يثير المخرج السينمائي قيس الزبيدي في مقدمته التحليلية الشفافة لكتاب محمد توفيق (محطات الانتظار ـ نصوص سينمائية) تساؤلا مهما حول إمكانية النظر الى السيناريو السينمائي كجنس أو نوع أدبي مستقل، وما زال هذا الأمر لم يحسم حتى الآن من قبل منظري السينما، لأن السيناريو السينمائي لتنفيذ أي فلم يعتمد على لغة الصورة. أما السيناريو الأدبي فهو الخطة التي على أساسها يكتب المخرج لوحده أو مع السيناريست السيناريو النهائي لتصوير الفلم وتحقيقه، وبالرغم من أنه يعتمد المفردة الأدبية التي تفرض خطابا أدبيا، إلا أنه من الضروري أن يضع التصور لمستقبل تنفيذ الفلم، أي يكون رؤيا ـ فيلمية ـ صورية للحدث، بمعنى أن يفتح آفاقا للغة الصورة التي تمتلك مفرداتها الغارقة في الرمزية والدلالاتية والإشاراتية بالرغم من واقعية السينما وأيقونيتها، إضافة الى المرحلة الثانية وهي كتابة النص الإخراجي،أي تحويل السيناريو الى رؤية تصويرية وإخراجية،أي خلق تلك الرؤى الموازية لرمزية ودلالات وتصور الحدث الذي افترضها كاتب السيناريو.

هذه الكتابة الثانية، أي نص الديكوباج المرئي أو التصور النهائي لتحقيق الفلم وقيام المخرج والسيناريست بكتابة النسخة النهائية تمتلك أهميتها الكبرى، وهذا ما عمل به الكثير من المخرجين. لذلك على كاتب السيناريو أن يمتلك تصوره البصري للسيناريو النهائي (كسيناريست وليس كمخرج). وكيفية استخدام الحوار وتلك الكلمة التي تخدم اللغة التصويرية، ولهذا فأن السيناريو يجب ان يكتب بلغة ليست أدبية صرفة منذ بذرته الإولى، وإنما يكتب بلغة الصورة أي بلغة السينما. والسينما كما هو معروف تعني لغة الصورة، وهذا يدفعنا الى التفكير بأن نشر مثل هذه السناريوهات السينمائية الأدبية هل يعوض المتفرج السينمائي عن اللذة التي يحصل عليها فيما إذا شاهدها كأفلام سينمائية ؟

في اعتقادي أن نشرها يمتلك أهميته الآنية، لأن القارئ العربي للكثير من الأسباب يجهل هذا النوع من الكتابة. وبما أنها سيناريوهات كتبها مخرج سينمائي وفنان مبدع وصاحب توجه جدي في نظرته للسينما وصناعة الفلم كمحمد توفيق، يكون من الضروري على محلل هذه النصوص تتبع بنائها الدرامي وتقنيات اللغة السينمائية بذات الجدية.
أن هذه النصوص الأدبية (التي كتبها المخرج لتنفيذها ولم يستطع) هي ثلاث محطات،الأولي :سيناريو لفلم روائي طويل تحت عنوان(المطار) وفلمين روائيين قصيرين هما المحطة الثانية: (وداعا يا صديقي) والمحطة الثالثة: (لقاء).
ففي الفلم الأول (المطار) يفاجئنا المؤلف بشخصيات فلسطينية مثل أحمد الشوبكي وصديقه إبراهيم (الذي كان يعمل في الكويت وسرح من العمل بعد تحريرها من الإحتلال العراقي) وليلى العاملة وضابط شرطة المطار وغيرهم. وهي شخصيات محاصره حتى وإن كانت حرة. فمن خلالها عالج أزمة حقيقية تعتبر مشكلة معقدة في مجتمعاتنا العربية وهي الانتظار على الحدود، وعدم السماح بالدخول إلى هذا البلد أو ذاك نتيجة لالتباسات الوضع السياسي الذي يحتم الشك في الآخر ووضعه موضع الاتهام، وممارسة أقسى أنواع الريبة السياسية بدون مبرر في الكثير من الأحيان، فيهمش الإنسان ويصبح لا شئ ويشعر بغربة مضاعفة. ومن خلال حوارات الشخصيات نفهم بان سلطات البلد المعني لا ترحب بدخول الفلسطينين الذين تركوا الكويت بعد تحريرها، ونتيجة للضغط والعدد الكبير فإنها تسمح بدخول شخص واحد من كل عشرين، والباقي تحجزهم لعدة أيام وتسفرهم بأقرب طائرة.
إن أحمد عباس الشوبكي الصحفي والكاتب الفلسطيني ينتظر في المطار بسبب رفض السلطات للسماح له في الدخول(فضل السيناريست والمخرج عدم تحديد البلد) بدون سبب (يبدو مجرد كوني فلسطيني هو بحد ذاته تهمة، كما يقول هو) مما منحه الوقت للضجر واليأس وخلق علاقات مع العاملين وأصحاب المحلات التجارية، فبائعة محل العطور هناك،الفلسطينية من مدينته القدس ليلى مثلا تتعاطف معه وسيتحول هذا إلى علاقة حب ومن ثم الاتفاق على الزواج. ولكن البعض الآخر(كما سنرى) يتعاملون معه حد العنف كما هي علاقة ضابط المطار والشرطي خليل به.إذن هذا التنوع،علاقات بجانب البطل وأخرى ضده بالتأكيد سيخلق التباين في مستويات مكونات الصراع الدرامي والخطاب السينمائي.
ولطول الانتظار حوّل أحمد المطار إلى بيت، يأكل ويشرب ويستحم ويكون علاقات لفترة قصيرة مع المسافرين ويكتب مذكراته وتأملاته.. الخ.
ونحن نفهم خلفيات الحدث وماضي البطل أحمد من خلال دفتر مذكراته الذي دوّن فيه كل شئ فنسمعه وهو يقرأ بعض صفحاته. ونتلقى الحدث بالتدريج من خلال التناوب بين ماضي البطل وحاضره من خلال استخدام الفلاش باك(أي تذكر الماضي). وبما أن أحمد هو صحفي وكاتب و مهنته الثقافة، فإن هذا يثير ريبة وشك حراس الحدود والسلطات، إذن عليه أن ينتظر قليلا لحل بعض الإجراءات الروتينية !!. وكما هو معروف أن سلطات المطارات العربية هي التي تقرر بحرية ما تراه مناسبا وكأنها فوق القوانين.

إن المذكرات التي نسمعها بصوت احمد هي وصف لأحداث ماضية متنوعة تعطي إمكانية للمخرج أن يحولها إلى حدث مرئي بمستويين، قريب وبعيد. فدخان سيجارة أحمد تذكره بماضي أبعد هو الأحد الدامي أبان حصار إسرائيل لبيروت. ومستوى ماض آخر، فيتم التداخل في الأزمنة عندما نشاهد أحمد في مركز شرطة الحدود في المطار للتحقيق معه، واتهامهم له بكتابة مقالات صحفية ضد الوضع السياسي في هذا البلد الذي يريد دخوله، وهو لا ينكر بأنه جاء للقيام بتحقيقات مع المثقفين، ولقاء والدته التي ستأتي بعد أيام من القدس. والمشكلة الأخرى التي يواجهها احمد هي أن ضابط البوليس يطلب منه كثمن للدخول، أن يعمل مخبرا لهم باعتباره صحفي معروف وينتقل بين عدة بلدان.

أن النص يستعرض مصائر أشخاص مختلفين ومتباينين، ويجعل المطار مكان لتناقض أوضاعهم ضمن ظروف سياسية واجتماعية عربية متشابكة. والكثير من هذه الشخصيات تلتقي مرة واحدة و تختفي سريعا، تخطف أحيانا كالوميض وتغيب في قارات أخرى من العالم أما المحجوزين والممنوعين فهم من ذلك الطاقم الذي يعبر عن مصائر الإنسان العربي المأزوم عموما.
فاحمد مثلا يلتقي شاب فلسطيني جاء من ألمانيا لزيارة أهله، لكنهم لم يسمحوا له بالدخول بالرغم من أنه مولود في هذا البلد، وبعد انتظار يسفر الى المكان الذي جاء منه.ويكون احمد سببا في نقل الشرطي إسماعيل من المطار الى مركز آخر في الصحراء لأنه تعاطف مع قضيته هو والآخرين. ويؤكد النص أيضا على لقاء أحمد بالمهندس المدني الفلسطيني إبراهيم الذي كان يعمل في الكويت، والذي تم تسفيره على عجل بعد أن يستولي ضابط المطار على مبلغ كبير منه هو كل ما يملكه من نقود، شئ هو سرقة اكثر من أي شيء آخر. وفي ذات المكان يلتقي أحمد صدفة بابن مدينته المهاجر إلى باريس حسين حمادي الذي جاء مع زوجته لزيارة أهلها، لكنهم سمحوا للزوجة بالدخول ومنعوا زوجها ومن ثم إبعاده الى أثينا.وكذلك فان سلطة المطار تعقد الأمر على سعيد وزوجته الفلسطينية الحامل اللذان فضلى أن تولد الزوجة في بيت الأهل، ولعدم السماح لهما في الدخول تولد في المطار. وهنالك الكثير من الأحداث الأخرى التي يتحرك فيها البطل أحمد ويمارس دوره مما تمنح الفلم والسيناريو النهائي ديناميكية البناء الدرامي. وتتعقد الأمور كثيرا بالنسبة إلى أحمد فيصبح يائسا ولا مباليا حد تحديه لضابط المطار. وموقف الضابط من أحمد يدل على طريقة العنف التي تتعامل بها السلطات مع الإنسان العربي.
وبعد أن يتفق أحمد وليلى على الزواج في المستقبل الغامض، يكبلانه شرطيان، ويدفعانه للطائرة المتجهة إلى قبرص، وعندما يودعها برفع يديه المكبلتين وهو على سلم الطائرة يتذكر همسها له بأن(قضيتهما أصبحت واحدة)حينذاك تغيب الطائرة في أفق سماء بعيدة.
أما المحطة الثانية أو الفلم الروائي القصير الثاني (وداعا ياصديقي) فيشخص لنا معاناة اللاجئين في الدنمارك،هربا من الاضطهاد السياسي أو الحروب ألامجدية في بلدانهم، وهي تفاصيل عاشها كاتب النصوص ذاته. فالأفغاني محمد الهارب من الحرب في كابول (أفغانستان) بعد أن قتلت بقنبلة عائلته جميعها ماعداه هو وطائر كان في قفص في المطبخ، وظل يغني لوحده أياما عدة حتى مات.
وبالرغم من انتظاره الطويل في معسكر اللجوء يربح محمد صداقة حميمية مع لاجئ آخر من العراق يعاني نفس معاناته. وعندما تتماسك صداقتهما ترفض السلطات طلب اللجوء للأفغاني وتسفره. ومن بين الشرطة الذين أحاطوه في المعسكر يسمع محمد الأفغاني صديقه العراقي يودعه بكلمة هي عنوان الفلم. وبالتأكيد فان كاتب السيناريو والمخرج يريد أن يؤشر لنا بأن هؤلاء المنفيين لا تطأ أقدامهم أرض إلا أرضهم والصداقة مهما كانت متينة تبقى عائمة.
والحوار التالي والكلمات اليائسة لمحمد اللاجئ الأفغاني يعبر كثيرا عن مضمون الفلم :
(محمد : لا عمل لنا سوى انتظار المجهول، لا أدري الى متى سنبقى ننتظر
الفرج الذي ربما لا يأتي على الإطلاق.)
أما المحطة الثالثة (لقاء ) فهو فلم روائي قصير أيضا نتعرف من خلاله على معاناة صلاح الفلسطيني المبعد من الأرض المحتلة الى تونس لكونه كان مصورا سينمائيا وفوتوغرافيا مشاكسا، وهو من خلال الفلاش باك يتذكر حياته في وطنه المحتل من قبل الإسرائيليين الذين يمنعونه من ممارسة مهنته، ويتذكر سرقتهم لأرضه من أبيه الذي منعوه من الاقتراب منها إلا أنه فضل الموت ممددا عليها وفي يده حفنة تراب.
ينتظر صلاح وأخته وصول والدتهما من القدس عن طريق الأردن، وبالرغم من أنهما يعيشان في تونس إلا أنهما ينتظران الرجوع الى الوطن في يوم ما بعد أن يتحرر، وعندما تصل الوالدة فإنها تشعرهما بذلك الحنين الإمومي المشابه للحنين الى الوطن، ومن خلالهما يشمّـان رائحة الأرض المسروقة. تعود الأم وهي تحمل بين طيات ثيابها الفلم الذي صوره ابنها عن اضطهاد المحتل لشعبه وانتفاضته، ويعتبر صلاح هذا الفلم وثيقة إدانة.
وعندما تعود الأم الى القدس فان الإسرائيليين يمنعونها من الدخول ويعيدونها الى الأردن، وهناك بالـتأكيد ستنتظر طويلا قد يكون انتظارا غير مجدي.
وكخلاصة يمكن القول بأن عدد الشخصيات القليلة في هذه الأفلام يجعلها سهلة التنفيذ، ولكن بما أنها تعالج أمورا حساسة في عالمنا العربي، يصبح إنتاجها من قبل مؤسسة رسمية صعبا.
ومن الملاحظ بأن لغة الحوار معبرة إلا أنها في الكثير من الأحيان متشابه مما يجعل بعض الشخصيات في مستوى واحد، إضافة الى أن هنالك مبالغات في الحوار الأدبي والاعتماد عليه بدل من الصورة وقد يكون كاتب النصوص قد ترك الأمر للسيناريو النهائي التنفيذي الذي تكون لغته الأساسية هي الصورة أيضا ، وهذا يفرض تحاشي التكرار من أجل الوصول الى منطقية الأحداث.
أن الحوار أحيانا يستنفذ قدرة المشاهد التخيلية عندما يحتوي على إعطاء كامل المعلومة فيتحول المشاهد الى مستمع فقط دون أن يكون مشاركا، وهذه مشكلة في معظم الأفلام العربية.
تربط هذه الأفلام الثلاثة فكرة واحدة مبرزة هي الانتظار اللا مجدي في محطات غريبة نائية ضمن ظروف سياسية واجتماعية والتباسات معقدة، وأن الشخصيات محاصرة ومقموعة وتدور في مكان واحد، ينقذها ماضيها عن طريق استخدام وسيلة الفلاش باك للقاء العالم الآخر.


لمخرج محمد توفيق
•خريج أكاديمية الفنون الجميلة قسم الاخراج والتمثيل
•عضو جمعية المخرجين السينمائيين الدنماركيين
•أخرج وكتب العديد من الافلام أهمها أم علي وفلم شاعر القصبة
•يكتب عن السينما العربية في المجلات المختصة
•شارك في العديد من المهرجانات لاسينمائية العربية والدولية مثل موسكو وكان،ولايبزغ وبرلين و القاهرة ودمشق وقرطاج
•أختير كعضو في لجنة التحكيم في العديد من المهرجانات.

مخرج وباحث مسرحي
[email protected]