"عتمة الضوء" مجموعة قصصية للقاصة الكويتية "أستبرق أحمد" صادرة عن دار قرطاس – الكويت في 2003 والغلاف من تصميم "علي المبهر" يحتوي الكتاب على " 13 قصة قصيرة " تأخذ العناوين التالية " أجسام غريبة / أطياف نزقة / ا ر ت ط ا م / سير ذاتية للشراهة / الصدى الأعزل / براءة / " تجليات في زمن العتمة " / حدس / رائحة الامتداد الغامض / ر... ح / زوايا المثلث / تيه / خيوط تعبة. كما تشير القاصة أن هذه القصص كتبت في الفترة ما بين ديسمبر 2001 وأغسطس 2003.
" تمة الضوء" عنوان يطرح مفارقة واضحة جدا، واتكاء يسعى لتأسيس مدخل لا يخلو من تساؤل وترصد ودخول إلى مناطق أليفة بتكويناتها وسلطتها الراسخة لكن هذه المرة من زاوية أخرى خارج ذلك المتعارف عليه والحاضر دائما في وعينا، أي هنالك أضواء كثيرة لكن أيضا لها عتمة، بمعنى آخر لها ألم، إذن هذا المشهد البصري للضوء ليس كافياً، ليطفئ أو يغيب عتمة أخرى حاضرة في متنه، ومن هنا تنشأ المفارقة لهذا العالم السردي الذي هو أيضا ملتبس ومغاير ومربك رغم وعيه الكامل والواضح بمفردات الواقع وحركته اليومية المنتجة لمخيلة استطاعت توظيف واستدراج العديد من العناصر لتعمل في محيط قصصي زاخر بالأحداث والوقائع والتأويلات المفاجئة ضمن حالة السرد الواحدة. المفارقة / المغايرة الأخرى التي تلفت القارئ مباشرة قبل أن يذهب إلى متن الكتاب، اختفاء اسم الكاتبة من الغلاف الأمامي للكتاب، خلاف السائد والمتعارف عليه، ليظهر اسم الكاتبة في الغلاف الخلفي للكتاب، بحالة بصرية أيضا مختلفة، حيث يظهر العنوان " عتمة الضوء " أفقيا وتحته اسم الكاتبة " استبرق أحمد " بشكل رأسي، ويحدث هذا نفسه أكثر من مرة في متن الكتاب من خلال عنوان قصة ارتطام حيث كتب بأحرف منفصلة ورأسية وقصة أخرى أخذ عنوانها هذا الشكل " ر... ح " إضافة إلى العديد من أشكال البناء وتعددها والتقسيمات التي تمت كعنونة داخلية للقصص مرة تأخذ تقسيمات رقمية وأخرى حرفية وثالثة بجمل طويلة تمثل عناوين فرعية وفي كل الحالات يكون للاختيار دلالاته المستترة التي تحتاج من القارئ إعادة تركيبها وتفكيك العلاقة بينها وبين العنوان العام للقصة ويمكن أن نستشهد بقصة " سير ذاتية للشراهة " حيث تم تقسيم القصة إلى ثلاث فقرات " أ " " ك " " ل " أي تصبح تساوي مفردة " أكل " ويظهر مدى تقاطعها مع عنوان القصة ومتن القصة الذي يشتغل على موضوعة الجسد وما يخدمها من عناصر إضافية، وقصة " خيوط متعبة " تم تقسيمها إلى أربع فقرات " ن " " ح " " ي " " ب " أي تساوي " نحيب " وكل هذا يؤسّس لأجواء مختلفة وأسئلة كثيرة وتهيئة راصدة، وخروج من حالة البراءة العادية والتلقائية والمهادنة التي قد ندخل بها كثيراً لقراءة عمل ما وفق التراكمات المسبقة التي نأتي بها لقراءة كتاب قصصي أو شعري أو روائي، نأتي له فقط محملين بطبيعته وجنسه الإبداعي، لنسائله فقط وفق هذه الذهنية المتكررة، هنا هذا الكتاب حاول أن ينجز مشاهد أخرى، تربك تلك الأجواء والظواهر المعتادة، ويمكن هنا أيضا أن نتورط في أسئلة أخرى، مثل : هل عنونة الكتاب الإبداعي تحديدا " قصصي، شعري وروائي " مازالت تسعى للتعبير بشكل دقيق عن محتوى الكتاب أم العنونة صارت فعلاً إبداعياً موازياً، يتم إنجازه وفق شروط أخرى وعناصر خارجية تمنح العنوان نفسه سلطة أخرى، وهل المظهر الخارجي للكتاب هو من تأسيسات المصمم الفني فقط أم للكاتبة مساهمة ومقترحاً في ذلك لتقدم أيضا عبر الغلاف إشارات فنية أخرى لا تخلو من إشارات لأجواء التجربة الثقافية التي تتبناها ولها دور مركزي كثقافة ومفاهيم في صياغة العمل الإبداعي، وأيضا أسئلة الناشر وحدود دوره في التأثير على المظهر الخارجي للكتاب وعنوان الكتاب كذلك. وبالتأكيد جانب كبير من استراتيجية العنونة ينسحب على عنونة النصوص الداخلية ومدى براءتها هي الأخرى وعاديتها وفق تجارب الكتابة التي تنجزها الأصوات الإبداعية الجديدة التي تتكئ بدرجة كبيرة على التجريب والمغايرة والاختلاف والتمرد والمغامرة نحو بحثها لتقديم إضافات ومساهمات حقيقية في حقل الكتابة.
هذه الأسئلة ليست بالضرورة تحاصر هذا العمل وحده بل هي تظل عالقة بخصوص تجربة الكتابة الجديدة عموماً وسعي الأجيال الراهنة لإنجاز وتحقيق مفارقات ومغايرة جمالية في العديد من أوجه ومعطيات العمل الإبداعي.
ومن ثمّ،
نخطو خطوة أولى نحو الداخل، لنجد إهداءً يسبق النصوص، وهذا لا يخرج عن المألوف والسائد في كثير من الحالات لكن تظهر المغايرة في بنيته، في اللغة المستخدمة وتوصيف العلاقات في الإهداء حيث تكتب القاصة " إلى تعويذة الدفيء، أبي، أمي. و.. طلاسمهما النقية أسيل، عبد الله، إشراق " وبالتالي حتى الإهداء لم يأتي بريئاً من حمولة اللغة وانحرافاتها الأسلوبية، فالأب والأم تعويذات الدفيء والأبناء طلاسمهم النقية.
وكعادة الكثير من المبدعين تقدم " إستبرق أحمد " لمجموعتها القصصية، بإيقرافيا من أقوال العراف تريزياس لأوديب " عيناك مفتوحتان على الضوء، لكنك لا ترى " هنا سعت الكاتبة للتأكيد على ضرورة وجدوى العنوان بذلك الشكل وقصدية واضحة في التركيز على حضور العتمة – العمى الظل مقابل سلطة الضوء، أي أن الضوء ليس بالضرورة كاشفاً ومعرياً لما يحدث حوله أو يتحرك بداخل أسواره، إضافة لذلك دائما ما تحضر الايقرافيا في الأعمال القصصية والروائية لتكون ذات صلة وثيقة جداً بما يسعى العمل الإبداعي لقوله، أي لا تستخدم كعبارات زائدة وعبثية تسللت من باب الإعجاب فقط، بل تكون مفتاحاً أساسياً ومهماَ لتهيئة القارئ، للبحث المضني مع الكاتب نفسه لتفجير حالة من الرؤيا تلامس الهاجس الذي تطفح به تلك الافتتاحية ومدى حضورها في حيوات أخرى خارج ذلك السياق وضروراته.
جميع القصص تجسد حالة حوار ومساءلة ومشاكسة وتفكيك مستمر للعلاقات الإنسانية في عدة صور ومشاهدات بدءاً من الأسري بتنويعاته وتشابكاته المتعددة واليومية في حركة توالدها، إلى الأصدقاء وبيئة العمل، إلى الصور والمشاهدات المحيطة، كلها تتكئ بدرجة أساسية على الكائنات الحية، تحديداً الإنسان والحيوان بتحريك مجازي يخدم الإنساني في درجته القصوى ويكاد يختفي بدرجة كاملة وجود الجمادات والنباتات وعناصر كونية أخرى مشاركة للإنساني في شغل حيز ما ضمن محيطه وضمن حركة تقاطعاته وبالتالي تنحاز هذه القصص بدرجة مباشرة وجوهرية إلى قضايا الإنسان التي تشكل معوقاً ما يعطله عن الإمساك بلحظة ضوئه الكاملة .
وبالتالي تلك العتمة التي تلبست العنوان وشكلت حضورا فاعلا في متن النصوص لم تكن سوى مقابل ومعادل للسالب واللاإنساني في حركة الواقع وشخوصه والمفارقات الكبيرة التي تحدث وفق شروط اجتماعية وأخلاقية، لا يشي بها الظاهر والمرئي من خلال التعاطي العام والحضور الطبيعي للأشياء، ذلك ما تعكسه أكثر من قصة مثل " أجسام غريبة " حيث تتحول علاقة الابن بوالده وأخوه إلى كابوس يؤرقهم لمجرد الفارق الاجتماعي الذي يؤسس لهم في مخيلتهم وضعاً اجتماعيا متميزاً، بينما هو ينتسب لتاريخ وضيع من جهة أمه، هم يقيسون علاقتهم معه من خلال هذا المستنقع بينما هو يرتكز على رؤية إنسانية تقوده للتواصل معهم، وهنا يظهر توصيف القصة لحالة الانفصال الحادة إذ وجدت الطفلة والدها واقفاً بوجهٍ منطفئ. أيضا قصة " أطياف نزقة " وما يمثله باسم من حالة مشرقة في مكان العمل وحيوية وانفتاح لتنتكس الصورة مباشرة بعد رؤية شريط فيديو في مكان آخر وفي وقت آخر، يبدو فيه باسم بزينة وملابس أنثوية وربما عطر، يراقصهُ فؤاد زميله في العمل / وليس يرقص معه. وهكذا عدة قصص تشتغل على ذات الزوايا وذات التناقضات وربما تسعى بالفعل للبحث في الأماكن المعتمة والمظلمة والانكسارات الحاضرة بقوة في التفاصيل والمخيلة المحيطة بالشخصيات المتحركة في حيز البناء السردي الموازي لهموم إنسانية مكرسة بشكل ضاغط ومؤلم في الفضاء الخارجي وهذا ما يبدو جلياً في نهايات غالبية القصص المكونة لمجموعة " عتمة الضوء " فالنهايات مأساوية ومتلبسة بالخيبة والحزن، فالعاملة الأسيوية تحشر جسدها في حيز النافذة، تعبئ رئتيها بالهواء ثم تقفز لتملأ الرصيف بدوي الارتطام، والترجمة الخاصة بالمساعدات العسكرية للطاعون القادم، والزوجة التي تتقاطع مع زوجها في حالة خيانة كل مع رفيق آخر دون أن يراها وعند عودتها للمنزل لا تجيب على سؤاله : أين كانت ؟ فقط تحزم أمتعتها وتطلب الفراق / الطلاق، والشيخ الذي يلعن شيخوخته التي أخذت يقظته الكاملة، وحتى الأرض والبحر والسماء لا أحد يعرف صمت دروبهم سوى الريح بما تمثله من هلامي يصعب الإمساك به، إلى الشكوك حول شرعية الأبوة وفقدان الرجولة، والمهاجر الذي جاء لبلد النفط حالماً بحصد ألوان الفرح ولم يحصد سوى الوحشة والعتمة والحزن، ووجه الأب المنطفئ وعيونه المالحة وأقدامه الثقيلة نحو العزلة، وصدمة الفتاة في زميل العميل الذي بدا كأنثى / نقيض طبيعته ورغباتها المستترة، وضرب الولد لعامل الايسكريم الذي عبث بشقيقته، وحتى الكلمات الساقطة والمتذمرة تنمو كشجر على كؤوس النميمة وأطباق اللؤم بلا هوادة. حتى القصص الأخرى التي لا تتأسس نهاياتها بهذا الشكل يعشوشب في جسدها الكثير من هذه الملامح وسوداويتها، رغم أن القاصة سعت من خلال الحوار واسقاطات أخرى عديدة لتشريح مبررات هذا الواقع والأفكار المكرسة والبحث عن ضوءٍ ما داخل كل هذه العتمات، يتوسل الخروج من سجن العتمة من خلال الرفض والسؤال والإفادات التي تخرج أشبه بهوامش وجمل اعتراضيه.
ويمكن أن نقول جميع القصص تسعى لمحاورة وقائع متناقضة وصور اجتماعية مختلفة وتقاطع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني وتسليط الضوء على أشخاص من فئات عمريه واجتماعية مختلفة وفق شروط العصر والتزاماته القاسية لرؤية ما يحاصرهم ويقود بعضهم إلى الهلاك، من خلال هذا تتسلل الحكايات إلى تفاصيل أخرى وموضوعات عديدة هي أيضا مرفوضة ومقهورة اجتماعياً مثل موضوعة الجسد وعلاقة الرجل والمرأة لتتحرك في أوقات أخرى لملامسة الذكورة والأنوثة في وجودها الكوني العام وذلك في قصص مثل براءة ورائحة الامتداد الغامض وسير ذاتية للشراهة.
كذلك يمكن الوقوف عند حالة جديرة بالملاحظة كون القاصة تنتمي لجيل إبداعي عاصف في الكثير من مقترحاته لإنجاز نصوصه الإبداعية والمراهنة على خروقاتها المستمرة للمستقر والمتفق عليه ومن ضمن ذلك اتهام هذا الجيل بإنتاج نصوص مستغلقة وعسيرة ومغرقة في التجريب إلى حد فالت، نجد القاصة لم تنتج نصاً مستغلقاً لدرجة حادة كما هو سائد في الكثير من النماذج القصصية الراهنة أو ما أصطلح البعض على تسميته " نص قصصي " محققاً تجاوزات ضخمة وجذرية في مفهوم القصة القصيرة، ربما أقرب إلى ما فعلته قصيدة النثر بالشعرية التقليدية، نجد القاصة التزمت واحتفظت إلى درجة كبيرة بالكثير من شروط ومحددات الكتابة القصصية بل جاءت جميع القصص بسرد واضح ومحكم دون أن تسقط في مباشرة مجانية أو سرد مستهلك وزائد خارج ضرورات العمل الفني، كانت ممسكة بصورة جيدة جداً بأحداثها وخطوط العمل القصصي وباقتصاد كبير ورغبات محددة تسعى القصة لتوطينها، وهذا لا يجعلنا نقول أنها كانت مهادنة ومستجيبة وطائعة ومستسلمة بالكامل للمتفق عليه بل استطاعت من خلال عناصر أخرى وظفتها في بنائها القصصي مثل طرق رسم الجمل وتقسيم القصص بأكثر من طريقة وحالة لغوية وصورة مشهديه مخالفة للمألوف والمتعارف عليه وانتقالات واستدراكات وبدايات ونهاية فيها الكثير من الصادم والمفاجئ، من خلال كل هذا وغيره تمكنت من تحقيق اختلافها وتأسيساتها الخاصة فيما يتعلق بجسد القصة القصيرة وحالة عرضها.
كذلك من الإشارات الجديرة بالملاحظة أن الحوار حاضر بقوة في كل النصوص القصصية معتمداً على اللغة الفصحى عدا مقطع يسير في قصة " براءة " تحضر فيه اللغة المحكية، واعتماد الحوار في القصص يشير إلى أكثر من حالة إيجابية حيث يسمح بتحميل القصة الكثير من الهموم والقضايا والمفاهيم دون الإخلال بالرؤية المركزية التي تسعى القصة لإنجازها، هذا ما يفتح أفق القصص نحو مناطق عديدة واسقاطات كثيرة وحيوية عالية تنتصر بشكل غير مباشر للمفاهيم الإنسانية رغم أنها في البناء العام تبدو دائما متراجعة ومهزومة، وربما استجابة لغواية العنوان يقود هذا التحايل على الحوار في البناء إلى تفكيك العديد من البؤر المعتمة والأسئلة العالقة بخصوص الراكد من وقائع الذات وصور الواقع والمشاهدات البصرية اليومية وأشكال السرد المختلفة المتراكمة في الذاكرة التي تشكل بيئة أساسية ومركزية لهذه القصص التي أنجزتها القاصة إستبرق أحمد.


شاعر وكاتب من السودان