المسيحيون فى مواجهة المسلمين فى مصر الحديثة

(1/3): صراع الأقباط من أجل المساواة على مدى قرن

عرض نبيل عبد الملك: تحت عنوان Christian Versus Muslims in Modern Egypt: The Century-Long Struggle for Coptic Equality, (ISBN 0-19—513868-6) ، صدر هذا الكتاب العام الحالي عن جامعة أكسفورد. وسناء حسنمصرية مسلمة عملت فى جريدة نيويورك تايمز، وهي الآن زميلة بمركز جامعة هارفرد لدراسات الشرق الأوسط. والواقع ان الباحثة ليست أول شخصية مصرية مسلمة تكتب عن الأقباط ووضعهم الإجتماعي - السياسي فى مصر الحديثة أو المعاصرة. فالدراسات العلمية لا تتطلب من المشتغلين بها إن ينتموا لدين ما أو لأي دين على الإطلاق، فباب العلوم مفتوح لكل المتخصصين والمهمومين بالقضايا الإنسانية. لذلك، ربما يتساءل المرء، فيقول: إذا كان الأمر كذلك، فيما يتعلق بعلمانية العلم، فلماذا نذكر ديانة الباحثة؟
أقول، أولاً لأن الباحثة نفسها ذكرتها فى السطور الأولى من بداية كتابها، لتبين كيف إستطاعت – وهي مسلمة – إختراق المجتمع الكنسي القبطي، الذى كان البحث فى شئونه – من الداخل - من قبيل المحظورات. كما بينت كيف تمكنت – وهى إمرأة - من إختراق المؤسسة الرهبانية التى تغلق بابها أمام العالم، وخاصة المرأة!
من هنا تتميز هذه الدراسة بفرادتها، وخصوصا باعتمادها على البحث الميداني الذى كانت من مصادره الأولى جمع آراء ومعلومات من القيادات القبطية الكنسية عبر مصر من شمالها إلى جنوبها، رصد أحوال الأقباط فى الواقع المعاش - وخاصة منذ أوائل السبعينات - والخوض فى تاريخهم عبر مائة عام، وإلى اليوم، ثم تحليل هذه المادة لتخرج لنا بصورة عن كيفية مواجهة الأقباط لأسلمة المجتمع والدولة فى مصر.
تتكون الدراسة من مقدمة وسبع أجزاء وخاتمة، بالإضافة إلى قائمة بمراجع مختارة وفهرس، تقع جميعها فى 320 صفحة.
تبدأ الباحثة مقدمة الكتاب باقرارها أنه: "بالرغم من أن المشاكل التى تواجهها الأقلية القبطية تعتبر من الأمور المحظورة عند غالبية المصريين، إلا أنه ليس هناك شك فى أن حال الأقباط قد أستمر فى التدهور، عبر النصف الثانى من القرن العشرين، عندما إنجذبت مصر بقوة للمدار الإسلامي". (ص 3)
وفى مواجهة هذا الوضع، ترى الكاتبة "أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أخذت على عاتقها دور دعم الصورة الذاتية للمسيحيين المصريين المسحوقين، ومدهم بالقيم والمهارات التى تساعدهم على النجاح إقتصاديا، على الرغم من التمييز (الذى حاق بهم). وتُعزي الكاتبة نجاح الكنيسة "فى قبول هذا التحدي، ومواجهة الخطر الناتج عن صعود التيار الإسلامي المتشدد فى السبعينات، إلى حركة الإصلاح المعروفة ] بحركة مدارس الأحد[ التى كان لها الفضل فى تشكيل جيلى الأربعينات والخمسينات من أقباط الطبقة المتوسطة، وهم من تولوا مشروع إحياء الثقافة القبطية ودعم مجتمعهم من خلال رفع المستويين التعليمي والإقتصادي. فمن خلال الكنيسة وجد الأقباط المتنفس الرئيسي لرغبتهم الإصلاحية، كما وجدوا فيها الملجأ الآمن، بعيداً سيطرة الدولة الإسلامية."
لقد تواكبت بداية ]حركة مدارس الأحد[، فى القرن التاسع عشر، مع حركة تحديث مصر نفسها. وتمثلت هذه الحركة بالنسبة للأقباط فى إسترجاع مجد كنيسة الأسكندرية وعلماءها العظام، مثل اوريجانوس وأكليمنضوس، ودور الكنيسة على المستوى المسكوني.
أما فى العصر الحديث، وخصوصا منذ بداية رئاسة البابا شنودة الثالث للكنيسة، فقد شهدت الحركة الرهبانية فى مصر نهضة كبيرة، تواصلت فيها خبرة رواد الرهبنة فى القرون المسيحية الأولى، بداية بتراث القديس أنطونيوس المصري، مع جموع المثقفين الأقباط ممن إنتظموا فى سلك الرهبنة. ومن هؤلاء خرجت قيادات قبطية دينية كان لها دور كبير فى حماية المجتمع القبطي، ومواجهة التحديات المفروضة عليه من الخارج، حتى السياسية منها.
وتفسر الكاتبة تلك النهضة، وأثارها الإصلاحية، التى شهدتها الكنيسة، وتحديدا إتساع وتشعب مسئوليات القيادات الدينية – خارج مجال عملها الرعوى التقليدي - لتشمل بعض الجوانب الإجتماعية، بل والسياسية، بوجود "ايديولوجية" أو مدرسة فكرية لم تنحصر داخل الكنيسة ذاتها، إنما تعدتها إلى البيت القبطي، والمدرسة القبطية، ومراكز الشباب القبطي (ص4).
على أنه يبدو لي أن فى هذا التقييم بعض المبالغة، إذ أن عمل الكنيسة القبطية الإقتصادي/التنموي محدود. والدليل على ذلك وجود آلاف من الشباب الجامعى الباحث عن عمل أو الهجرة من البلاد، بالإضافة إلى آلاف من الأقباط الذين إضطروا إلى الهجرة من مدن وقرى الصعيد إلى القاهرة. هذا بخلاف إستمرار هجرة الأقباط من كافة الطبقات إلى دول العالم خلال الأربعين عاما الماضية، بسبب سياسة الدولة التمييزية ضدهم، وتدهور الأوضاع الإقتصادية فى البلاد.
أما دور الكنيسة "السياسي" (وهو فى الواقع موقف أدبى لا أكثر ولا أقل)، فلم يتعد إتخاذ بعض مواقف الغضب أو الإحتجاج ضد إنتهاك الدولة لبعض حقوق الأقباط، وخاصة ما يتعلق منها بحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية.
والواقع أن الكنيسة لم تدّع يوما أنها تمثل الأقباط سياسيا، وهي ليست حزب، كما أنها ليست مؤهلة دستوريا أو علميا للقيام بهذا الدور. وحتى لو إفترضنا أن للكنيسة دور سياسي (فى المفهوم الشعبي المصرى) فمما لاشك فيه أن أوضاع الأقباط السيئة على المستوى السياسي اليوم تدل على أن مثل ذلك الدور غير فاعل.
الأكثر من ذلك أن دور الأقباط العلماني داخل المجالس القبطية الملية ليس له أثر فى حياة الأقباط، وخصوصا إذا ما قارناه بدور القيادات العلمانية داخل المجتمع القبطي ذاته، وفى الجتمع المصري بوجه عام قبل قيام ثورة 1952 .
ما أود قوله أن دور الكنيسة كان فى جزء أساسي منه هو ردة فعل على سياسة خطيرة إنتهجتها الدولة تجاه الأقباط، منذ بداية ثورة 1952 . وهى سياسة تتسم بالعنصرية الدينية قصيرة النظر، إزدادت حدتها بتولى السادات الحكم، لتؤدى فى النهاية الى إنقسام حاد فى ضمير المجتمع المصري. والواضح ان تلك السياسة لم تتغير بشكل جذرى فى عهد مبارك، لتحمى حقوق كل المصريين على أساس مبدأ المواطنة، بل على العكس، وبسبب فشل الدولة فى القيام بوظيفتها كحكم عادل، أضطر الأقباط، بشكل أو بآخر، إلى البحث عن مخرج من وضعهم المتأزم.
فإذا كانت الذاكرة الدينية للأقباط، وإعادة إنتاجها حديثا قد ساعدتهم "فى التكيف مع المصاعب ومواجهة التحديات الجديدة"، كما تقول الباحثة (ص10)، إلا انه من الواضح جداً انها لم تساعدهم على إختراق الحصار السياسي المفروض عليهم من قبل الدولة وقوى إجتماعية/سياسية، منعتهم من مزاولة حقوقهم الكاملة كمواطنين داخل المجتمع المصري على إتساعه.
وهذا ما أكدته الباحثة سناء حسن، فى نهاية هذه المقدمة، إذ عادت فتداركت مبالغتها فى تقييم سلطة وصلاحيات الأكليروس (رجال الدين) السياسية فى الواقع القبطي/المصري، وحل مشاكله، عندما قالت: "أن حركة الإصلاح الأرثوذكسي (القبطي) حاولت أن تُعلّم من كانوا يتسمون بالسلبية – بسبب إنتمائهم إلى أقلية مغبونة وخائفة - طرقاً فى التنظيم الإجتماعي والأقتصادي يمكن أن تنقلهم إلى العصر الحديث، فتمكنهم من المطالبة بمكانهم العادل فى الدولة". (ص 13).
وهذا ما يحتاج إليه الأقباط اليوم. وهو عمل لن يتم إلا بإصلاح شامل للدولة فى مصر، حيت يتمتع كل المصريين بكل الحقوق والحريات، ويؤدون معا نفس الواجبات التى تمليها عليهم وحدة المواطنة.

نبيل عبد الملك رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان