على المسرح الروسي، تتردد على مدى نحو اكثر من قرن، منذ الاعتراف بتشيخوف كاتبا مسرحيا، كتب " نمط مسرحيات فريدة من نوعها" كما يقول مكسيم غوركي. واذا كان اسم تشيخوف يرتبط بكتاب الموجة الجديدة من المسرح السوفياتي( الروسي)، فان لكتاب مسرح اليوم تقديرات متباينة له. ونرصد في اعمالهم في ان واحد " انسلاخ" و" انجذاب" نحوه. ويقول منظروا " الموجة الجديدة في مسرح" نهاية القرن العشرين وبداية الالفية الثالثة، انهم يرفضون تشيخوف، تشيخوف الذي "يتناول ابطاله وجبة طعامهم، انهم يتناولون وجبة الطعام وحسب" و"يرتدون معاطفهم، وفي غضون ذلك...". واحيانا بقولون بصراحة ان تشيخوف مثير للسأم، ومرحلة غابرة جرى تجاوزها.ومع ذلك فان ظلال تشيخوف تظل مخيمة على اجواء المسرح الروسي المعاصر وعوالمه، ونتلمسها بصورة مختلفة بما في ذلك في عناوين المسرحيات، وفي الاجواء التي تفعم بها، وكانها مقتبسة كنصا من تشيخوف. فهناك مثلا "ثلاثة بنات في ازرق" للودميلا بيتروشيفسكايا " و " غنى النورس.." لنيكولاي كولادي و " حديقة الكرز " لالكسي سلابوفسكي. وفي هذا المضمار يمكن الحديث عن ان الزمن المعاصر، يكتشف تشيخوف من جديد، هناك قراءة جديدة لتشيخوف. ولايتردد نقاد وكتاب المسرح احيانا من الاشارة الى حداثية تشيخوف، وانه مؤسس مسرح اللامعقول في روسيا وغيرها من موجات الحداثة.
وفي العام الجاري تناول ثلاثة مخرجين سينمائيين روس اعماله. وتزامن فيلم سيرجي سولوفيوف " عن الحب" الذي تزامن مع الذكرى المئوية لوفاة تشيخوف. واستخدم المخرج مضامين اعمال تشيخوف " الطبيب" و فولوديا" و " الدب". وكما قال سولوفيوف " الان وحينما يحدد البرجماتيون وغيرهم من رجال الاعمال، نمط حياتنا، تبدو تاملات تشيخوف لاسيما عن الحب، حاجة ملحة لنا، وترغمنا على الامعان في التفكير بقيم المشاعر الانسانية". وكان اخر عرضا ضخما للنورس من وضع المخرج المعروف اندريه كانتشالوفسكي اعتمد فيه الاساليب الحديثة.وتحول الممثلة الشهيرة مارجريتا تيريخوفا مسرحية " النورس" الى عمل سينمائي، وستقوم ايضا بدور اركادينا فيها. وينتهي المخرج كيريل سيريبرينطوف من تصوير فيما ماخذوا عن قصة" الجناح رقم 6".
ويحتل تشيخوف بعدد اعماله المعروضة على الشاشة، المرتبة الاولى في فن السينما.ففي روسيا وحدها ثمة 80 فيلما مقتبسة من اعماله. وعرض اول فيلما ماخوذ عن قصة قصيرة له عام 1911.وتعاطى مع اعمال تشيخوف في مختلف المراحل مخرجون كبار. فسيرجي بوندارتشوك اخرج " السهل" وسامسون سامسونوف فيلم" النطاطة" فيما اخرج اندريه كونتشولوفسكي " الخال فانيا. وحصل فيلم " سيدة الكلب" ليوسيف خيفيتس و"مسرحية غير منتهية لبيانيو آلي" لنيكيتا ميخلكوف على شهر عالمية. ويضع المخرج مارلين خوتسييف الان فليما عن لقاءات تشيخوف مع ليون تولستوي.
ويقول المخرج الالماني بيتر شتاين الذي اخرج مسرحيات تشيخوف الاخيرة" الخال فانيا" والاخوات الثلاث" وبستان الكرز، و" النورس" وعرض مسرحية" تتيانا رينا" غير المشهورة كاوبرا على خشبة " لا سكالا" في ميلانو، يقول: "ان تشيخوف حدد مسيرة تاريخ المسرح الاوروبي على مدى القرن العشرين. انه سحب مضمون التراجيديا الاغريقية، التي تعد اساس المسرح الاوروبي على العصر الحديث،فاعماله ايضا تنز بفكرة ، نحن مولدين للموت والحياة عديمة المعنى. لذلك فالناس عند تشيخوف يعانون بشكل مستديم، يعانون لانهم يدركون بجلاء ان الحياة ـ مهزلة لامعنى لها. ومن ناحية اخرى فان الحياة لاتطاق دون معنى. ومن اجل ان يرسم هذه المفارقة، يمتنع تشيخوف عن جعل الحدث اسطوريا، فيظهر تفاهة حياة زمنه في صور معاصريه. وعند ذلك ينشأ احساس يسبغ على الوجود البشري معنى ما".

ولم يات تشيخوف الى المسرح من الفراغ رغم ان رجال المسرح الكبار والنقاد راوا في مسرحياته بانها غير قابلة للعرض ، فانه بدا كتابة المسرحيات التي لم تنشر، في وقت واحد مع القصص القصيرة. وهناك مرحلتان في مسرح تشيخوف الاولى باكرة التي تدخل ضمنها "ابفانوف" و"بلاتون" والناضجة او المتاخرة التي تشمل على "النورس" و"الخال فانيا" و"الاخوات الثلاث" الى جانب عدد من المسرحيات ذات الفصل الواحد والقصير.وعلى مدى مسيرته في المسرح سعي بوعي لتاسيس مسرح جديد يقوم على خفايا روح الحياة العميقة. ان بحث تشيخوف كان مترابط عضويا مع حركة المسرح الاوروبي لعصره وانتهى بتاسيس المسرح الجديد في روسيا. وبه دخل المسرح الروسي القرن العشرين، ومازالت مؤثراته وباشكال متنوعة تظهر في مسرح القرن الوحد والعشرين.
واتسم مسرح تشيخوف عن سابقه بغياب المضمون التقليدي القائم على صدام الفرد مع قوى عدوة له. فبطل تشيخوف لايخوص الصراع مع احد نظرا لان مسرحياته لاتشير لمصدر من مصادر الشر اوحامل له. وفي مفهوم تشيخوف لايمكن تشخيص الشر، لانه ذائب في الحياة البشرية في يومياتها ومجرياتها. فالشر متجذر في اسس الحياة. ويراي تشيخوف ان هذا ما يجعل شعورنا بماساة الحياة اكثر حدة. وهذا ما يعني لديه ان الحياة نفسها وكل كائن بشري يتحمل مسؤوليةالوجودالبشري.لذلك فليس هناك مذنبون وابرياء منتصرون او منهزمو في عرف تشيخوف.وانها ذات الاسئلة والهموم التي يدور حولها مسرح روسيا اليوم.