اهم ما في قصيدة النثر،انك تذهب الى مرآتك وحدك، ولسوف تنفضح طالما القصيدة مثلما يقول اكتافيو باث هي "قول ما لا يمكن التراجع عنه"، مدفوعا بايقاعك الخاص، منتزعا اداة التشبيه وناقلا ادواتك من التشبيه الى الاستعارة، ا لمنطقة الكبرى لحَمَلةِ المشاعل، الذاهبين بخلاياهم ككلاب الصيد الى البرية ليحيّوا المعافى في هذا العالم، ويستنكروا القبيح، رافعين ياقاتهم اشارةً للتحدي، لا قافية ولا وزن برسالةٍ خالدة،تحملها مضغوطا بجبروت الطغاة والمصفقين، انما من يضمن انك ذهبت بخيارك، طالما هناك قصائد تُكتب بقصدٍ يجعلها سهلةَ الترجمة للغات اخرى.
ومن حوادثنا اننا سنجفف ثياب غرقانا بقراءة تاريخ جاف، حسب اليس في بلاد العجائب،ممتثلين لمصيرنا في تتبع الاثر، وكان علينا ان نخفف من اثقال المجهول ونجري تعديلا علىالعتمة كي تكون مرئية باعتبارها شيئا اكثر من غياب الضوء،كما يشي بذلك جون ملتون.
سيكون هناك فرح غامر إثر كتابة النص، وعليك ان تقف جانبا لتصغي، كمن يهتف بإسمه ويقف جانبا للاصغاء لهتافه كما يفعل والت ويتمان فَرِحا بعشبه المشعشع،انه الهتاف غير المُصوّت، لكنه مسكون باصواته اللاحقه، ليس في الوادي انما على ارصفة العالم حيث الايقاعات والظلال والايدي الملوّحة وداعا او استقبالا وحقائب منفيين ينتظرون العودة قبل حلول المساء، ولان الظلام موحش تتسارع حركة الافكار لتستوعب العالم
والشاعر وحده من يسمو بحركة العشب ويقاربها بحركة النجوم، لكن الكلمات ستكون صعبة،حسب اليوت "ربما كانت الكلمات من اصعب وسائل الفن لان عليها ان تعبر في آن معا عن الجمال المنظور والجمال المسموع كما ان عليها ان تقوم بتوصيل العبارة النحويه".
ثم اليست"كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" إشادة بكثافة العبارة ودعوة لتفاعل وانفعال الكلمات للوصول الى القارئ حتى لو لم يتم الفهم، فا لمهم التوصيل والفهم متاح للقارئ على مر العصور، ولكن كيف يتم التوصيل دون فهم،هنا يقول طاغور بما معناه من يستطيع شرح وتفسير عطر الورده.
من ذا يبرر ان يكون الفهم مسبقا والتوصيل اعطيات سلطان لحاشية
ولعل التبرير هذا كان سببا لقتل السهروردي والحلاج،رغم وضوح الله في قصائدهما، الا ان الوصل بغيتهما وليس الفهم، كانا يعرفان ان الله يفهمهما ولا همّ ان لم يفهم السلطان ودفعا ثمن ذلك على يد من يدعو الى الله، وبالاصل يدعو الى طاعته هو بالسيف الموزون والقافية المتدحرجه كرؤوس قتلاه.
ولطالما افترق الفنان والسياسي على موعد ان يحلم السياسي قليلا ويجري اشراك الانسان في المقرر الانساني، كما عمل سوفوكليس في اشراك ممثلين ليخفف من وطأة الالهة في تدخلها في المصير الانساني.

ما ان استقر العراق سياسيا في بدايات القرن الماضي، حتى ظهرت اولى موجات التحرر في الميدان الادبي واستيعاب الابداع العا لمي كنتاج انساني، ولسنا هنا بحاجة للتذكير بدور بلاد الرافدين في رفد الحضارة العالميه بابداع العراقي في ملاحمه الغنائية وصراعه للتغلب فنيا على مصاعبه الارضيه بالصعود الى السماء والعودة منها بانصاف آ لهة يجادلون في الشان الانساني على مدارجهم المسرحيه ومعابدهم واسواقهم، لقد كانت حضارة مياه متلاطمه واطياف متعددة ورعاة يسوقون القدر الى مجاهلهم، وكان الاجدر تاريخيا ان يتطور هذا الابداع تصاعديا الى الراهن، لكن حدث الشقاق الاعظم بفعل هيمنة ثقافة الصحراء.فانمحت الشخصية العراقية، سليلة التنوع الحضاري، فكان المطلب ان نسترد هذه الشخصية.
لكن موجة التحرر هذه ترافقت مع طروحات سياسية تعطي الفرد مبررا وغطاءا وجوديا لا يستطيع التعبير عن كوامنه بدونها، ولعل المثال الابرز لروح الفرد المتأزم هو الشاعر بدر شاكر السياب الذي اراد ان يحرق المراحل كلها ويعصف بجسده الضئيل ليختصر اساطير الانسان والانهار والمياه في اناشيد اخذت به الى اسئلة لن نجد حلولها الا بممارسة الحرية وامتحان الذات بها كجمرة، فانت إ ن تذوقتها اثبت انك تملك جنونك الخاص وان لم تتذوقها فانت بانتظار من يتذوقها عنك ويسرق جنونك الشاعر.
لقد كان السياب ارتباكنا الاول وقد نتفق مع انسي الحاج او لا نتفق في قوله بشأن السياب (جاهلي بدوي فولكلوري خرافي انكلوسكسوني على واقعي هجاء ورثاء مداح بكاء يسيل به الشعر سيل قريحة فارطة ويسيل منه الشعر حتى الموت)، الا اننا نراهن على الشاعر المتمرد، كردة فعل على الهزات السياسيه، وكان حسين مردان، مثالا واضحا، بل اننا لا نتردد في مدح الشاعر حتى لو لم يكتب الشعر، فهو شاعري، الشاعرية اولا، إذ ثبت ان الجلا د يكتب الشعر ايضا.


تأخذ الشاعرية مكانها في مجالات عديدة بفعل طاقة الحلم الانساني، الم يكن كارل ماركس شاعر الفلسفة الذي عبره ومن خلاله تشعب الجدل الى بنى كانت مركونة كأدوات رعاة او صيادين عابرين من اجل استيعاب انسان العالم، الرائي والصانع، وفي الرواية يمكن اجمال رواية مدن لا مرئية على انها قصيدة المدن او جحيم هنري باربوس على انها قصيدة الثقوب النافذة الى اللذة وكذا الاقزام العمالقة لجزيلة السنر على انها قصيدة الشاردين في الواحهم.
هذه الشاعرية هي التي تمد الشاعر بادواته الخلاّقة وتسلب من الجلادين والطغاة الصغار امكانية ان يكونوا شعراء حتى لو وزنوها ذهبا.

د نمارك