إن المجموعة القصصية "وثمة شئ آخر" الصادرة عن دار نينوى للزميل حميد العقابي تأخذنا ليس فقط إلى مكانة القصة القصيرة، والقصيرة جدا في أدب النثر، بل تأخذنا أيضا إلى عوالم مختلفة تتوزع فيها شخصيات متنوعة بين اندماج أزمان قديمة ومعاصرة، لتعطي قيمة حضورها بصفاتها، وانحدارها، ورؤيتها العامة، من خلال الحدث النصي، وتطوره السريع، ونهايته المفاجئة، بأسلوب بناء وتشكيل الجملة القصيرة أو السرد المكثفة، أوفي بعض كلمات الحوار، أو مطعم بالشعر النثري، لكي تصوغ لنا مشهد مؤثر خاطف في مضمونه، وتكونه، وكذلك لتعكس لنا طبيعة الواقع الاجتماعي، وتنقلاته ما بين هو عربي أو دنماركي، في تقنية تجري تقاطيعها اللغوية في بناء اللقطة المعبرة بإيجاز واضح، ونهايات واضحة، يتخللها أيضا تقاطع ضمني باحتمالات ممكنة، متروكة لأدراك للقارئ للشخصيات الأساسية، والثانوية في القصص، فالشخصيات تتوزع في مصدرين:
الأول: تاريخية _ لها مكانتها، وأهميتها سواء في الحدث التاريخي أوفي التطور الاجتماعي، أو باعتبارها رموز قديمة معاشة فاعلة في أذهان الناس ذات مدلول معاصر.
الثاني: هامشية _ لا تملك سوى بؤسها ومعاناتها، لا تأثير لها في التطور الاجتماعي، وكادت تنطلق في بعض القصص من العادي إلى المهم، لتصبح مؤثرة بالانعكاس الواقعي، ولتكون غير هامشية في المجتمع، وذات سلوكيات فاعلة، وعقلية ذكية، وحاسة وعي نافعة.

فالقصص تجتاز الأسلوب السائد في بنائها، وتكتشف لنفسها أسلوب آخر، ترافقه أسئلة كثيرة، تحمل وجهة نظر إنسانية للخلق والكون والحدث في مجرى الوجود العام والخاص، وتحاول أن تخرج متضافرة من السائد إلى غير المتوقع، وقد استوقفتني اللقطة المعبرة في قصة ( آية الكرسي )، ولذلك وجدت نفسي أنتقيها من المجموعة القصصية، لأتفاعل معها، وأتأثر بها، فهذه القصة لها جنس خاص، وعالم معاش، يخصنا، ويؤثر في نفوسنا، يستحدث نظرة متفردة، إذ أن شخصية القصة هي صبية فقيرة متسولة في الشوارع كما تشير القصة: ( قبل أن أدخل المقهى اصطدمت بصبية صغيرة هي أقرب إلى كتلة أوساخ منها إلى كائن ملائكي. تمسكت بساقي وراحت تقبل ركبتي بتملق من تمرس مهنة التسول ). إن الشخصية منتزعة من واقع الحياة في بلدان العالم الثالث، تكشف عن ذاتها من ظلال الانكسار، لا سر لها سوى معاناتها، تتلقى ركلة من إنسان غريب على وطنها، تهان في وطنها، تلزم الصمت، تتحمل الألم، وتفرح بعد أن تتسلم ورقة نقدية من فئة الخمسين من الجاني الأجنبي، ونقتبس ما ورد في النص: ( مر جنديان كنديان من جنود الهيئة الدولية التي تشرف على خطة تطبيق قرار وقف النار …تشبثت الصبية بهما مقبلة ساقيهما.ركلها أحدهما بامتعاض فسقطت على الرصيف…حمل أحدهما الصبية بحنو مفتعل ولكي يمحو آثار فعلته اشترى ورقة دافعا لها ورقة نقدية من فئة الخمسين.تلقفتها الصبية بفرح…)، لقد أراد القاص في هذا الحدث أن يظهر مواجهة حقيقية، بالغة الأهمية، مواجهة بين ثقافة العالم الأول، والعالم الثالث، وقد وضعها في حيز التفوق الأول على الثالث من حيث المال ( ورقة نقدية من فئة الخمسين )، والاستعلاء ( الركلة )، ونستشف أيضا أن الجندي قد سقطت ثقافته وانهارت بتجنيه على الصبية، وقد أظهر نفسه صورة مصغرة لثقافة ترتبط بالفكر والتطور الاجتماعي، فهو يحمل عالمه الخاص ومؤثراته وتداعياته ورؤياه للآخرين، رؤياه تلك التي ذابت مثل الثلج حينما وقف أمام براءة الصبية التي مثلها في بلده ترعى بالشفافية والحنان.فهذه المفارقة العجيبة تبدو بحاجة إلى الفهم، فهم سلوك الإنسان ليس فقط بالمؤثرات البيئية التي تعده أخلاقيا، بل وكذلك تعود إلى تكونه المعرفي الواعي الفردي، الذي يبلور عنده السلوك اليومي، ليتداخل ويمتزج في مثله الشخصية، فالجندي صاغ قيمه الفردية وحده بالركلة للصبية،التي عكست الوجه الآخر الذي يحمله في أعماق نفسه، وجه الانفصام التام عن ثقافته في خارج بلده، ولذلك سأتطرق إلى تعريف الشخصيات في القصة:
1 – الصبية: شخصية واقعية من الحياة، تجسد رمز الأسى في العالم الثالث، لا تستنفد من خيالنا، وتبقى تغرينا في تأملها، إذ تجمع عالم كامل برمته، نحس ببؤسه، وتكتنفه صور رهيبة في الحياة المعاشة.
2 – الجندي الكندي: شخصية أجنبية، جاء لحفظ السلام، لا صلة له بالعاصمة العربية المتواجد عليها، وسلوكه يتناقض كليا مع مهمته الإنسانية التي جاء من أجلها.
3 – القاص: شخصية تغرق في التأمل، والجدل الداخلي مع نفسه الذي لا يملك سواهما، ثم ينتابه غليان روحي وعقلي، إذ هويجلس قبالة حدث كصدمة للقطة معبرة، فيعلن ثورته خارج سياق التاريخ كما ورد في النص: ( ورحت أحلم بثورة جديدة بلا ماض ولا ذاكرة…فأنا مشغول الآن بكتابة البيان الأول للثورة…وضعت برنامج ثورتي في جيب بنطالي الجيننز ونهضت خائبا من تحقيق ثوراتي …)، أنه يعلن ثورته على الفقر، ثورة من أجل الحرية، ثورة تقوض المفاهيم القديمة، فيكتب بيانه الأول، ويضع برنامجه، ويصبح ثائرا من أجل التغير، والتقدم الاجتماعي، وإعادة مكانة العربي في وطنه وخارجه، ثورة رصينة هادئة، لا يطمح فيها سوى إعادة الفخر للصبية، لتزهو مكانتها في وطنها، وليس مخلوقا ضائعا في الشوارع، إلا أن ثورته تتقوض بركلة الجندي للصبية، وتتحطم، فينهض خائبا، يسحب ورقة المتسولة من القمامة التي رماها الجندي فيها، ويدسه في شق الحائط، فهنا يتذكر والده في لقطة معبرة أخرى، فه كلما وجد قطعة خبز في الطريق دسها في شق الحائط، وهذه عادة عراقية قديمة، فالعراقي يعتبر رمي الخبز في الطريق حرام، فهي نعمة مباركة، يجب احترامها.

إن موضوع القصة شمولي في العالم الثالث، ربما – أراد منه القاص حجة واضحة للقطة معبرة، قد تكون قد بنيت في ذهنه دون تخطيط مسبق، تم انتقائها من انعكاس الواقع الاجتماعي، فيعلن ثورته الخاصة،ثم يهدأ ذاته، وينسحب دون أن يحقق شيئا سوى حطام المأساة الذي يراه أمامه بسعة خطر نشوء الصبية في الشوارع، إنه مجمل التناقض بين عالمين، العالم الأول والعالم الثالث.