اعترفنا بسلطة التدوين وابتعدنا قليلاً عن التعميم والإطلاق، نجد حياتنا محاطة بالأحداث والأسماء والحكايات التي لا نستطيع التقليل من أهميتها للثقافة الشفاهية القادرة على إعادة تصنيع كل ذلك بأسلوبها خصوصاً وأنها ما تزال محاطة بأفضل أسباب استمرارها كالأمية وغياب الحريات وقدرة الخيال على الترميز وإعادة إنتاج المعنى في عملية يدركها الجميع .. ومرتبطة بصمتهم . وهذا الخطاب المرتبط بالأكثرية المقموعة غالباً ما يرتكز على المبالغة التي تجر المبالغة صوب تكثيف المعنى في المسامع، وعلى أساليب الروي والفنون الشعبية لتصنيع السياسيين والمثقفين وحتى الأشخاص العاديين، وتسويقهم في كم متراكم ومترابط من الخيالات والرموز الدارجة والمتدحرجة بين المدن والأرياف ككرة الثلج، مستعينة بتواطئ السامع وبغياب الحرية والإبداع والمسئولية. فليس غريباً أن تجد شاعراً دعَت أمه في أن يقف له ناقداً أبن حلال في طريقه أو يهدي حزباً ثورياً بالوقوف خلفه ويزكي مواقفه ويدفع به إلى واجهة الأحداث والمهرجانات، في لملمة خبيرة تتداخل فيها خيوط الإبداع والنضال والوطنية القادرة على إبراز الاسم وإخفاء العيوب، ليبقى ذلك من صكوك الغفران التي ستصاحبه حتى لو كف الشعر عنه أو كف هو عنه وتحول تاجراً لبيع اللحمة . والضحية هنا ( الشعر) أكثر من أي شيئاً آخر وسيبقى فقط مهنةً وقميصاً ولقباً وموقعاً أجتماعياً كعصا السلطة التي لا يمكن ولا يجوز التخلي عنها حتى الرمق الأخير. ولذلك كلما تراجع الإبداع الشعري كلما تم التركيز على التجربة الشخصية للشاعر وتكرار سرد الحوادث المرتبطة بالسجن والحرب والمنفى بمناسبة أو دون مناسبة، صدقاً أو كذباً على الرغم من معرفة الناس بعضهم لتاريخ بعض، في حالة دفاع مستميتة عن الذات أمام الأعداء المفترضين ودفاعاً عن المتحقق شعرياً. واجترار المعاناة سيصنع اسماً أو لقباً إلى حين وسيرفد قسم كبير منه ثقافتنا الشفهية عرفاناً لما قدمته لهم في خطواتهم الأولى لكنه وحده لن يصنع ثقافة، والمعاناة وحدها ليس شرطاً للإبداع . البيئة الشفاهية ستواجه مشاكل حقيقية عند احتكاكها بالكتابية ـ مع ما بينهما من تقارب ظاهري ـ وهذا ما نتلمسه في وقوفنا عند الكثير من الأسماء الشعرية المتداولة في الاجتماعات الحزبية والأمسيات والسهرات والحاضرة كأقوال ومأثورات ونوادر وحكايات مرتبطة بالحميمي والوجداني، سرعان ما سينطفئ بريقها لو سأل سائل عن حقيقة قصائدهم وعدد دواوينهم وتأثير ذلك على الوسط الثقافي العراقي، وسيكتشف دون عناء الثقافة وقد تحولت إلى حكايات يرويها المثقف عن نفسه وأصدقائه ومؤسسته. وهذا ليس بغريب على حياتنا الثقافية المولعة بالجميل والجديد كولعها بالنميمة والحسد واستطراف نحت الألقاب المبنية على حادث أو موقف ( شاعر الجياع، الهامشي الجميل، شاعر الفجيعة، شاعر الريس، صعلوك القوافي.. الخ) لكنها في الواقع( الشفاهية) ليست قادرة دوما على تبرير تلك الألقاب إبداعياً، عوضاً عن دورها السلبي في تنميط تلك الأسماء.

الثقافة الشفاهية خطاباً لا يخلو منه بلداً أو مجتمعاً لكنه بالعراق أتخذ طابعاً محملاً بالحالة الاستثنائية التي عاشها البلد بسبب حروبه الداخلية والخارجية التي امتدت أكثر من أربعين عام وفي غياب المؤسسات المدنية والحقوقية والسياسية وارتداده للقبيلة والطائفة المزحومتان بالكتمان والتقية والتأويل وهذه الثقافة المتربعة وسط ذاكرة الضحايا تحتوي السلبي والإيجابي، الفردي والجماعي من دون أن تتخلى عن ميلها وانحيازها . وتتحول الأحداث بعد وقوعها ومرورها بدورة مترابطة الآليات بين الراوي والسامع والألسنة الصاقلة، إلى مسلمات بديهية لا يكف الأبناء عن تناقلها ولا الألسن عن صقلها . فمثلاً الأمويون اللذين ساهموا كثيراً في بناء الحضارة العربية الإسلامية ودولتها وحكموا أكثر من مائتي عام، ارتكبوا أخطاء ( دفاعاً عن سلطتهم ) كحرق البيت الحرام بمكة وقتل أهل بيت الرسول بكربلاء، لتستمر الذاكرة العراقية في إعادة إنتاج تلك الأحداث المأساوية أربعة عشر قرناً نثراً وشعراً ورسماً، بحرارة واندفاع وكأن الأحداث جرت الليلة الماضية ولذلك من الطبيعي اليوم وجود حزباً سياسيا ً ارتبط تاريخه في مرحلة معينة بالنضال والشهادة، وأعضائه بالفقر والميل إلى القراءة والتعلم في بلد تسود الأمية نسبة كبيرة من شرائحه. ونجد الذاكرة الوطنية للثقافة الشفاهية تتغنى أعوام طوال بتلك الخصائص على الرغم من الأخطاء السياسية والمصائب الداخلية القاسية التي يتمتع بها ذلك التنظيم، وبقيت الذاكرة تحفظ لهم ذلك وإن اختلفت الظروف والموازين. وبعد سقوط دولة البعث على يد الاحتلال الأمريكي وحيرة العراقيين بين الظالم وبين الكافر، بين القمع وبين الوعود المعسولة التي أربكت البوصلة الوطنية وأدت إلى انشغال المواطن بهمومه فقط، تم تقسيم كعكة السلطة بين الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية ومُنحت وزارة الثقافة للحزب الشيوعي العراقي لامتلاكه ذلك التاريخ المشرف لأعضائه في بطولاتهم وثقافتهم المواجهة زمن القمع والديكتاتورية وليس لان الحزب يمتلك اليوم ثقافة حقيقية مؤثرة أو أسماء كبيرة كتلك التي ارتبطت به يوماً أو مشروعاً سياسياً مميزاً عن القوى السياسية الأخرى الصامتة أو الداعمة للاحتلال . وبنفس الأسلوب عُين الأستاذ نصير الجادرجي عضواً في مجلس الحكم الانتقالي بالعراق بسبب حفظ الذاكرة الوطنية لمواقف أبيه الراحل كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديموقراطي

وتسميتنا للأشياء بأسمائها ليست دعوة لليأس والعداء أو النيل من مكتسبات الثقافة العراقية في انطلاقتها الجديدة بعد رحيل الديكتاتور بقدر ما هي وقفة تأمل وسط القطعان الراكضة في كل الاتجاهات والمحاصرة بكثرة الأحزاب والجرائد والقنوات الفضائية والأنترنيت، وبحث المثقف المخزي عن قبيلة تسنده بعد إن كانت القبائل هي من تبحث عنه. وقفة إن لم تعيننا في وقف الانهيار الكارثي والسير عكس التيار فهي على الأقل ستساعدنا أن نفهم ما الذي لم تستطع ثقافتنا فعله وأن نخطو من جديد صوب تلك المرتبطة بالإبداع. ففي الأعوام الأخيرة شهدنا الفعاليات الثقافية العراقية وقد انشغل أغلبها بالسياسي والترفيهي والتأبيني في غياب صارخ للاحتفاء بالكتابة والإبداع، صاحب ذلك كلاماً خافتاً سمعه الجميع مفاده ( أننا نأتي الفعاليات للقاء الأصدقاء ليس إلا).

كون الشفاهية أغض واطرأ، وأهنأ وامرأ كما يقول الفراهيدي، تتوسع مساحة خيالها وتأثيرها كلما تسربت من الفرد إلى محيطه ثم المجتمع . فنجد(مثلا) جملة أطلقتها الذاكرة العراقية على وضعها الثقافي تقول ( مصر تكتب ولبنان تطبع والعراقي يقرأ ) وتناقلها الأبناء عن الأباء عقوداً طويلة على الرغم من عدم واقعية الجملة وتراجع مستويات القراءة والمتابعة باعتراف المؤسسات العراقية الرسمية وغير الرسمية، وانقطاع البلد عقوداً عن ما يدور حوله أدى إلى وضوح الأمية بكل أشكالها اللغوية والسياسية والثقافية وإلى تشوهات فكرية وجسدية مرعبة طالت الفرد العراقي تجلى في عبثه بحضارته وتاريخه وانشغاله بضرورات العيش وعزوفه عن غيره. وبقي العراقي كل تلك الأعوام منشغلاً في تأثيث عزلته برموز وأسرار صناعة الحبر وعجينة الورق ومعتقداً بصمت أنه الأكثر صدقاً ومعاناة ووعياً وأن مطبخه هو الأغنى والأكرم في جزيرة العرب رغم الحصار والفقر، وأن أغانيه هي الأعذب والأصدق حتى لو لم تكتب قصيدة حب واحدة في نصف قرن، وأن مروره بمحطات الترحال والمنافي ترك بصمة في ثقافتها، ولهجته الأفضل والأقرب للفصحى، ينسحب ذلك على الأزياء والعمارة والصناعة والزراعة وألوان الرز وطرق أعداد الشاي. انعكس على الثقافة المبدعة لنشهد عقوداً طويلة دون أن يظهر فيها اسماً عراقياً يشار له بالبنان على مستوى الثقافة العربية ولم تعلق لوحة فنية في متحف عالمي مشهور ولم يرشح اسماً أو عملاً لجائزة عالمية معروفة، وحتى لم نرى طباخاً عراقياً على شاشات التلفزة الفضائية، بل إن بعض المثقفين لم يغادروا مسقط رأسهم وغير معنيين بتسويق أعمالهم وتجدهم أشبه بالغرباء في أضواء المهرجانات الثقافية القليلة التي حضروها، لكننا ما زلنا نتجه إلى الداخل نتلذذ بعذاب عزلتنا ونتغنى بتلك الجملة المفرحة للمصريين والمربحة للبنانيين والمغيبة للعراقيين( مصر تكتب ولبنان تطبع والعراقي يقرا ) دون أن نعرف مصدرها على وجه الدقة مع أنها تصلح لبلدان أخرى كسوريا وفلسطين والسودان وغيرها. وكلما طال وقوف المثقف العراقي في الهامش وبانت الحصارات الغير معلنة ضده داخلياً وخارجياً كلما زاد انكماشه وارتحاله إلى الداخل، إلى بابل وسومر والعباسيين لتعويض ذلك الغياب . ونظرة سريعة على المنتج الثقافي سنجد أكثر من نصفه يتكئ على ذلك الموروث الغني وخصوصاً الرسم والنحت ( وبدرجة أقل النثر والشعر) إلى الحد الذي يكاد لا يخلو فيه نتاج من تلك المفردات والرموز، أشعرتنا نحن العراقيين أنفسنا بالملل والتلفت لكثرتها وتكرارها من دون إضافة أو إبداع وكأن الحياة خلت أو توقفت عن إنتاج الرموز والدلالات والمعاني، ليتحول ذلك التراث الغني من نبع حي إلى بركة راكدة وجاثمة في خلفية المشهد الثقافي العراقي.

حكايتنا المحاطة بالمرارة والأمل لم تصل نهايتها بعد لسببين أولهما أننا لم ندخل في تفاصيل التفاصيل ونحرك الثابت والمقدس في الذاكرة، والثاني أن رفضنا للشفاهية غالباً ما يقودنا إلى ممارستها. وما قيل دليل على ذلك فهو الآخر روي شفاهياً في مقهى.