القصيدة الخليلية فيها من الجماليات الشعرية الكثير ولكنها تحتاج إلى شاعر من نوع خاص


حاوره عبدا لله الحسني من الدمام: الأوتار المهترئة ظاهرة من ظواهر الغياب الذي يتشكل في دواخلنا ويلامس ذواتنا دون أن نشعر به فتتمازج الحياة مع الموت والبقاء بالزوال والجمال بالقبح لتتكوّن فراغات مشوهه يمكن أن نسميها "اللاجدوى" وهكذا يستمر الركض في دوائر لا نهاية لها. والشعر أحد هذه المسافات التي يطول الركض فيها وصولا إلى نهاية.
لعل هذه نظرة متشائمة لشاعر في باكورة إنتاجه الأدبي، ولكني أراها البداية الحقيقية والفعلية من أجل البحث بوعي عن شيء ما، فما نريده دائما في بداياتنا هو الوعي الكامل بحقائق ذواتنا ومن ثم الانطلاق في آفاق الشعرية المؤسسة.أما أن نواري سوأتنا بالزجاج الشفاف ونتعامل مع أشيائنا بالضجيج والصخب من دون الرجوع إلى صوت عقلي مهمته مقاربة الرؤى المتباينة والنظر في عمق الأشياء والإمساك بجذورها لأن أنصاف الحلول يدخلنا في متاهات اللاجدوى وسواء اهتراءت الأوتارأو ارتخت فالنتيجة واحدة والحل كذلك واحد.ملخص لرؤية الشاعر حسن الصلهبي لنفسه في حوارنا الذي فتح فيه قلبه لقراء إيلاف وكان هذا حصيلته


* في القصيدة اللغة يجب أن تبقى مهزومة أمام الشاعر، وليست منتصرة، يجب أن تكون كالماء تأخذ شكل أصابعه، وليس كالحجر تأخذ الأصابع شكله. إلى أيّ حدّ تتفّق مع هذه المقولة؟
- اللغة لا تشكل الشاعر أبدا وإنما هو من يشكلها، وهنا مكمن الاختلاف بين الشعراء على امتداد الأزمان، وحتى كل لغة هي في ذاتها تحمل إمكانات شعرية ولغوية وموسيقية قد لا تحملها لغة أخرى. الشاعر كما أرى لا ينتصر على اللغة ولكنها كالغادة الحسناء التي لا تسلم نفسها إلا لمن يتعب ويعمل ويضحي من أجلها.. عندها فقط تسلم له أعتابها بكل يسر وسهولة.


* في ديونك الأوّل ( عزف على أوتار مهترئة ) طال عزفك...وأردت للحنك أن يدوّي..هل رًمت ما تريد أم أنّ أوتارك بلِيت وتصفّدت؟
- المسألة هنا ليست في هل رمت ما تريد أم لا ؟ الأوتار المهترئة هي صورة واحدة من حالة الاهتراء الكامل الذي يعيشه الفرد بكل تفاصيله المتعددة، وهو أيضا ظاهرة عامة وليست حالة فردية، قد لا يرى هذا الإنسان العادي.. لكن الشاعر بنظرته المتفردة العميقة في الأشياء وبحدسه الخاص يرى ما لا يراه الآخرون. لا شك أننا بحاجة لأن نقف مع أنفسنا ونقلّب أوراقنا ونواجه ذواتنا بأخطائنا بعيدا عن الثرثرة اللفظية واللغة النفعية التي تفسد نجاحاتنا وتعود بنا إلى الوراء.
العزف على أوتار مهترئة قد يكون نوعا من الهروب أو التهرب من المواجهة مع العلم أو عدم العلم بتغلغل الداء، والتذبذب بين الأكون واللا أكون والذي يصل في نهاية الأمر ليكون هزيمة نفسية وانفصال عن الواقع المادي الذي لا يترك لنا إلا أجساداً مهترئة متهالكة تتراقص على أنغام لا تشعر بها وتطرب إلى ما لا يُطرب، ورمادا لأسئلة لا تلد إجابات وإنما تستمر في التلذذ بالضجيج الفارغ والصخب الممقوت.
اهتراء أوتاري ـ يا عزيزي ـ ينبعث من هوائي الذي أتنفسه، وأتذوقه عل مائدتي ويمر أمام عيني في غرور مقيت.


* تصرّ على اجتراح القصيدة الخليلية المقفّاة. هل هو رفض مطلق لقصيدة النثر ؟ وكيف ترد على من يتهم متعاطي هذا النوع الخليلي بالميل للتصديح والطنطنة على حساب الشعرية؟
- حقيقة القصيدة الخليلية فيها من الجماليات الشعرية الكثير ولكنها تحتاج إلى شاعر من نوع خاص يستطيع أن يغوص إلى أعماقها ويكتشف مكنوناتها، وعندما نتحدث عن القصيدة العمودية فيجب أن نكون على حذر شديد في مسألة التفريق بين الشعر والنظم،وهذا هو مأزق القصيدة العمودية وهو أن معظم من يمتطي صهوتها ليسوا سوى نظامين على حساب الشعرية.. بالنسبة لي شخصيا أرى أن الشاعر شاعر في أي حالة كان سواء كتب عموديا أو تفعيليا أو قصيدة نثر، الشكل الشعري ليس عائقا أبدا أمام الإبداع، وما هي إلا أوعية نسكب فيها ذواتنا. أما قصيدة النثر فأنا لا أرفضها كليا ولكني لا أقبلها إلا من شاعر قد خاض جميع أطياف الشعرية العربية ووصل به المقام إلى قصيدة النثر كمسار جديد للتجريب الشعري، والسبب أن قصيدة النثر خلطت الحابل بالنابل وجعلت الطريق سهلا أمام أي مدعي أن يصبح شاعرا وهنا يكمن مأزق ما قصيدة النثر، وحتى النقاد المعنيون بها لم يتمكنوا حتى الآن من جمع النماذج التي يرونها جيدة وتنطبق عليها مواصفات المصطلح لتكون نبراسا للأجيال القادمة.


* أصدرت ديوانك الشعري الثاني فما الذي أضافه لتجربتك؟ ثم بماذا تفسّر هذه القطيعة بينك وبين النقاد؟
- ما يجب أن نعيه جيدا هو أن المبدع لا يتعمد التجارب ولا يفرضها على نفسه، فالخط الشعري بالنسبة لي واحد من أول يوم أمسكت فيه القلم للكتابة، ولكن التجارب الشعرية هي انعكاس لحياة الشاعر وممارساته اليومية، وهي تتشكل في وجدانه كمواقف ورؤى ثم تنسكب على الورق عبر اللغة. نصل هنا إلى نتيجة أنه من خلال اللغة فقط نستطيع القول أن هذه التجربة تختلف عن سابقتها أو لا تختلف. أنا طبعا لا أستطيع أن أقيم نفسي، وإنما أستطيع أن أتابع أثر النصوص على المتلقين وخصوصا القريبين مني وكيف نظروا إليها وأين تكمن الجدة؟
أما القطيعة بين النقاد والمبدعين فهو أمر حاصل ولا مفر منه في الساحة الأدبية العربية عموما، وهذا الأمر لا يستطيع أن يبت فيه المبدع ولا ناقة لا فيه ولا جمل، فإن جاء النقد فأهلا به وإن لم يأت فلن يتوقف المبدع عن مواصلة إبداعه لأنه هاجس لا فرار منه
( خائنة الشبه ) لم تبتعد عن النقاد تماما فهي من البداية ولدت على يد الصديق الناقد جبريل سبعي وتناولها بدراسة نقدية عنوانها ( رحلة البحث عن الهوية ) وتناولها الصديق الشاعر / الحسن مكرمي بدراسة نقدية جميلة عنوانها (الصلهبي في خائنة الشبه.. تجربة شعرية جديدة) ثم وقف معها الدكتور خالد العساف بدراسة عميقة جدا عنوانها ( انهيار الحلم الجميل أمام الواقع القبيح) وكذلك فعلت الأخت الناقدة المبدعة / إيمان الشنيني التي قدمت دراسة بعنوان ( سيميائية الريح في ديوان خائنة الشبه ) وكذلك فعل أيضا الناقد المغربي /عبدالحق ميفراني الذي قدم دراسة معمقة بعنوان ( شعرية الموت والألم في ديوان خائنة الشبه).


* تحمل بكالوريوس أدب إنجليزي، وتمل مدرساً للغة الإنجليزية، فضلاً عن كتابة لقصائد بذات اللغة،ولكن لا زال يسكنك هاجس الوزن والمفردة القاموسية الصعبة. ترى أين هي أمطار الشعر الأجنبي من تخصيب قصيدتك؟
- سؤال جميل جدا. الإطلاع على الآداب الأخرى ومعرفة لغاتها مهم جدا في تكوين الشخصية الأدبية. وأهم ما في هو الشخصية هو طريقة التفكير
والنظرة للأشياء والرؤية المختلفة. اللغة ليست مرهونة بمفردة أو بإيقاع ولكنها طريقة تكفير كامل وهذا التفكير هو الذي سوف يشكل كل المفردات وكل الإيقاعات ويوظفها توظيفا جديدا في سياقات في منتهى الروعة والجدة، وفي الجانب الآخر قد شاعر يتفيهق بحداثة لغته وعندما تقلب أول ورقة في تفكيره تجده في غاية التخلف والرجعية وأمثال هذا كثر وهم يمثلون عبئا حقيقيا على الجيل الجديد.


* في قصيدتك ( قراءة في كبوة الشعر ) دعوت حائك الكلمات تحت مسمى الشعر بالخلود للنوم! وأشرت بأن البحر سيمجّه كما يمج الأصداف! أإلى هذا الحد لم يعد الشعر مدهشاً وقابضاً على جمرة الإبداع؟
- أخي عبد الله ليس الشعر و إنما هم الشعراء أنفسهم الذين اسقطوا الفن من حسابهم فأسقطهم من حسابه، ولا يبقى لهم إلا الكلمات المرصوصة التي تموت في أول لحظة تنتهي فيها المنفعة من قول الشعر.
كنت أمقت مثل هذا التفكير المتخلف ومثل هذه النظرة السطحية للأدب، فهم لا ينطلقون من رؤية حقيقية للحياة والكون وليس لديهم موقف ثابت في الحياة، فالواحد منهم متقلب كتقلب مزاج مصلحته، ففي يوم تراه مصلحا اجتماعيا وفي آخر يتحدث عن قضايا الأمة وأزماتها وليته يعالج هذه الأمور الخطيرة والدقيقة بعين ثاقبة وعمق ودارية لأن تحليلها وعلاجها يحتاج للمتخصصين، وإنما بسطحية مفرطة تكون أقرب للسذاجة، وفي يوم ثالث تجده بوقا يكرس الكيانات التي ربما كانت عاملا مهما في خلق الأزمات التي يتحدث عنها. إذا لا رؤية ولا جمال ولا موقف.
وفي الجانب الآخر برز مدعوا الحداثة، وقد ظهر من خلال كتاباتهم أن تفكيرهم خاوي والسبب الرئيس لذلك انسلاخهم الكامل عن التراث وعدم إطلاعهم الواعي للثقافات المحيطة. كل ما فعلوه هو هدم القصور الجمالية الشامخة في الشعر العربي ثم لم يتمكنوا حتى من تعويض ما هدموه فباتوا في العراء، ولا هم استحدثوا بناء شعريا جديدا مستقلا عن التقليد للغرب، بل اتكلوا على القصيدة المترجمة فأصبحت القصيدة الحداثية أشبه بقصيدة مترجمة ونحن نعرف ما يعتري الشعر حينما يمر بمرحلة الترجمة من فساد.


* لا يزال هناك قطيعة بين النقد مع كتبنا على اختلاف الأجناس التي يتعاطونها خلاف الحدّية في ردودهم تجاه بعض بل وصل الأمر لنسف تجربة الآخر وإقصاءه ( العباس ومحمد جبر الحربي) و (قماشه العليان وعبده خال كمثال. بم تفسّر كشاعر ومثقف هذه الحساسية في التعامل؟
-هذا الأمر غريب جدا على نقاد ومبدعين كبار نحترمهم ونجلهم، الاختلاف الأدبي والنقدي أمر محمود وهو الذي يحفز للعمل والبحث وإثراء الساحة بالأعمال النقدية الضخمة، لكن عندما تتحول الكتب نفسها إلى حديث عن النفس فليس بغريب أن يحصل ما حدث.