من روما: أصبحت مدينة مانتوفا الإيطالية الشمالية العريقة واحدة من اشهر المدن الأوربية التي تستضيف مهرجان الرسم على الرصيف والذي يطلق عليه اسم ( المادوناري) نسبة الى مريم العذراء، والذي تأسس سنة 1973 وشارك هذا العام به اكثر من مئتي فنان من 45 بلدا. انه سحر ديني ملون يحمل الرموز والكتل الإنسانية بحركاتها وملامحها وينتشر في معظم أرصفة المدن الأوربية إضافة الى سان ديغو وسانتا باربرا في الولايات المتحدة، اذ ان هذه اللوحات الطبشورية الناصعة الالوان، تعد طريقة جديدة لاستدراج المارة الى المشاركة في هذا الكشف اللوني الذي يفرض نفسه على الإسفلت الأسود من اجل حيازة لقمة العيش التي أصبحت اكثر صعوبة للعديد من الفنانين الشباب.
والمشاركة بهذا المعرض الكبير الذي تقدمه بلدية هذه المدينة ويمتد الى مساحات كبيرة من الإسفلت تقسم مساحته على شكل مستطيلات ما بين مترين الى ثلاثة أمتار ونصف لكل فنان مشارك، ويشترط بالمشارك دفع مبلغ عشرة دولارات في بدايات شهر آب( أغسطس) الجاري لاجل حجز المكان وتسجيل اسمه وعنوانه وجنسيته في سجلات المستشارية الثقافية لبلدية المدينة التاريخية، تحدد له المساحة ورقم المكان، وتمنح له فرصة ثلاثة أيام لإنجاز لوحته، بعد عملية الإنجاز الجماعي، تقوم لجنة خاصة تضم عدد من الفنانين المحترفين والمصممين واصحاب الكالريات الفنية المشهورة وعدد من المهندسين المعماريين لتحدد الفائز الأول والثاني والثالث حيث تقيم بلدية المدينة مهرجانا احتفاليا خاصا تمنح من خلاله جوائز مادية وتقديرية للفائزين الذين تسجل أسمائهم في سجل التشريفات الخاص بالمدينة.
ومع ان اغلب الفنانين المشاركين في هذه الفعالية اعتادوا ومنذ سنوات على رسم الموضوعات الدينية، الا ان السنوات الأخيرة شهدت تحولا عند الكثير من المشاركين برسم لوحات تعود للعديد من الفنانين المعاصرين.
ان هذا السحر الجميل يجعل الناس تحاذر وتقفز وهي تمشي على ما خصص لها من مساحة في مدن الزحام كي لا تؤذي هذه الأشكال الدرامية ذات الغبطة اللونية، وقد اعتاد ناس هذه المدن الكبيرة مثل روما وميلانو وبروكسل وباريس وامستردام ان يخلقوا علاقة حميمية مع هذه الظاهرة التي تطرح نفسها على أرصفة شوراعهم وساحاتهم الرئيسية، يناقشون الفنان ويبدون ملاحظاتهم ويثيرون الجدل مع بعضهم البعض، وبالتالي يمدون يد العون لهؤلاء الشباب الذين يجندون كل جهدهم للنفاذ الى أعماق اللوحة الأصلية التي يستنسخونها والتي غالبا ما تكون لاحد فناني عصر النهضة الإيطالية.
ان هذه المركبات البصرية ذات الألوان الحارة تبدو وكأنها شاشات مضغوطة من كل الجوانب ومرمية على سطح الأرض تجذب فضول الرؤية العمودية، فهي لا تخلو من تحريك للقدرات الإبداعية لمن ينفذها حتى وان كانت تمثل نقلا حرفيا محكم التماثل مع اللوحة الأصلية.
ويتمتع هؤلاء الرسامون الذين يبدون وكأنهم قد تخصصوا بهذا النشاط بحساسية الاختبار وضبط الهارمونية الإيقاعية للسطح المنبسط إضافة الى قدرتهم على دراسة التشريح للجسد الإنساني، والذي يعتبر الممر الأساسي لإظهار تركيب اللوحة بكل تفاصيلها، ولضبط حركة المنظور، والإلمام بكل التعابير التفصيلية التي يلعب بها الشكل الإنساني الدور الأساسي. يستخدمون الألوان الطبشورية ذات المرونة العالية في الامتزاج والمطاوعة في ترويض سطح الإسفلت الخشن وإخضاعه للاحتياجات التعبيرية المطلوبة.
وهذه الألوان تتمتع بميزة أخرى، فبالإضافة الى رخصها فهي تمتلك القدرة على التراكم اللوني للحد الذي تتيح للرسام إمكانية إجراء التغييرات والتعديلات حتى يصل الى القناعة في امتلاك التشابه مع النموذج والذي يكون عادة من اللوحات المألوفة والشهيرة لفنانين مشهورين مثل روفائيل وكارافاجو وفيلاسكيس وتيتيان، وميخائيل انجلو وجورجوني ورامبرنت وعشرات غيرهم.
ويلاحظ ان اغلب من يمارس هذه العملية الفنية، يضيف شيئا من الألوان المشرقة على سطح لوحته المنسوخة لتكون من القوة في إظهار التأثيرات باتجاهاتها الدرامية ولاجل ان يخلق بذلك التأثيرات الساطعة على العين المشاهدة وبالسرعة المطلوبة، بل ان بعض هؤلاء الفنانين يخالف الألوان التي تحملها اللوحة الأصلية، فيعمد الى رسم الأشكال والحركات المطلوبة بألوان مختلفة كليا تعتمد على التضاد في وضع مادة التلوين التألقي الحاد، وكذلك إضافة بعض اللمسات الزخرفية اللونية التي من شأنها ان تستوقف المارة.
في بعض الأحيان يكون عمل هؤلاء جماعيا، اذ بعد عملية تخطيط الشكل التي تتم عادة بالطبشور الأبيض ، يبدأ بتنفيذ اللوحة اثنان او ثلاثة اذا كانت مساحة التنفيذ كبيرة ، وقد تصل بعض الأحيان الى اكثر من ثلاثة أمتار مربعة، ويتم عادة تحديد المساحة الكلية باستخدام طريقة المربعات لضبط بناء الكتلة بدون أخطاء محرجة ، وفي الغالب يكون الإنجاز من جهد فنان واحد يستمر به ليوم كامل او يومين او حتى ثلاثة أيام او اكثر من هذا الوقت، ويظل الرسام طيلة فترة بقائه ما بعد الإنجاز الى جانب عمله مع علبة الألوان يضيف بعض اللمحات ويجدد ما مسحته أحذية المارة، او حبات المطر الصيفي، كي يجذب اليه الجمهور العابر، ويحفز فضولهم للوقفة السحرية المطلوبة من اجل وضعه بض النقود في علبة كارتون صغيرة كتب عليها (شكرا)، وذلك تقديرا لتلك الجاذبية البراقة بألوانها وإيقاعاتها الزخرفية.
- آخر تحديث :
التعليقات