ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي: ولد رونيه دومال سنة 1908. كوّن، وهو في الخامسة عشرة، مع روجيه جلبرت ليكونت، وروجيه فاياند، وروبير ميرا جمعية شبه سرية لها طقوسها وشعائرها:"الأخوة المبسّطون". قام بتجارب من أجل معرفة ماهية الموت عبر مخدرات، محاولات انتحار، قيام بجولات ليلية في مناطق معتمة معصوب العينين محاولا تفعيل العين الثالثة/ الحاسة السادسة، بل حتى اشترك في لعبة الروليت الروسي ويقال انه عندما سمع الزناد على صدغيه أغمي عليه. أسس، سنة 1929، مع أصدقائه مجلة ستعرف في تاريخ الأدب كتيار سوريالي منشق، عنوانها "اللعبة الكبيرة". نشر في عديد المجلات، أنضم إلى جمعية غورجييف، تبحّر في الفلسفة الهندية وترجم بعض تراثها وكتب عنها مؤكدا جوهرها القائل بأن القصيدة تُخلق على صورة الإنسان. كان يعاني من سل رئوي حاد مما اضطر أن يسافر تموز 1939، إلى جبال الألب للاستشفاء، فبدأ هناك روايته التي ستجعل منه واحداً من أكبر كتاب هذا العصر: "الجبل المماثل" لكسر البرزخ الماثل بين الأرض والسماء. إنها رواية العصر رغم انه لم ينهها إذ بينما كان في منتصف الفصل الخامس، وفي منتصف جملة، سمع طرقا على الباب فقام وفتح الباب لصديق زائر على أمل أن يعود لتكملة الجملة على الأقل بعد ذهاب الصديق لكن المرض كان في أشده والمنية التي لم يعر لها دومال أية أهمية، كانت تتربص به: لم يستطع أن يعود الى المخطوطة ليكمل الجملة، الفصل وفصلين آخرين كما خططها ذهنيا، شعر بوعكة أفضت به الى الفراش ثم بعد أيام وبالضبط في 21 آيار 1944 إلى عالم الخلد. . اما الآن فها هنا نصان لعبا دورا كبيرا في تغيير الشعر الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية:


كلمات الشاعر الأخيرة

من ثمرة تُركت تتعفن على الأرض، قد تطلع شجرة، ومن هذه الشجرة مئات الثمار الجديدة. إذا كانت القصيدة ثمرة، فإن الشاعر ليس شجرة. فهو يطلب منكم أن تأخذوا كلماته وتأكلوها على التو. ذلك لأنه لا يستطيع إنتاج ثمرة وحدة. لإنتاج القصيدة يحتاج الأمر إلى اثنين، فهذا الذي يتكلم هو الأب، وهذا الذي يصغي هو الأم، والقصيدة طفلهما، إن القصيدة التي لا يُصغى إليها، لهي بزر ضائع، وبعبارة أخرى: هذا الذي يتكلم هو الأم، القصيدة هي البيضة وهذا الذي يصغي هو مخصب البيضة، القصيدة التي لا يُصغى إليها تصير بيضة فاسدة.

بهذا كان يحلم شاعر، في سجنه، حكم عليه بالإعدام، في بلد صغير غزته جيوش فاتح، لقد أعتقل الشاعر لأنه في أغنية يغنيها في الطرقات، شبّه الحزنَ الذي كان يأكل حتى العظم لحم جسده، بالمحارق الفتاكة التي حرقت حتى آخر جلمود أرض قريته.
سيتم شنقه غداً في أنف النهار، لكن سمُح له بأن يقرأ، أمام الشعب قبل أن يموت، قصيدة أخيرة.

حدث نفسه في زنزانته قال:
"إلى هذا اليوم لم أكتب سوى أغاني للتسلية.
"ستكون هذه قصيدتي الأولي والأخيرة.
" سأقول لهم:
- خذوا هذه الكلمات، علها لا تعود بذرة ضائعة!
غطوا كلماتي، اجعلوها تنمو، تتكلم.
" لكم وبعد، ماذا سأقول؟
"عندي كلمة واحدة أقولها، كلمة بسيطة كالصاعقة.
"كلمة تنفخ قلبي، كلمة تصعد حتى بلعومي، كلمة تدور في رأسي مثل أسد في قفص.
"هذا ليس كلام سلام، ولا هو كلام سهل السمع، بل عليه أن يؤول إلى السلام، إلى جعل كل شيء سهل السمع، شرط أن تأخذوه بنفس الطريقة التي تتلقى فيها الأرض البذرة وتغذيها وهي تقتلها.
"ربّ شجرة تخرج من عفني، عندما سأتحلل بعد أيام، مثمرة بالكلام ، ليس بكلام سلام، ولا بكلام سهل السمع، وإنما بكلام مجبول من الحقيقة.

"وبعد ماذا سأقول؟
"ليس عندي سوى كلمة واحدة أقولها، كلمة حقيقية بقدر الحبل الذي سيشنقني.
"كلمة تتآكلني، كلمة تنهش فيّ
"كلمة يمكن حتى للجلاد أن يفهمها.
"سأفتح فمي - سأقول الكلمة - سأغلق فمي - وينتهي الأمر.

فأول ما أفتح فمي، سنرى الأشباح ومصاصي الدماء وكل لصوص الكلام، غشاشي لعبة الحياة، وسائر مضاربي الموت يعودون إلى الأرض:
"هؤلاء الذين يجعلون الطاولات تتحرك
"الذين يدلدلون البندول
" الذين يبحثون في الكواكب عن تبريرات حتى لا يفعلون شيئاً
"المستسلمين للأوهام، المنتحرين،
"المهووسين بالغيب،
"المهووسين باللذة،
"المسافرين الخياليين، رسامي خرائط الفكر،
"المهووسين بالفنون الجميلة ولا يعرفون لماذا يغنون،
"يرقصون، يرسمون، أو يبنون،
"المهووسين بالآخرة
"الذين لا يعرفون كيف يعيشون على الأرض،
"المهووسين بالماضي، المهووسين بالمستقبل،
"مختلسي الأبدية،
"سنراهم ينطمرون تحت الأرض، أول ما أفتح فمي،
"ومتي أنطق الكلمة، فستتقلب عيون العائشين في محاجرها وكل واحد من هؤلاء الرجال وكل واحدة من أولائك النساء سيرى وجهاً لوجه سريرة قدره،
"هاوية نورانية! ظلمة متوجعة!

"وما إن أغلق فمي، حتى تستدير عيونهم صوب العالم مشحونة بالنور المركزي، ويرون الخارج على صورة الداخل، سيكون الرجال ملوكاً والنساء ملكات، وسيرى بعضهم بعضاً، كل واحد منهم وحيد وحدة الشمس، على أنهم بأسرهم نيرون في الداخل بنار عزلة غير معهودة، كما في الخارج بنار شمس فذة لا نظير لها.

"بيد أنني أحلم وأستسلم إلى أمل جد سهل،
"بل لعلّهم سيقولون:
- هذا مخبول، آن له أن يُشنق، آن لهذا الفم الباطل أن يُطبق،
"أو ربما سيقولون:
- كلماته ليست كلام سلام، وليست سهلة السمع، إنها كلمات روح شريرة، وإنّه لوقت مناسب لشنقه.

"على كل حال، سأشنق. والآن سأقول لهم:
- لم تبق لكم مدة أطول للعيش أكثر مني. فاليوم أموت أنا، وفي الأسبوع المقبل أنتم، بؤسنا نفسه وعظمتنا نفسها.
"لكن سيظنونه كلاماً لإثارة الأحقاد، يا للبؤساء كم متأكدون بأنهم خالدون أبد الدهر. المهم، أني سأشنق.
"ماذا سأقول لهم؟ سأقول لهم: اصحوا !- بيد أنني لن أستطيع شرح لهم كيف وسيقولون:
- نحن لسنا نائمين، اشنقوا، اشنقوا هذا الدجال حتى نراه يبصق لسانه!
"على كل حال، سأشنق."

أخذ الشاعر في سجنه، يضرب رأسه بالحائط، دوى طبل مغموم، التامْ تامْ الجنائزي لضرب رأسه بالحائط كان أغنيته ما قبل الأخيرة.
حاول طوال الليل انتزاع من قلبه الكلمة التي لا يمكن تلفظها، بل كبرت في صدره، بل طفقت تخنقه، ترتقي بلعومه، بل ظلت تدور في رأسه كأسد في قفص.
عاد يكرر القول في نفسه:
"على كل حال، سيتم شنقي في أنف النهار."
استأنف التامْ تامْ البليد لضرب رأسه بالحائط.
ثم حاول ثانية:
"ستكون كلمة لا غير أقولها، ستكون جد بسيطة، وسيجيبون:
- نعرفها سلفاً، اشنقوا هذا الخرف.
"أو بالأحرى سيقولون :
- يريد أن ينتزع وئام قلوبنا، ملجأنا الوحيد في هذه الأزمنة المفجعة، يريد أن يزرع في رؤوسنا شكاً ممزقاً، في حين سوط الغازي يمزق جلدنا، إنها ليست كلمات سلام، وليست كلمات سهلة السمع، اشنقوه، اشنقوا هذا الشقيّ!
"وعلى أي سيتم شنقي.
"ماذا سأقول لهم؟"

طلعت الشمس وجلبة الجزم، أُقتيد، كز الأسنان، صوب المشنقة، أخوته امام، ووراءه جلادوه، هجس في قراره:
"هاكم إذن قصيدتي الأولي والأخيرة، كلمة أريد أن أقول، بسيطة بساطة فتح العين. بيد أن هذه الكلمة تأكلني من البطن وحتى الرأس، أود أن أشق بطني حتى الرأس وأريهم الكلمة التي انطوي عليها. إنما كيف ستجتاز الفتحة الضيقة، إذا كان علي أن أمررها من الفم، هذه كلمتي التي ملأتني؟"
وما إن سكت للمرة الأولى: حتى لزم فمه الصمت. سكت ثانية: انغلق قلبه، سكت ثالثةً: تحول كل جسده إلى جلمود صامت.
(كان مثل صخرة بيضاء، مثل تمثال كبش أمام قطيع من الخراف النائمة، وخلفه كانت الذئاب تكشر سلفاً)

سمع وقع الحراب والمناخيس، فإن المهلة التي منحت له قد انتهت، أحس الشاعر بوخزة الحبل على عنقه، وبقائمة الموت المخلبية في جوف معدته، فإذا بالكلام، في اللحظة الأخيرة، قد تدفق من فمه صائحاً:
"هيا إلى السلاح! إلى مذاراتكم، سكاكينكم،
"أحجاركم ومطارقكم
"أنكم ألف، أنتم أقوياء
"حرروا أنفسكم حرروني
"أريد أن أعيش، عيشوا معي
"اقتلوا بطعنات المناجل، برمي الحجار
"اعملوا على أن أحيا، وسأسترد لكم الكلام."
بيد أن هذه كانت قصيدته الأولي والأخيرة.
في ذلك الحين كان الشعب جد مروع.
ولكثرة ما تأرجح الشاعر أثناء حياته، فها هو يتأرجح بعد موته.
ذلك أن آكلي العفن الصغار يترصدون، أسفل قدميه، جثته الآيلة إلى النضج على الغصن، وفوق رأسه تطوف صرخته الخيرة التي ليس لها أحد تحط عليه.
(فغالباً ما يكون قدر - أو خطأ - الشعراء أن يتكلموا بعد فوات الأوان أو قبله)!

شعر أسود وشعر أبيض

كما في السحر، الشعر أسود أو أبيض، حسبما يخدم الإنسان الأعلى أو شبه الإنسان. إنها عين التدابير الفطرية التي في أُمرتها آلة الشاعر الأسود والشاعر الأبيض. يعتبر البعض هذه التدابير موهبة سرية، ختم سلطات أعلى، والأخر يعتبرها عاهة أو لعنة. غير مهم. بالأحرى إنه مهم جداً، على أننا لم نصبح بعد قادرين على فهم أصل بنياتنا الأساسية. ومن كان قد فهمها، فأنه سينجى. يحاول الشاعر الأبيض أن يفهم طبيعته كشاعر، أن يتحرر منها، أن تخدمه. الشاعر الأسود يستخدمها، فتستعبده.
لكن ما هي هذه "الموهبة" الشائعة بين جميع الشعراء؟ إنها ارتباط خاص بين مختلف الحيوات التي تشكل حياتنا، بحيث كل مظهر لواحدة من هذه الحيوات لا تعود علامة وحيدة فحسب، بل من المحتمل أن تصبح، بواسطة رنين باطني، علامة التأثُّر المركزي الذي هو، في لحظة معطاة، لوننا، صوتنا، أو ذائقتنا. التأثر المركزي هذا، المتواري بعمق فينا، لا يهتز ولا يأتلق إلاِ في لحظات نادرة. واللحظات هذه ستكون، بالنسبة للشاعر، فرصه الشعرية، وبالتالي فأن كل أفكاره ومشاعره وحركاته وكلماته ستكون، في فرصة كهذه، علامات التأثر المركزي هذا. ومتى تتحقق وحدة مغزى هذه العلامات، في صورة تبيّنها كلمات، عندئذ بالذات، نقول بأنه شاعر. وهذا ما سنسمّيه "بالموهبة الشعرية"، عدم توفّـر ما يزيد من معرفتنا في هذا الشأن.
للشاعر عن موهبته فكرة مشوشة نوعاً مه. فالشاعر الأسود يستغلها من أجل ارتياح شخصي. فهو يعتقد بأنه يستحق هذه الموهبة، وأنه يكتب قصائد بشكل طوعي. بالأحرى أنه يتبجّح، وهو مستسلم لميكانيكية المدلولات الرنّانة، بأن روحاً أعلى ملكته فاختارته وسيطاً روحياً لها. إذنْ، في كلا الحالتين، الموهبة الشعرية في خدمة الغطرسة والمخيلة الخدّاعة. سواء مخططاً أو مُلْهَماً، فأن الشاعر الأسود يكذب على نفسه ويعتقد بأنه شخص ما. غطرسة، كذب shy; بل مفردة ثالثة تشخصه. كسل. لا يعنى هذا أنه لا يضطلع أو لا يكدّ، أو يلوح له أنه أمر خارج إرادته. إنما كل هذا التحرك يتم من تلقاء ذاته، وهو .الشاعر الأسود. يتحاشى حتى من التدخل فيه بنفسه shy; نفسه هذه الفقيرة والعارية، والتي لا تريد أن تُرى ولا أن تعرف بأنها فقيرة وعارية، يسعى كل واحد منا جاهداً لإخفائها تحت أقنعته. إن "الموهبة" هي التي تقوم فيه بهذه العملية، فيستمتع بها كبصّاص، دون أن يظهر نفسه، متكئاً بها غطاءً مثل السلطعون ذي البطن الرخوة الذي يحتمي ويتزين بقوقعة سمك الأرجوان، قوقعة صنعت لإنتاج نسيج ملوكي وليس لإكساء أقزمة مخجلة. كسل أن يرى نفسه، أن يكون مرئياً؛ الخوف من أن لا يكون له موارد غير المسؤوليات التي على المرء تحملّها، عن هذا الكسل أتحدث. أُوّهْ! يا أمّ سائر عيوبي.*
الشعر الأسود مثل الحلم أو الأفيون، خصب بمزيّات باهرة. فالشاعر الأسود يلتذ بكل اللذائذ، يتزيّن بكل الزين، يمارس كل السلطات shy; تخيّلاً. الشاعر الأبيض يفضل الواقعي حتى في شكله البائس على الأكاذيب الثرية. ذلك أن عمله ينطوي على نضال مضطرد ضد الغطرسة، المخيلة، الكسل. وهو راض بموهبته، حتى لو يعاني منها ويعاني معاناتها، فإنه ينشد جعلها في خدمة غايات اعظم من رغباته الأنانية، أن تخدم قضية لا تزال مجهولة في هذه الموهبة.
لن أقول. الفلان هذا شاعر أبيض، وذاك شاعر أسود. سيكون هذا انحداراً من الأفكار إلى آراءٍ ومناقشات، إلى ارتكاب خطأ. ولن أقول حتى أن هذا له موهبة شعرية، وذاك ليس له. يا تُرى، أعليّ؟ غالباً ما أشك، وأحياناً أعتقد بأنني على ثقة من الأمر. لكنني لست واثقا نهائياً. ففي كل مرة السؤال جديد. وعند كل مَـبْـزغٍ للفجر، السر يَـشخُـصُ برمته. لكن لو كنت في الماضي شاعراً، لكنت بالتأكيد شاعراً أسود، وإذا عليّ أن أكون غداً شاعراً، فأني أوَدُّ أن أكون شاعراً أبيض. إن الشعر الإنساني لهو مزيج من الأبيض والأسود. على أن بعض الشعر يميل إلى الأبيض، والآخر إلى الأسود.
لا يحتاج الشعر الذي يميل إلى الأسود جهداً من أجل هذه الغاية. فهو يتبع المنحدر الطبيعي والشبه إنساني. ذلك أننا لسنا في حاجة إلى جهد حتى نتبجّح، نحلم، نكذب أو نتكاسل؛ ولا حتى لكي نحسب حسابات ونخطط، بما أن الاحتسابات والتخطيطات هي في خدمة التبجّح، الخيال والخمول. على أن الشعر الأبيض يذهب عكس المنحدر، يصعد المد مثل سمكة الأطروط، لكي تنجب في النبع الراهف. تقاوم، بالحيلة والقوّة، نزوات التيارات السريعة والدوّامات؛ ولا تترك لمعان الفقاعات العابرة أن يلهيها أو أن يجرفها المدُّ صوب الوديان الغِـرْيَـنيّة العذبة.
كيف على الشاعر الذي يريد أن يصير شاعراً أبيض، أن يشن هذا النضال؟ سأذكر كيف أحاول شنّي، في أفضل فرصي النادرة، لعل يوماً، إذا كنت شاعراً، تنبثق من شعري، مهما كان رمادياً، رغبة بالبياض.
سأميّز ثلاثة أطوار في العملية الشعرية. البذرة النيّرة، تلبيسها بالصور، والتعبير اللفظي.
كل قصيدة تولد من بذرة، معتمة في البدء، علينا تصييرها نيّرة لكي تثمر نتائج منيرة. تبقى البذرة، لدى الشاعر الأسود، معتمة، تنتج نبتة أقباء عشوائية. ولجعلها تأتلق، علينا بالصمت، لأن هذه البذرة، هي الشيء ذاته الواجب قوله، التأثر المركزي الذي يريد أن يعبر عن نفسه من خلال آلتي كلّها. الآلة نفسها معتمة، لكنها تودّ أن تعلن نفسها منيرة، وأحياناً توهم. وما إن تشرع بوادر البذرة بتحريكها، حتى تدّعي بأنها تقوم بهذا من أجل مصلحتها هي، من أجل إظهار نفسها، من أجل اللهو الفاسق لكل من عتلاتها ودواليبها. الزمي الهدوء إذن، يا آلة. اشتغلي، واسـكـتي. فليصمت اللعب الكلامي، الشعر المحفوظ عن ظهر القلب، الذكريات المجمَّعة عَـرَضـاً، فليصمت الطموح، الرغبة بالتألق shy; لأن النور وحده يأتلق بنفسه shy;، فليصمت إطراء الذات وشفقتها، فليصمت الديك الذي يظن أنه يسبب شروق الشمس. ومتى يبدد الصمتُ الظلمات، تبدأ البذرة باللمعان، مضيئةً، غير مضاءة. ذلك هو ما يجب عمله. إنه لأمر صعب، بيد أن كل جهد صغير يتلقى ومضة نور مكافأةً. إذ ذاك يبين الشيء الواجب قوله في شكله الأكثر صميمية، كيقين ابدي، shy; معروف، مُعترف به ومرتجى في الوقت نفسه shy;، نقطة نيّرة مستوعبة رحابة التوق إلى الوجود.
الطور الثاني، هو تلبيس البذرة النيّرة shy; التي تظهر، لكنها غير ظاهرة، كالنور غير مرئية، وكالصوت صامتة shy;، ارتداؤها الصورَ التي ستظهرها للعيان. وههنا علينا أيضا تفحص الصور، رفض وكبح تلك التي لا نفع لها سوى للسهولة، الكذب والغطرسة.مزدحمين بالصور الجميلة حتى نودّ اظهارها. لكن، عندما تنتظم الأشياء، فأنه يجب ترك البذرة تختار بنفسها النباتَ أو الحيوانَ الذي سترتديه ليبعث فيها الحياة.
وثالثاً يأتي دور التعبير اللفظي، حيث ليس العمل الداخلي فحسب، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، إنما كذلك العلم والمهارة الخارجيين. ذلك أن للبذرة تنفّساً خاصاً بها. يستولي تنفسها على آليّات التعبير من خلال بث إيقاعه فيها. إذن، يجب أن تكون هذه الآليّات مزيتة بشكل جيد ومسترخية بما في الكفاية حتى لا ترقص رقصتها، أو تسبب تفعيل أبحر غير ملائمة. ذلك أن التعبير اللفظي في الوقت الذي يخضع فيه أصوات اللغة لتنفسه، فان الشيء الواجب قوله يرغم الآليّات على استيعاب صوره. هذه العملية المزدوجة، كيف تتم؟ هذا هو السر. لا بواسطة تخطيط ذهني. يحتاج إلى زمن كثير؛ ولا بواسطة الغريزة. فالغريزة لا تبتكر أي شيء. فهذا الأمر يتم بفضل الارتباط الخاص القائم بين عناصر منظومة الشاعر الإجرائية، والذي يوحد المواد المختلفة اختلاف التأثر، والصور، والمفاهيم والأصوات في مادة حيّة واحدة. إن حياة هذا الجسم الجديد لهو إيقاع القصيدة ووتيرتها.
الشاعر الأسود يقوم خلاف هذا تقريباً، بالرغم من أن شَـبَـهَ صحيحاً لهذه العمليات يتم فيه. حتمٌ أنّ شعره يفتح عوالم عديدة، لكنها عوالم بلا شمس، تضيئها مئات الأقمار الوهمية، مأهولة بالأشباح، مدبّجة بالسراب، وأحياناً مبلّطة بالنوايا الطيبة. الشعر الأبيض يفتح باب عالم واحد بلا مزيّات أو هيبة، حقيقي، ذي شمس واحدة.
قلت ما يجب عمله ليصبح المرء شاعرا ًأبيض. ما أبعدني عن هذا الشأو. كل ما أنتجه، حتى في النثر، في الكلام والكتابة العاديين shy; كما في كل مظاهر حياتي اليومية shy; هو رمادي، أبقع، مُمرّغ، يخالط فيه النورُ الليلَ. إذنْ، عليّ بعد انقضاء الأمر استئـناف النضال. أعيد قراءة ما كتبت. أرى، فيما بين جملي، كلمات، تعابير وتشويشات لا تصلح للشيء الواجب قوله؛ صورة تود أن تكون غريبة، تلاعب جناسي بالألفاظ يعتقد نفسه مُسْتغرَباً، تنطّعُ متحذلقٍ من الأفضل أن يبقى جالساً في مكتبه على أن يلعب المزمار في رباعيي الوتري، و،عجب العجاب، غلطة، بنفس الوقت، في الذوق والأسلوب بل في التركيب. يبدو أن اللغة نفسها منسّقة لتشي بما هو دخيل عليها. قليل من الأغلاط تقنيّ محض. لكن معظمها من ارتكابي أنا. فأروح أشطب، أصلّح فرحاً فرح الذي تُستأصل من جسمه المصاب شأفةٌ غنغرينية.

* يلمح رونيه دومال هنا الى مثل فرنسي شائع مفاده: "الكسل أمُّ العيوب كلها".

ترجمة: عبدالقادر الجنابي