مراثي الشاعـر
الملايين التي يعلكها دولاب نار
من أنا حتى أرد النار عنها و الدوار
خليل حاوي
هل بامكان الحلم أن يقترح في المدى اللامتناهي لــه واقعاً بديلاً مثلما أقترحه الشاعر جمال جمعة عبر حالة التلاحم مع الحلم ومن خلال الجملة الشعرية المتقنة في مجموعته الشعرية "رسائل إلى أخي"هذه و المكتوبة أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 و التي توزعت الرسائل فيها بالترتيب الآتـــــــي:
1 ــ 14
14 ــ 24
25 ــ 38
و هذا الترتيب قد يبدو لي مقصوداً من قبل الشاعر لتصاعد النبرة الدرامية من جهة و لطبيعة الحالة النفسية التي كُتبت بها هذه الرسائل تبعاً لتوترات الحرب و تصاعداتها الدراماتيكية، فحين يفرض الواقع حضوره المأساوي بهذا الشكل يفرض الحلم نفسه بصورة تلقائية محاولاً في ذات الوقت ان يمارس لعبة التماثل من خلال الخيوط الشعرية التي ينسجها الشاعر في نصه على مختلف المستويات النفسية، الفكرية و الجمالية و التي تطالعنا في المقطع الأول من رسالته الأولى:
هكذا يا أخي
أراك متأرجحاً
بين الخيام
يداك في جيوبك
و عيناك تحدقان في الفراغ
و أنت تفكر بي
رائحاً
و غادياً
تماماً مثلما أفعل
أنا هنا
حالة التذكر تحيط بالشاعر من كل الجهات، إبتداءً بالطفولة و تفاصيلها و وصولاً الى كنه العلاقة الأخوية المنبثقة من طبيعة العلاقات الأسرية الحميمة، لذلك تغدو دائرتا الحب و الخوف لديه هما المركز و المحيط الذي تتحرك فيهما هواجس الشاعر باتجاه الآخر ــ الأخ. هذا التراكم من الحميمية الدافئة يصوره لنا الشاعر في رسالته الرابعة :
و هل تحلم
بالسماء الزرقاء
بالنوم على السطوح
بالمطر يوقظك
قبيل الفجر
بيد أمك و هي تقول...
إستيقظ يا شريف، الدنيا ظهر
فينبوع العاطفة لا ينضب و حرقة الاشتياق لا تتوقف، كما إن الهواجس المريبة لا تفتأ تفتك بالشاعر فيحولها بمهارته الى ألق متوهج. أحياناً تتسلل خيوط من اليأس الى نصاعة النص وسبلنا كثيرة جداً لتفهم مثل هذه الحالة كما أن مصادر اليأس لا تحتاج الى دليل فهي صادرة من افرازات الحروب المتمثلة بالتوتر، القلق، الخوف، الموت، الأسر و الذل، لذلك تبقى المساحة ما بين اليأس و الأمــل و التي تبرز المشاعر المتأرجحة في ميزان هذه الحرب اللاعادلة ضيقةً جداً، لنتأمل ما كتبه الشاعر في رسالته الخامسة :
لماذا لا أراك إلا
محدقاً
في نجوم الصحراء
متذكراً وجهي؟
لم لا أراني إلا
محدقاً
في قوس القزح
لأراك؟
أراك مرتجفاً من البرد في ليل الصحراء
إن حالة التأرجح الخطير تؤدي الى نوع من التأزم النفسي توصل الشاعر الىغياب حالة الاحتمال التي تدفع به لممارسة حرفة التأمل حين تتحول الحرب الى ما يشبه الصخرة التي يرزح تحت وطأتها القاسية الأمل الوحيد الذي يترقبه الشاعر و المتمثل بالسؤال الآتي متى تنتهي هذه الحرب؟ و في حالة انتهاء الحرب ما الذي سيكون عليه الحال، لنرى ما صوره الشاعر في هذا المقطع تحديداً:
الملوك ربحوا تيجانهم
و الأمريكان ربحوا نفطهم
الروس شبعوا لحماً
الصينيون ربطات عنق إضافية
و اليهود ربحوا أراضي أخرى
أنا و أنت فقط يا أخي
الخاســـران في هذه الحرب
و على الرغم من النبرة الكوميدية السوداء بالمصطلح المسرحي كان الشاعر موفقاً الى حد كبير في هذا التوصيف و التوزيع الهرمي لنتائج الحرب التي نقل اجواءها الينا من خلال قصائده ـ رسائله ـ ذات البناء الدقيق الرائع.
حالة الغياب سرعان ما تشتد ملامحها فتغدو مختزلة لكل الخصائص الجوهرية لموضوعة الانتظار الذي يحاول الشاعر التحرر من تكاليفه و الانطلاق لتذكر العلاقات الحميمية، و لأن قصائد المجموعة ـ الرسائل ـ كثيراً ما يصدر عنها هذا الوصف الدقيق للحظات الشوق الحادة و الانفعالات المتوالية التي تنتاب الشاعر بين حين و آخر و خلال هذا الأفق التي تتحرك فيه القصائد ينقلنا الشاعر لمواجهة الحقائق الموضوعية بصورة فنية و جمالية في معظم التقاطاته و هواجسه لنقرأ ما كتبه الشاعر في الرسالتين الثامنة و التاسعة :
و سأرجوك أن
تنساني لحظة واحدة
لأستطيع النوم
من دون ندم.
......
حملــي ثقيل يا أخــي
و لسانــي عائم
على الفراغ
ما الذي ستفعلــه الكلمات
للموتـــى؟
الرؤية المتفحصة و العميقة في قصائد المجموعة لا تخضع لضرورة التواتر الآنــي للحرب بل تبقى مفتوحة لكل إرهاصاتها و إحتمالاتها التي تنعكس بدورها لا على طبيعة تعامل الشاعر مع نتائجها فحسب بل على اسقاطات الواقع اليومي بأدق تفاصيله و حيثياته وبعده الانساني على وجه الخصوص، و رغم كل هذه التوجسات تنبجس من روح الشاعر القدرة على إبقاء جميع الصلات الجينية التي تربطه بالمستقبل ـ الأمــل ـ و إعتقاده الحازم الذي أوصله الى حافات اليقين الحادة بانجلاء هذا الكابوس ـ الحرب ـ الى واقع جميل أقترحه الشاعر كبديل ـ الحلــم ـ ، لذلك بقيت القصيدة ـ الرسالة ـ هي الرئة الوحيدة و الكبيرة التي يتنفس عبرها هواء الحرية في أتون هذا الواقع الحجري و هذا ما نلمسه في الرسالة الثانية عشر :
في الظلام
أمــد يدي لظلامــك
علهّــا تعثر على يديــك
و أنت تمــدها إلــي
من ظلامـــك البعيـــد
بأتجاه ظــلامــي
رسائــله هذه أو مقطوعاتــه الموسيقية كما يحلو لي تسميتها تخاطب الضمير من عدة محاور، و هي باختصار القاسم المشترك لكل ما أستحوذ على الشاعر من توقعات و مخاوف رغم بعده عن الأحداث ـ جغرافياً فقط ـ و لكنه قريباً منها ـ إنسانياً ـ مما أوصله الى أن يطلق صرخته ذات النبرة الوجودية بطريقة مفجعة كما هو واضح في الرسالة الخامسة عشر:
أينـك أيها الله
لترى كل هذه
الأشلاء الطازجة
و هــي تغلــي فوق رمالك
مفتوحة الأفواه
فيما الذباب يطّن
حول صرخاتها المؤودة
و هي في الطريق اليك؟
التشابك الانساني الكثيف لا يمكن إغفاله بدعوى من همجية الحرب فقد أبرزت لنا قصائده إنطباعات جديدة تختلف عن كل النصوص التي تعاملت مع الحرب بصورة تبسيطية مثل إبراز الجوانب البطولية للجندي، تبني الشعارات الزائفة المسماة بالحرب المقدسة و غيرها من المسميات، فعلينا أن نعترف بصراحة مطلقة بان البطولات في الحرب تبقى زائفة حتي و إن كانت حرب تحرير، فليس هنالك من منتصر في الحرب، الخاسر الوحيد هو الانسان في كل حروب هذا العصرليس بوصفه حطبها فقط بل إشتراطات الجزية التي عليه تسديدها بصورة قسرية، لنرى ما آلت إليه الحال من فظائع الحروب برسالة الرابعة عشر:
سيذهب أبي الىعنابر
المستشفيات
باحثاً عن أشلائك
و سترابط أمي
بيديها المرتجفتين
أمام المحطات
باحثة في وجوه الجنود العائدين
عن بيريتك
فيما ستذهب
الأخوات الى العرافات
ليطالعن في خطوط أيديهن
آثارك
أي لعبة سمجة هذه و أي لغة فجة تلك التي تتعامل بها الحرب مع البشر، هكذا تجعلهم أسرى هواجسهم و قلقلهم المدمـــرو دموعهم الغالية التي و إن جفت فلربما سيستعيرون عيوناً أخرى للبكاء و كأن ببيت الشاعر عباس بن الاحنف حاضراً بصورةٍ أبديةٍ حين قال:
نزف البكاء دموع عينك فأستعر عينين لغيرك دمعها مدرارُ
لقد حملت قصائده ـ مقطوعاته الموسيقية ـ من السحر ما جعله يتخطى طبيعة الازمة التي عانى منها كثيراً و التي تقصدت الحرب إثارتها، و هذا أمر طبيعي تعامل معه الشاعر مع هكذا موضوعات حيث إستخراج الحرب من مدلولاتها و ترك ما للقارئ من فسحة للتشكيل و التفسير الخاصين به، و هنا لا أجد شفيعاً لي سوى ما قاله الشاعر اوكتافيو باث ( النقد ابداع و الابداع نقد ) فقد فرضت علينا الكلمات و الألفاظ و العبارات الموحية حالة إستثنائية في القراءة تتجاوز حدود الاعجاب و التذوق التقليدي الى نوع من الاثارة و التأمل في أناقة المفردة الشعرية كما هو واضح في الرسالة الثامنة و العشرين:
البارحة
أطلقوا النار
عليـــك
فأصابونــــي
الطابع التأملي كان هو الغالب على مجمل مقطوعاته، فثمة ميل كبير نتلمسه لدى الشاعر يمنحه لكل من يتأمل رسائله ملياً و هذا الميل التأملي متأتياً من وعي الشاعر لما يدور من اشتباكات في الجانب الآخر و لهذا لم تكن حالة التأمل صادرة من فراغ بل من الضرورة التي كشف عنها الشاعر حين استعان بالشعرـ فقط ـ للافصاح عن الكثير من الاشياء التي تلح سطوتها عليه بشكل انساني كان كفيلاً بتحطيمه لولا هروبه و الالتجاء الى القصيدة، لنقرأ ما جاء في الرسالة التاسعة عشر:
البارحة أمطرت هنا
يا أخـــي
و لم نر الشمس منذ سنتين
لا شئ سوى زمهرير البرد
و ابتسامات على وجوه الاشباح
التي تتسكع كل مساء
على باب داري
و أنا أقلب رسائلكم
محاولاً تذكر رائحة الشاي
عند الظهيرة
و السطح المرشوش بالماء عند الغروب
هكذا أقامت الحرب جداراً يصعب هدمه بيسر، جداراً يُنصبُ في وجه الحياة ليفصلنا عن ممارسة الحلم و يرسخ مشهد الكوابيس كي تستوي لدينا نمطية الحياة الفارغة و المميتة كمعادل للحرب و رقيب بروح بلاستيكية و هذا ما ذهب إليه الشاعر في الشطرالتالي:
و نحن نموت
يومياً
فيما نفكـــر بكــــم
يا أخــــي
العلاقات الانسانية التي تقوم على الفهم، التعاطف و المحبة تأتي كجزء من الخارطة البشرية الشاملة في تعاملاتها و لاثبات مدى التواصل الروحي ما بين البشر، لذلك نجد الكثير من الاشطر الشعرية في مقطوعاته مليئة بمثل هكذا مواقف متفاوتة في تلاحمها مع افرازات الحرب و لكنها لا تقدم التبريرات المجانية لأن الشاعر هنا ـ بلغته ـ لا يفهم سوى أن يلعن هذه الجوقة من البرابرة الذين يسعون للمتاجرة بأرواحنا، و لكن عملية الابحار التي يمارسها الشاعر بجرأة متميزة جعلته يتجاوز حالة الموت الى حالة الانبعاث من جديد رغم كثرة الكثبان الجاثمة على روحه، لنتابع بعض ما ورد في الرسالة الثالثة و العشرين:
ها هو الربيع يا أخــي
و الليلك أراه من النافذة
لكن أين هو الليلك
و أصفادك على عيني؟
و كيف يطيب الهواء
و أنت تسف رمال الصحراء؟
كثبان على قلبي
كثبان على عيني
إن حرب الخليج الثانية ـ كما أطلقت وسائل الأعلام هذه التسمية عليها ـ عام 1991 ليست كمثيلاتها من الحروب فقد إنفردت و بعناية فائقة في تدمير كل نأمة و أغرقتنا بقنابلها الثقيلة و الغبية، و ما هذا المقطع من احدى رسائل الشاعر سوى محاولة شديدة البأس منه للادلاء بشهادته عن سيئات كل الحروب و تداعيتها، و مؤدى القول ان كلا من الشاعر و رسائله مرتبطين إرتباطاً وثيقاً بالبقية الباقية التي ظلت تئن تحت سوط الحرب و ما من شئ يمكنه ان يعزلهما عن هذه التأثيرات التراجيدية الخارجة من عصور الظلام و التحجر التي وضعتنا بدورها في سياق العصر ما قبل الصناعي بتعبير وزير خارجية أمريكا آنذاك جيمس بيكرسوى هذا التساؤل، أين سقط كل هذا الحديد ؟ و لماذا أحرقتم السماء و الارض؟ و لنقرأ معاً :
أسقطت القنابل
فارتفعت الأضواء و الشرار و الدم
و كان الطيار مبتهجاً بهذه الألعاب
النارية
بعيد الميلاد الذي أتى
قبل الأوان بكثير...
لقد كان الشاعر حريصاً على القيام بجولاته التأملية و الدقيقة في تفاصيل هذه الحرب مترافقاً مع شدة الانتباه الى واقع الأسر و ما يعانيه الأسير من محاولات تهميش و تعذيب و إذلال، و لم يكن من قبيل الصدفة ان يشير الى هذه الفقرة التي تبدو لي تبعاً لرؤيته المتفحصة و الدقيقة نموذجاً صارخاً لما يتعرض له الجندي الأسير من إذلالٍ، تعذيب و قهر وهذا ما صوره الشاعر في رسالته الثالثة و الثلاثين:
لا مرايا هنا
و الرمال تعكر صورتنا
في عيون الأسرى
لا أشجار هنا
و نحن نقطف الذكريات
من غصون الماضي
لا نساء هنا
و فحولتنا تبحر كل ليلة
على رطوبة السرير
كما لا بد من الاشارة الى التقاطات الشاعر التي أستبقت على مواقفه من الجملة الشعرية الرصينة المكسوة بجماليتها و بذلك الولع اللامتناهي في التعامل مع اللغة الشعرية الذي أدى الى ان تخرج هذه الرسائل على شكل مقطوعات موسيقية ـ كما اسميتها ـ محتفظة في ذات الوقت بخصوصياتها التي اقتربت من الآخر لدرجة الذوبان معه كما هو مدون في الرسالة الثانية و الثلاثين:
ما أمر الشاي الذي
يقدمونه
و ما أشبه الطحين
بالتراب
الهواء دبابيس
طائرة
من خلال حالة التأمل لاحظ الشاعر بأسف متزايد ظل يلازمه في اغلب الرسائل أن إمكانيات القيام بعمل ما لأنقاذ أخيه لم تجد نفعاً و المحزن بالأمر أيضاً ان المخيلة بدأت تمارس لعبتها السادية و لعل من بين اسوأ الأمثلة على ذلك هذا المقطع الذي يصور الحالة التي ذهبنا اليها سلفا :
كتبت هذا اليوم و مزقت
لم يعد الكلام ذلك الذي
عهدناه
انه الآن ماء أبيض
دمع عديم اللون
عديم الرائحة
ماء يسيل على الاوراق
و لا يبللها
قصائد هذه المجموعة أثارت الكثير من التساؤلات و أربكت الهواجس فيما يتعلق بنظرتنا الى الحرب و كيفية الكتابة عنها، إذ لم تعد تجعلك واقفاً على حافة الهمس بل أعلنت عن صورتها البشعة لذلك قام الشاعر بمحاولة نادرة للخروج من دائرة المألوف في الكتابة الشعرية ليؤسس بلغته الصارمة و التي منحته بدورها آفاقاً واسعة من التراكيب الفنية على مستوى الشكل و المحتوى و المرصوفة ببنائها الجمالي الذي بدد القوالب الجامدة و منح لغته حريتها الكاملة للخروج من سياقها الموروث و التقليدي.و لكي يبقى التسأول مشرعاً عن ماهية النص خصوصا على مستوى الشكل و المحتوى ـ كما اسلفت ـ الذي يمنحهما حدوداً لا متناهية لما يجري من تحولات درامية أوقعتها الحرب على الرغم من استيعابه لدلالاتها التي استوقفته بكل الاشتراطات و جعلته يعيد التأهيل و الأعتبار للنص الشعري بمجمله ليحلق بنا بعيداً الى اماكن غير مأهولة في المخيلة فيستغرقنا السهر لنكتب رسائلنا التي نشتهي:
و صلتكم الشموع
فسهر الجميع
الى الصباح
يكتبون رسائل
لذويهم
ترى من الذي طرح السؤال على القارئ؟ الشاعر أم رسائله، فكل اسئلة الشاعر تتضمن صراعا ما بين الشاعر ـ الذات ـ و الموضوع ـ الحرب ـ في عملية خلق جديدة لحياة خالية من كل الأشياء التي تعكر صفوها، وبهذا بقيت القصيدة مفتوحة على نفسها حتى و إن تعددت أساليب القراءة من قارئ لآخر وهكذا يستمر القارئ منسجماً بثبات حتى نهاية هذه المقطوعات التي تلعن الحرب بكل نغمة من نغماتها.
التعليقات