بحثا عن كلبتنا نوسه

(1/2)

" اولئك الذين لم يبنوا بيتا
لايستحقون العودة الى التراب
ربما استحقوا العودة الى التبن او الى المزبلة..
وانا
لم ابن بيتا "
ماريا ستفانيفيا

مدينة كركوك بركان يبحث عن فوهته. تشيح بوجهها عن القادمين من الجهات المختلفة، وتسير حافية بين الالغام المزروعة داخل روحها، فيما الحيوات التى تسكنها مدججة بالانتظار، لكن اي انتظار؟
قبل عامين، من ساحة مولوي في السليمانية، قدمت ورقة طلاقي مع الواجهات، وقد كتبت عليها نذرا غريبا: "بعد ان يسقط نظام صدام، سا فرغ بندقيتى من اطلاقاتها، وابول عليها، ثم انحدر الى الشوارع الخلفية، بحثا عن كلبتنا : نوسه". وها انى في كركوك من اجل ذلك، غير عابئ بمتطلبات حياتى الاخرى، مادام اشاوس ما بعد صدام، على اختلاف تجلياتهم، لايسكن هواجسهم سوى الخوف من اي طالب حق او باطل، صعدوا باسمه الى العرش السماوى الاعلى، فاصدروا قوانين الطوارئ، بدلا من قوانين الانعاش والتاهيل واعادة البناء، وعلى طريقة: "لا انطيك ولا اخليك اتجدي"
ومن يدري، قد يكون البحث عن مصير كلبة مفتاحا لدر الدولارات الى جيوبي الفارغة، سيما من قبل منظمات حقوق الحيوان، بعد ان اثبتت منظماتنا العراقية لحقوق الإنسان، والمنظمات المتناسلة عن الاحزاب الدينية والعلمانية، وتلك التى رفعت شعارات المجتمع المدنى، بعد ان اثبتت كل تلك المنظمات ان دورها يقتصر على تاجير البنايات الوهمية، وصرف الرواتب الى ذوي القربي، ممن يلوذون بتلك المنظمات، كطريقة جديدة لأكل العيش وتبييض التاريخ الشخصي، ولمّ المحصول من تجارة المقابر الجماعية، وهلم جرا، لكل مايشمل مخلفات ابن العوجة، طيب الذكر او سيئه، وما الفرق؟
ما الفرق حقا، مادامت المقابر الجماعية والانفالات وتجفيف الاهوار والسجون التحت ارضية، قد تحولت مصدرا للرزق، كضربات إعلامية مؤثرة، خلقت جيلا من الاعلاميين والسياسيين، لايختلف عن جيل المؤسسة البعثية، الا بتغيير الاقنعة، على غرار ما فعل كاكه محمود، الذي كان يغنى كثيرا: "الله يخلى الريس الله ايطول عمره" فاستبدل اسم بريمر بدلا من الريس، بعد التحرير، فصارت اغنيته تقول: "الله ايخلى بريمر، الله ايطول عمره" وليس ثمة "شتان" بين الاغنيتين، مادامت السماء، مع هذه الأغنية أو تلك، تمطر دنانير ودولارات.

نوسه" كلبة سوداء، التقطتها من قرية " باي حسن " التى تقع شمال غربي كركوك، وانا اعالج قطيعا من الاغنام ابتلع كمية كبيرة من النفط، الذي تركته حكومة ابن العوجة، يسيح في البراري والوديان المنتشرة هناك، ايام الحصار، اثناء ادامة بعض المعدات والانابيب النفطية المنتشرة في ذلك المكان. وكان لابد، في رحلة البحث عنها، من المرور بمسقط راسها هناك، حيث المشهد الحاضر يختلف كليا عما تركته قبل عشرة اعوام تقريبا، فقد تحولت الثكنات والمعسكرات الممتدة على طول طريق قضاء " الدبس " الى مجمعات سكنية بدائية، تتكون من عدد لا يحصى من البيوت المتناثرة والقريبة البعيدة عن بعضها، وهي اول علامة من علامات تحولنا الى المجتمع المدني، لكن على الطريقة الكردية المفخخة بالموبايل والديناميت! فالمساكن التى شيدها الاكراد "النازحون" من المدن والقصبات البعيدة، مبنية من الصخر والطابوق والحصى والصفائح المعدنية ( الجينكو) وهي المواد الاولية التى كانت تلك الثكنات مبنية منها، بعد ان تم نهب وتصفية محتوياتها فتحولت -هي الاخرى - الى خردة في اسواق ايران، في عمليات تهريب منظمة ونشطة، طالت جميع البنية التحتية للبلد، من بغداد حتى زاخو..
تهريب البنية التحتية لبلد الناس من قبل نفس الناس، لاتشفع له الشعارات المكتوبة على صفحات الجرائد او الحيطان، خصوصا اذا كان مصحوبا بقوة السلاح، وكتم الانفاس، وما حصل بعد سقوط صدام يعد عارا عراقيا تتحمله المعارضة العراقية بكل الوانها البراقة، والقوات الاميركية، وكوكبة "المناضلين" القادمين معها، وهو موضوع سوف نلاحقه في تقرير لاحق ان بقيت هذه الرقبة مكانها !!
.
الصديق ازاد - وهو كردي متنور - الذي اقلنى في رحلة البحث عن نوسه، اخبرنى ان هذه العوائل قد هبطت من الجبال والمدن الكردية البعيدة، بناءا على خطة اعدها الحزبان الكرديان المعروفان "البارتي واليكتى" تقوم على اساس الحق التاريخي للكرد في كركوك، وهو ان صح، لايختلف عن منطق صدام حسين في تبرير غزوه للكويت، البلد العربي الحليف للاكراد الان، وتلك مفارقة مضحكة، في ايامنا السود هذه. العوائل لم تكتف بالاستيلاء على الارض، وتشييد المبانى، بدون رخصة من جهة رسمية ما، وانما مدت اذرعها الى المبانى العسكرية القريبة منها، اذ لفت انتباهي ان جميع الجدران في الثكنة، قد كتب عليها باللغة الكردية كلمة ( جيراوه ) وتعنى : محجوز. وقد ضحك صاحبي عندما سالته عن معناها قائلا : "ان هذه الكلمة - جيراوه - هي اكثر مفردة كردية استخدمت من 9نيسان لحد الان، اذ لايخلو منها جدار مبنى، حتى لو كان مرحاضا،حتى ان البعض، في الشوارع الخلفية، اعتقدها حزبا ما، من تلك الاحزاب التى باضتها الاحزاب السياسية المعروفة، والتى لاتختلف عن تلك الاحزاب والمنظمات والهيئات، التى باضتها الاحزاب الاسلامية، في وسط وجنوب العراق، وهكذا يبدوان ما ينفص حياتنا هو تفريخ وصناعة الاحزاب، لاغير تفريخ الاحزاب وصناعة المنظمات المدنية والارهابية في العراق، ولد من حاضنة كردستان، من حاضنة المنطقة الامنة، وهي تجربة خليقة بالتامل، ولايعنى ان كاتب السطور بالضد منها، فهى مرحلة ضرورية لابد من المرور بها، سيما ونحن شعب يفتقد الى تقاليد ديمقراطية راسخة في حياته السياسية المدنية، ولذلك فانا اعتبر - بتواضع تجربتى - ان كردستان كانت مكانا تجريبيا للديمقراطية، سوى ان اخوتنا الاكراد لم ينتفعوا بهفواته، وهي هفوات يتداخل بها العمل والفكر، ومن يعمل يخطىء ويصيب، واننى لأخشى، اسوة باصدقائى في الشوارع الخلفية، ان تكون مسالة تكريد كركوك هي امتداد لتلك الهفوات..

المسألة، مسألة تكريد كركوك، لايبدو انها تقتصر علىغض النظر عن التجاوزات على الارض، بل وابداء التسهيلات بالبناء، مع العلم ان هناك ثمة من يقول، في الشوارع الخلفية للمدينة : ان مساعدات مادية تصل الى مبلغ 200دولار تدفع شهريا لبعض هذه العوائل، كخطوة تشجيعية لجذب عدد اكبر من العوائل الكردية الاخرى، ناهيك عن تسهيلات النقل الوظيفي، او التعيين داخل دوائر الدولة، حيث تكفل اقليم كردستان بحكومته - او حكومتيه - بتوظيف عدد كبير من العاطلين عن العمل من الموالين لقضية التكريد، في اربيل والسليمانية او دهوك، ومن ثم يتم نقل هؤلاء الموالين الى كركوك، يشجعهم على ذلك ان ادارة المدينة كردية بنسبة كبيرة، وهي مشكلة المشاكل في الوقت الحاضر، اذ كان من المقرران تكون ادارة المدينة موزعة بين مختلف القوميات التى تقطن فيها.
ذلك ان مسؤول الادارة المدنية السابق، قدم اقتراحا بتقاسم مسؤوليات ادارة اجهزة الدولة في كركوك، بين العرب والاكراد والتركمان، عن طريق القرعة، وفعلا تم ذلك، لكن نتائج القرعة لم تكن مرضية بالنسبة الى الاكراد، اذ حصل العرب نتيجتهاعلى حق ادارة دوائر الشرطة والامن والتجارة، وبعض الدوائر المهمة، فاعترض الاكراد على تلك النتائج، بالرغم - اكرر مرة اخرى – من ان طريقة القرعة كانت مقترحا اميركيا اصلا. هكذا خرج العرب و بعض التركمان من المولد بلا حمص، فاللاعب الكردي لاعب مجرب لدى قوات التحالف..!
ثمة مداخلات اخرى في هذا الشأن، سوف نأتى عليها في تقارير لاحقة، لذا من المهم ان اشير الى ان بناء التجمعات الكردية الجديدة لم يتوقف عند المعسكرات او الثكنات المهجورة، بل تعداها ليشمل مساحات من الارض كانت مخصصة لان تكون حدائق او متنزهات، لكن يبدو ان قربها من المحلات والمناطق الكردية قد شجع الكثير من العوائل على تشييد منازلهم الجديدة فيها،كما يحصل الان في منطقة ( رحيم آوه ) و( البارود خانه ) القديمة، وسواها من المناطق الكردية المتوزعة في شمال المدينة، حيث انبثقت احياء سكنية جديدة.
ظاهرة التجاوزعلى الاراضي والمساكن والبنايات العامة، وان كانت لم تقتصر على مدينة ما، في عراق مابعد صدام، الا انها في كركوك تتخذ طابعا شبه منظم، فهناك من يقول : ان مديرية بلدية كركوك قد سمحت لـ " النازحين " الاكراد بالاستيلاء على بعض الاراضى التابعه لدائرتها، بشكل غير مباشر، وان جهة حزبية كردية تدفع لهؤلاء المتجاوزين مبلغ قدره 3300دولار، كقرض او مساعدة في دعم هذا المشروع الرائد!
من تداعيات هذا الامر ان المدينة باتت مكتظة بشكل غير معهود، بل وارتفعت ايجارات البيوت الى الذروة، حتى وصلت الى النصف مليون دينار شهريا في بعض المناطق، فيما اخذت بعض العوائل العربية ببيع ممتلكاتها، والهجرة الى ارض العراق الواسعة، على خلفية حروب اهلية متفرقة تمركزت في حي العروبة تقريبا، الصيف الماضي، وهو حي عربي يقع شرق المدينة، لايزال اخوتنا سواق التاكسي الاكراد يتجنبون المرور فيه، فيما اطلق على" حي النداء" العربي، الواقع في اطراف كركوك الجنوبية اسم: "حي الشيشان" في اشارة الى كونه يضم عناصر مشاكسة او موالية للنظام السابق.

من مظاهر حملة تكريد كركوك ايضا: التضييق في ايجاد فرص عمل للعرب، سيما عن طريق العقود المؤقتة مع الدوائر بشكل عام، وخاصة في تلك الدوائر التى يديرها مواطنون اكراد من منتسبي الحزبين الكبيرين، وهي دوائر الخدمات كالصحة والبلدية والبلديات والشركة العامة للمواد الغذائية، فيما وبالمقابل يتم تشغيل الالاف "النازحين"
من تداعيات هذا الامر ان المدينة باتت مكتظة بالسكان، و بشكل غير معهود، بل وارتفعت ايجارات البيوت الى الذروة، حتى وصلت الى النصف مليون دينار شهريا في بعض المناطق، فيما اخذت بعض العوائل العربية ببيع ممتلكاتها، والهجرة الى ارض العراق الواسعة، على خلفية حروب اهلية متفرقة تمركزت في حي العروبة تقريبا، الصيف الماضي، وهو حي عربي يقع شرق المدينة، لايزال اخوتنا سواق التاكسي الاكراد يتجنبون المرور فيه، فيما اطلق على" حي النداء" العربي، الواقع في اطراف كركوك الجنوبية اسم: "حي الشيشان " في اشارة الى كونه يضم عناصر مشاكسة او موالية للنظام السابق، فيما اطلق العرب قاطنى منطقة 1 حزيران على منطقتهم لقب " المنسية " لانها معفية تماما من الخدمات كافة، وليس اقلها الماء الذي يستقبل بالهلاهل ان خر من الحنفية، بالرغم من عدم صلاحيته للشرب. اننا هنا في ما يشبه حرب الالقاب، فالاكراد يطلقون على نفس هذه المنطقة " الفلوجة " في اشارة الى حملات التفتيش والمداهمات التى تقوم بها القوات الاميركية للمنطقة. الطريف ان الاكراد الذين اشتروا مساكن في تلك المنطقة من العرب، بدأوا يتذمرون من تلك المداهمات، ومن سوء الخدمات التى تقدمها ادارة المدينة، والتى ضاع علينا خيط مرجعيتها الادارية، كما ضاع عليهم، فلم نعد نعرف ان كانت هذه الادارة تابعة للحكومة المركزية في بغداد، او لتلك التى في اقليم كردستان..


بيع الممتلكات، وان كان لم ياخذ شكله القانونى بعد، الا ان هناك اشاعة رائجة في المدينة مفادها : ان دائرة التسجيل العقاري ترفض ترويج المعاملات، للاشخاص الذين هم غيرمسجلين في تعداد عام 1957، وكأن الاكراد انتزعوا من مجلس الحكم قرار الغاء صدام الجائر ذاك، فيما يخص بغداد، وهم في صدد تطبيقه في كركوك، بل ان هناك من يؤكد ان دائرة النفوس ودائرة التسجيل العقاري مطالبتان بتقديم جرد عن العوائل العربية، وبممتلكاتها الى ادارتى اقليم كردستان، وهي اشاعة تنذر بالشر..


من جانب اخر فان ارتفاع الاسعار لم يقتصر على الايجارات، بل تعداه الى المواد الغذائية، واصحابنا- في الشوارع الخلفية - كشفوا لنا بعض اسرار هذه الظاهرة، اذ تبين ان نشاط التهريب، بعد ان نفدت قطرات ماء القليلة الباقية في صحن البلد، قد بدأ يشمل مجالات اخرى حتى وصل الى نقل المواد الغذائية المطروحة في اسواق كركوك الى المدن الكردية الحدودية، ومن ثم تهريبها الى ايران. نتيجة ذلك يصل سعر كيس الحليب الى 1000دينار احيانا، فيما سعره الحقيقي هو 250دينار.

عندما نبح كلب ما، وقفز علينا من احد" الكابينات المحتلة " وضحك عندما اخبرته انها سوداء، لكنه علق بظرف : " بعد التحرير، حدث سلب ونهب لكل شىء، ولما كانت التبريرات المطروحة لكل هذه الاعمال تقول : ان المواطنين يجدون في دوائر الدولة رموزا للقمع وللظلم، فانقضوا عليها كالجراد، وجدت نفسي حائرا امام احدهم وقد سرق سيارة الحريق الحمراء اللون، فتساءلت : وما علاقة سيارة اطفاء الحريق بالاضطهاد، وتبدد تساؤلي لينقلب الى دموع وضحكات، حين مرت السيارة امامي، وعلى متنها عدد من الاشاوس، كانوا قد كتبوا على جانبيها بطلاء ابيض: "الحزب الشيوعي العراقي"، وطبعا لم يكن ثمة شيوعي قد دخل كركوك في تلك الايام، حسب الاتفاق المبرم مع قوات التحالف، حيث تضمن دخول بيشمركه الحزبين الكرديين المعروفين فقط.. اما الان، وقد تبين ان لون كلبتك أسود، فاحتمالات وجودها حية او ميتة لاتخرج عن علاقة اللون الاسود برايات الاحزاب، فكن شاطرا، وابحث عنها ضمن هذه العلاقة.."
بعض " النازحين " الاكراد اصطحبوا معهم حيواناتهم الاليفة : الكلاب والمواشى، وتركوها ترعى على هواها في برية مفتوحة، فهي مصدر رزقهم الأساسي في تلك الأنحاء، التى انحدروا منها صوب مدينة الذهب الاسود، التى لن يعطيها الاميركان لاحد ما، كرديا كان او عربيا او تركمانيا، مهما كانت الحجج التاريخية أو الديموغرافية. ولم يتوقف اصطحاب تلك الحيوانات على قاطنى المعسكرات والثكنات في خارج المدينة، بل تعداه الى الاحياء والازقة المعروفة، ففي حي السكك، القريب من حي الرشيد، اشتكى احد الاطباء التركمان من جيرانه الجدد الذين اشتروا مسكن جاره السابق: "كان جاري الاول عربي، مولع بتربية الابقار، وكنت اشعر بالضيق من المعلف الذي شيده قريبا من حديقتى، وكنت دائم الشكوى والتذمر من فضلات تلك الحيوانات المتروكة كيف ما شاءت ارادتها، حتى جاء اليوم الذي اتسع فيه قلبي مرحا، وهو يبيع مسكنه ويرحل، ليسكن بجانبي جيرانى هؤلاء، الذين اصطحبوا ماعزهم الجبلي، والذي لم يتورع، هو الاخر، عن القفز الى حديقتى، واكل حشائشها وتخريبها : استاد انا في ورطة، ماذا افعل".