عودة "مالفا مارينا نيرودا" إلى الحياة بعد 70 عاماً من رحيلها

للوهلة الأولى، يبدو هذا التحقيق الذي نشر مؤخراً في اللغة الأسبانية، وترجمته العديد من الصحف والجرائد في أوربا بمناسبة المئوية الأولى لولادة الشاعر التشيلي الشهير "بابلو نيرودا" مثيراً، أقول يبدو لأنه يزعم الكشف عن واحد من الأسرار المدهشة في حياة الشاعر الكبير والحاصل على جائزة نوبل للآداب في العام 1971، ألا وهو سر تخليه عن طفلته الأولى "مالفا مارينا" بسبب إصابتها وهي طفلة بأحد الأمراض التي لا شفاء منها، قام بكتابة التحقيق باحثين متخصصين في شعر وحياة بابلو نيرودا، وهما الكاتبة والصحافية التشيلية "إيزابيل ليبساي – Isabel Lipthay"، والكاتب التشيلي "أنطونيو رينالدوس – Antonio Reynaldos"، والحقيقة أن ما حاول الباحثان التأكيد عليه طوال دراستهما من أن العثور على ابنة لبابلو نيرودا في الذكرى المئوية الأولى لمولده يعد اكتشافاً مثيراً وجديداً، ربما سيدفع البعض إلى إعادة قراءة منجزه الشعري والأدبي من خلال نظرة إنسانية جديدة، ما هو إلا سر معروف من قبل، ففي السيرة الذاتية التي كتبها نيرودا تحت عنوان "اعترف بأنني قد عشت"، والتي نقلها إلى العربية الدكتور "محمود صبح" عن الفرنسية، وصدرت أوائل سبعينيات القرن الماضي عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، هناك أكثر من إشارة على لسان بابلو نيرودا نفسه إلى ابنته هذه، وظروف مرضها الذي ماتت على إثره بعد ذلك، صحيح أن هذه الإشارات تأتي سريعة وخاطفة، وكأن الشاعر يحاول جاهداً أن يهرب من الآلام التي تسببها له هذه الذكريات، إلا أنها موجودة ونستطيع تلمسها بوضوح، وفي الثبت التاريخي الذي تختتم به هذه السيرة، هناك أكثر من إشارة إلى قصة هذه الطفلة، وربما يكون الإنجاز الحقيقي الذي توصل إليه الباحثين، هو عثورهما على مقبرة الطفلة في مدينة "جودا" الهولندية، بعد أكثر من 70 عاماً على رحيلها.

إيزابيل ليبساي

صحيح أنه لا يستطرد كثيراً في ذكرياته عن ابنته الأولى "مالفا مارينا" وظروف موتها وحيدة بعيدة عنه وعن أمها، إلا أننا لا نعدم العديد من الإشارات هنا أو هناك حول الطفلة ومعاناتها، فبعد اندلاع الحرب الأهلية في أسبانيا في العام 1936 ينفصل نيرودا عن زوجته الأولى وأم طفلته "ماريا أنطوانيتا هاخينار – Maria Antoneta Hagenaar"، أو بالأحرى هي التي قررت الانفصال عنه، بعدما أصبح نيرودا منشغلاً عنها وعن ابنته الصغيرة بظروف الحرب الأهلية وقصائده ونضاله السياسي، خاصة بعد اغتيال صديقه المقرب الشاعر الشهير "غارثيا لوركا"، وانخراط نيرودا في تنظيم الشباب والمثقفين للوقوف في وجه الفاشيست، وكأنه يهرب بهذه الأفعال من مرض ابنته واغتيال صديقه الوحيد، ورحلت الأم إلى هولندا حيث تركت طفلتها التي أصيبت بمرض "مياه الرأس – Hydrocephalus" لدى إحدى العائلات بمدينة "خودا – Gouda" الهولندية، وهو المرض الذي توفت على إثره الطفلة بين عامي 1942 و1943 وهي في عمر ثمانية أعوام، فالطفلة التي ولدت في العام 1934 في مدريد، أصيبت بهذا المرض عندما بلغت العامين من عمرها القصير، في ذلك الوقت وبعد اكتشاف مرض ابنتها قررت الزوجة الرحيل من أسبانيا إلى هولندا، والتي وصلتا إليها أوائل العام 1936.

يحاول الباحثين اللذين قاما بكتابة التحقيق، وخاصة "إزابيل ليبساي" الكاتبة والصحافية التي نفيت في العام 1983 إلى ألمانيا، ونشرت هناك مجموعتين قصصيتين، تصوير مدى نذالة بابلو نيرودا لتخليه عن زوجته وابنته المريضة في هذه السن الصغيرة، وأنه أسدل خلف رحيلهما ستاراً حديدياً من النسيان وكأنه استراح من عبئ المسئولية التي كان يشعر بها بسبب مرض ابنته، يقول الباحثان في دراستهما التي ترجمت مؤخراً إلى اللغة الهولندية: "نحن لا نلمح أي ذكر للأم والطفلة في كتابات نيرودا اللاحقة على تاريخ رحيلهما إلى هولندا، وكأنه قرر نسيانهما تماماً ومحوهما من حياته وكأنهما لم يوجدا فيها"، وعلى رغم هذا التأكيد القاطع، إلا أن دراسة الباحثين لم تخلو من التناقض، حيث يوردان إشارات واضحة وصريحة في قصائد نيرودا إلى معاناة طفلته مع المرض، وخاصة في ديوانه الرابع والموسوم "إقامة في الأرض" حيث يجدان أربع قصائد حزينة تتناول مرض الطفلة "مالفا مارينا"، وهي قصائد: "الأمومة"، "نشيد النواح"، "كآبة في العائلة" و"مرض في بيتي"، وخاصة في القصيدة الأخيرة والتي يتضح فيها أكثر من غيرها تأثير مأساة هذا المرض على نيرودا، ويبدو أن التعجل في نشر دراستهما لتواكب ذكرى المئوية الأولى لولادة نيرودا هي التي تسببت في هذا التناقض، كما يورد الباحثين خطاباً موجهاً من الشاعر الأسباني "فيديركو غارثيا لوركا" قبيل مقتله في 18 يونيو عام 1936 إلى صديقه نيرودا، يحمل نصاً شعرياً للوركا بعنوان "آياتي عن مالفا مارينا نيرودا"، وحتى وقت قريب كان هذه الخطاب مجهولاً، حتى تم اكتشافه ونشره في العام 1984، كما يورد الباحثين نصاً لرسالة مجهولة وردت من نيرودا إلى والده في العام 1934 يقول فيها عقب مولد الطفلة: "يبدو أن الطفلة ولدت قبل موعدها، نجاهد كي لا تموت، ولدت وهي لا تحمل من الوزن سوى 2 كيلو و400 جرام، لكنها جميلة كدمية طفل صغيرة، هي لم تشف بعد، لكنني أستطيع الجزم بأن أسوأ فترة قد تخطيناها، وسوف تشهد الأيام القليلة القادمة كيف ستكبر وتصبح بدينة"، وفي كتابه الموسوم "نيرودا" يورد الناقد "فولوديا تايتلبيوم - Volodia Teitelboim" صديق نيرودا المقرب مقتطفاً للكاتب "لوي انريكي ديلانو – Louis Enrique Delano" يصف فيه طفلة نيرودا قائلاً: "أتذكرها جيداً، كانت طفلة ذات بشرة شاحبة، شعرها غامق وعيونها داكنة مثل نيرودا، تنظر على الدوام بعيون جاحظة كأنها تريد التعبير عن آلامها التي بداخلها".

في العام 1939، وبعدما نظم بابلو نيرودا هروب ألاف الأسبانيين من فرنسا إلى تشيلي، سافر هو إلى المكسيك، من دون أن يعلم شيئاً عن طفلته الوحيدة، وقتها كانت تبلغ من العمر خمسة أعوام، تربت خلالها في كنف أسرة "هنريك يولسينج" وزوجته "خيردينا سيركيس" في هولندا، كان لدى الزوجان ثلاثة أطفال يقاربون "مالفا مارينا" العمر، وهم: "هايكه، خيشا، وفريدرك"، وليس معروفاً هل بقى أحد من هذه الأسرة على قيد الحياة الآن أم لا، في حين اختفت الأم تماماً، وعلى الرغم من تحامل الدارسين على بابلو نيرودا بوصفه الأب الذي أهمل طفلته المريضة، إلا أنهما لا يشيران إلى إهمال الأم بأي صورة من الصور، ولا يبحثان عن السر الذي دفعها إلى ترك ابنتها لدى عائلة غريبة عنها واختفائها المثير بعد ذلك، وفي أواخر العام 1942 تصل رسالة من هولندا إلى نيرودا في المكسيك، تخبره فيها الزوجة بموت ابنتهما (لا يوضح الباحثين كيف علمت الأم بعنوان نيرودا في المكسيك، أو كيف علمت أصلاً أنه رحل إلى المكسيك)، وقتها كان نيرودا يستعد للزواج من امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً كان قد التقي بها في مدريد وهي “Delia Del Carril” الرسامة الأرجنتينية والتي كان نيرودا يدعوها "ماروكا"، وهي المرأة التي أثرت بشدة في روح نيرودا العقائدية وجعلته ينحو منحى جديداً في حياته وقصائده بعد ذلك.

وثيقة سفر نيرودا

[email protected]