صدر للناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم مجلدا كبيرا يزيد على 700 صفحة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بعنوان(المطابقة والاختلاف: بحث في نقد المركزيات الثقافية) وهو خلاصة جهده في نقد ظواهر التمركز الديني والعرقي والثقافي، وتكشف مقدمة الكتاب طبيعة هذا المشروع، وقد جاء فيها ( استغرق العمل على هذا المشروع أكثر من خمس عشرة سنة متواصلة، ومرّ بثلاث مراحل. كانت أفكاره الأولى بدأت في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، حينما جرت انعطافة حاسمة في توجّهاتي الثقافية من الأدب بدلالته المباشرة إلى الثقافة بشكل عام، بفعل المراجعة النقدية للمناهج الشائعة آنذاك، خلال تحرير كتاب" التفكيك: الأصول والمقولات" الذي صدر في المغرب عام1990، وهو كتيّب قادني البحث فيه إلى تلمّس أولي للفكرة التي تشكّل قوام هذا المشروع، وجُذِبتُ عقليا بعد ذلك إلى الموضوع الذي استأثر باهتمامي، وصار من شواغلي الفكرية، فأنجزتُ فيه بحوثا كثيرة، واشتركتُ في مؤتمرات وملتقيات متخصّصة، وحرصتُ في كل ذلك على تطوير تلك الفكرة الأولية، وانتهيتُ في عام 1992إلى تأليف كتاب بالعنوان نفسه" المطابقة والاختلاف" ودفعته للناشر في بيروت: المركز الثقافي العربي، الذي كان تولّى، وسيتولّى فيما بعد، نشر معظم كتبي في العقد الأخير من القرن، وبداية القرن الجديد.
غادرت العراق في منتصف عام 1993 للتدريس في إحدى الجامعات الليبية، ووجدت أنّ الفكرة التي ظننت أنني تخطّيتُها بدأت تتوسّع وتلحّ وتتشعّب، وتكشّف لي الخطأ الذي وقعتُ فيه، لقد تعجّلت قطف فكرة لم تنضج بعدُ، ورحتُ أراجع نسخة مخطوطة من الكتاب أحملها معي، فوجدتُه كتابا شبه مغلق، مكثّفا، ومملوءا بالأحكام النقدية السريعة، وجافا، ومختزَلا، ويفتقر إلى كلّ المزايا التي تجعل منه كتابا تحليليا يعبّر عمّا أريد. اتصلتُ فورا بالناشر، وطلبتُ إليه إلغاء فكرة نشر الكتاب بصورة نهائية، ورحتُ لسنوات لاحقة، وسط شبه تفرّغ أعيد بناء ثقافتي في الموضوع، وأحلّل أطرافه، معنيّا بالفكر الغربي، وبخاصّة الجانب الفلسفي منه، الذي يشكّل فيما أرى أحد الأركان المهمّة لفكرة التمركز الغربي، وفي صيف عام 1996 انصرفت لصوغ كلّ الأفكار التي عملتُ عليها طول تلك المدّة، بما فيها أصول الكتاب القديم، وصدر الكتاب بعنوان" المركزية الغربية: إشكالية التكوّن والتمركز حول الذات" في عام 1997، وفيه اتضحتْ الفكرة على نحو جديد؛ فقد بيّنتُ في المقدّمة بأن ثقافتنا تعيش إشكالية مزدوجة من المطابقات: مطابقة مع الفكر الغربي المتمركز على نفسه، ومطابقة مع الماضي، وأعلنتُ ضرورة نقد هذه المطابقات بجرأة، والدعوة للاختلاف عنهما من خلال الحوار النقدي معهما، حوار لايقيم قطيعة، إنما يهدف إلى الإفادة الواعية؛ وذلك لا يتمُّ إلا بنقد المركزيات الثقافية الموجِّهة لأفكار التمركز، وحرصتُ على أن يظهر عنوان المشروع في أعلى غلاف الكتاب والكتب اللاحقة دلالة على تواصل العمل على فكرة "المطابقة والاختلاف". في السنوات الثلاث الأخريات رحتُ أتقصّى أثر المركزية الغربية في تشكيل الثقافة العربية المعاصرة، لتأكيد فكرة المطابقة، التي أوضحتها في كتاب" المركزية الغربية "وأتضح إثر بحث موسّع شمل النقد والفكر الفلسفي والمفاهيم أنّ ثقافتنا استعارت مناهجها ومقولاتها الأساسية من الثقافة الغربية، وصدر الكتاب في عام 1999 بعنوان " الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ".
كانت السنوات السبع في أرض شبه منقطعة، وفّرت لي الوقت للتفكير في موضوع يحتاج تأكيده إلى إعادة نظر جذرية بكثير من الأفكار الشائعة، وتفسيرها على وفق ترتيب جديد. ولكنني، مدفوعا بهاجس التعرّف، كنت أتطلّع إلى الوقت الذي أقتربُ فيه إلى الموضوع الأثير إلى نفسي، وهو الثقافة العربية - الإسلامية، التي أنجزتُ في سردها القديم، قبل حوالي عشر سنوات من ذلك الوقت أطروحة الدكتوراه، ولهذا كنتُ أحدّد مصادري، واستطلع المجالات التي يمكن الخوض فيها، وانتقلت في نهاية عام 1999 إلى جامعة قطر، وأنا أحمل معي جملة تحليلات متفرّقة لنصوص من الأدب الجغرافي القديم، وهو فيما بدا لي المجال الأكثر عناية بالتعبير عن فكرة التمركز الإسلامي بركنيها: صورة الذات وصورة الآخر. واستأنفتُ عملي في الخليج وسط كثير من المصادر التي لم تكن متوافرة لدّي في شمال إفريقيا، وفيما كنت مستغرقا في كل ذلك تلقيتُ عرضا من(prota project) - وهو مشروع للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية للعالم الناطق بالإنجليزية - للعمل على الرحلات القديمة، من أجل نقلها إلى تلك اللغة، لكنّني بدل ذلك اقترحتُ تنقيح الفكرة المعروضة عليّ، بما يتوافق وعملي من جهة، وبما يفيد هدف" بروتا " من جهة أخرى، فمعظم الرحلات مترجمة على نحو متفرّق إلى كثير من اللغات العالمية الحيّة، والفكرة الجديدة التي أريدها، هي:كيف نظر المسلمون إلى الآخر خارج دار الإسلام، وتبلور مقترحي في أن أنجز كتابا يتضمن نصوصا تعنى بالعالم خارج دار الإسلام، ثم تحليلها، بما يكشف طبيعة النظرة للآخر المختلف عقائديا وثقافيا، ووجدتْ الفكرة الجديدة ترحيبا من"بروتا" وصدرت النسخة العربية من الكتاب، في نحو ألف ومائتي صفحة، بعنوان "عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين" عام 2001 وهو مشفوع بتحليلات مستفيضة للموضوع الذي شغلني من قبل كثيرا، لكنّ كثرة النصوص، وضخامتها، أخفتْ، فيما أرى، أهمية الفكرة التي حرصتُ عليها في التحليلات التي تضمنّها الكتاب، ولهذا رغبتُ في أن أعيد النظر بكلّ ذلك، وتحويل تلك النصوص الكبيرة إلى خلفية توجّه الأفكار، من أجل بلورة الصورة النهائية لفكرة التمركز الإسلامي، وعلى غرار فكرة التمركز الغربي، رحتُ استخلص نزعات التمركز بكل ضروبها من تلك المتون الكبيرة التي كشف كتّابها نزعة ثقافية مثّلتْ المخيال الإسلامي في رؤيته لنفسه ولغيره، وحدّدتُ ملامح التمركز الإسلامي، ومفهوم دار الإٍٍسلام، وأصدرتُ كلّ ذلك في كتاب بعنوان" المركزية الإسلامية: صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى" عام 2001.
حينما أستعيد ظروف عملي على فكرة " المطابقة والاختلاف" وقد تطوّرت عبر السنين إلى مشروع ثقافي، ظهر تباعا بكتب أربعة، وبكثير من البحوث، والمؤتمرات، والندوات، والمحاضرات، يتكشّف لي أمران متلازمان، تباينت درجة الاهتمام بهما في تضاعيف تلك الكتب والبحوث: أولهما نقد فكرة التطابق والدعوة إلى فكرة الاختلاف، ولهوية ثقافية مركّبة، متنوّعة، ومتجدّدة. وثانيهما كشف أهمية النصوص المخياليّة في تجسيد صورة الآخر، وصورة الذات، ولهذا وجدتُ رابطا محكما بين السرد والمركزيات الثقافية، وكنتُ أريد عقد صلة بين الاثنين، فالمركزيات بؤر فكرية وعرقية ودينية محتقنة ومشحونة بالتوتر، تتكوّن بفعل نمط من السرود عن الذات والآخر، تنعقد حول حبكة معينة.
ولكن كيف يمكن لنا كشف صورة التطابق التي تتصف بها الثقافة العربية الحديثة مع المركزيات الكبرى : المركزية الغربية، والمركزية الإسلامية؟ أقصدُ المركزيات التي لها صلة مباشرة بثقافتنا. يكمن الجواب في الفحص النقدي الدقيق والجريء لمعطيات تلك الثقافة، وذلك الفحص سيكشف معضلةً مكينةً تستوطن نسيجها الداخلي، ألا وهي «مماثلة» الثقافة الغربية، من جانب، و«مطابقة» تصورات الثقافة الدينية الموروثة، بطابعها السجالي وليس العقلي-الثقافي، من جانب آخر، فحيثما اتجهت تلك النظرة في حقول التفكير المتعدّدة، لا تجد أمامها- على مستوى الرؤى والمناهج والمفاهيم - سوى ضروب من «التماثل» و«التطابق» مع ثقافات أستعيرت من مرجعيات مختلفة مكانيا وزمانيا، مرجعيات فرضت حضورها وهيمنتها في المعطى الثقافي الحديث مباشرة، وتجاوزت ذلك، إلى حدٍّ أصبحتْ فيه على صلة وثيقة بالتصورات التي تنتج ذلك المعطى، سواء تمّ الأمر استناداً إلى مبدأ القبول أو إلى مبدأ الرفض وردّ الفعل. يعود ذلك، فيما يعود، إلى سببين رئيسين: أولهما يتصل بهيمنة «المركزيات الثقافية الكبرى» ومحدِّداتها الأيديولوجية، وهي تمارس اختزالاً لثقافتنا الحديثة، وثانيهما: الاستجابة السلبية لمعطيات تلك المركزيات، وعدم القدرة على التحرّر من فرضياتها الأساسية، والاختلاف المعرفي معها، وهو أمر يتعلّق بواقع الثقافة العربية الحديثة التي رهنتْ ذاتها بعلاقات امتثالية لتلك المركزيات، ولم تفلح في بلورة أطر عامة فاعلة تمكّنها من الحوار المتفاعل معها، فكانت تستعيد تصوراتها دون مراعاة التباعد المرجعي والزمني.
وفيما ينبغي أن تُنقد المركزيات الثقافية الكبرى وتُفكّك، بهدف تحليل أسباب التمركز وممارساته الاقصائية بحقّ الثقافات والمجتمعات والعقائد المختلفة، فإنه - وهذا هو الأهم - ينبغي التدقيق في الأسباب التي جعلت الثقافة العربية الحديثة، تتصف بالاستجابة السلبية لكل ذلك، فتلك الاستجابة، بمظهرها السلبي الواهن، تشير إلى حالة ضمور خطيرة في مكوّناتاتها، بما يجعلها عاجزة عن التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، وهو أمر يجعلها تندرج في علاقات ولاء وامتثال لغيرها، بعيداً عن واقعها التاريخي والاجتماعي الذي يُقصى ويُستبعد، وتحلّ مكانه سلسلة متّصلة من أفعال المحاكاة والتقليد، بما فيها تبنّي جملة من المفاهيم والمناهج والموضوعات المشروطة بأبعاد تاريخية مختلفة. النقد، ينبغي- في رأينا - أن ينصرف إلى هذين السببين، مع تأكيد صارم وعميق على الأخير؛ لأنه متصل مباشرة بالثقافة العربية؛ ولأن نقداً يتغيّا وضع فواصل رمزية بين الثقافات بهدف تفاعلها الخلاق والعميق، وليس إذعان بعضها لبعض، هو السبيل الذي يفضي إلى نوع من «الاختلاف» بدل «المطابقة» الثقافية.
ليس المقصود بـ«الاختلاف» هنا، الدعوة إلى «قطيعة» مع الآخر، ومع الماضي، والاستهانة بهما، واختزالهما إلى مكوِّن هامشي؛ ذلك أنّ القطيعة لن تحقّق إلاّ العزلة والانغلاق، والاعتصام بالذات ومطابقتها على نحو نرجسي مَرَضي لا يمكّنها أبداً من أن تتشكّل على نحو سليم ومتفاعل ومتطور. الأمر يوجب تنمية عوامل اختلاف جوهرية واعية وجديدة تعمل على تغذية «الذات الثقافية» بطابعها المنشغل بوقائعه وموضوعاته المتصلة بالبعد التاريخي لتلك الذات، وألاّ يصار إلى اختزال تلك الوقائع إلى مجرّد مفاهيم توافق رؤى ثقافية أخرى لها شروطها التاريخية المختلفة، نقصد بذلك، الاختلاف الذي يبحث بنفسه عن الحلول الممكنة للصعاب التي تواجه أسئلته الخاصة، ولكن في الوقت نفسه، الدخول في حوار متكافئ مع الآخر، كائنا ما كانت مرجعياته ومصادره، ومساءلته معرفياً ومنهجياً بغرض الإفادة منه، وليس الامتثال له، بما يحوّل ثقافاته إلى مكوِّن فاعل وليس إلى مكوِّن مهيمن، وعلى هذا فليس ثمة اختلاف، دون وعي أصيل بأهمية الاختلاف نفسه.
إنّ اختلافاً مشروطاً بالوعي، يمكن أن يُسهم في تغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدّية، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها، بما يدفع للانتقال من واقع «المطابقة» إلى أفق «الاختلاف». وإذا كان واقع «المطابقة» يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها، أكثر من انصرافها إلى واقعها، فإنّ أرضية «الاختلاف» غير ممهَّدة، وبحاجة إلى توافر أسباب كثيرة ليصبح «الاختلاف» أمراً مشروعاً وقائماً بالفعل، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وغيرها. وبما أنّ «الاختلاف» ضرورة تتصل بدائرة التكوّن الثقافي العربي الحديث، فهو مشروط بمحدّدات تنظم أهدافه وغاياته، وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية بالعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية، وتشكيل منطقة تفكير ثالثة تتركّب فيها الأفكار وتتفاعل بحرية حقيقية، ولا تتعارض وتتضارب وتتساجل، ويقوّض بعضها بعضا، بل تذوب مكوّناتها في مكونات غيرها على نحو سليم، وتتداخل رؤى هذه برؤى تلك، بما يجعل أثرها فاعلا ومفيدا، فالتهجين الثقافي ضرورة لازمة لأنه يحرّر الثقافات من حبستها ومركزيتها، ويغذّيها بعناصر جديدة، والأهم من ذلك أن تعلن الثقافة العربية عن أسئلتها الخاصة التي تترتّب مقدّماتها، وتحليلاتها، وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع، وليس استجابة سلبية لمقترحات خاصة بأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى.
الاختلاف المقصود هنا، يوفّر حرية نسبية في ممارسة التفكير دون شعور بإثم الانفصال عن الماضي، ولا خشية التناقض مع الآخر، فهذه المخاوف التأثيميّة والتوجّسات أنتجتها ثقافة المطابقة، وهي مخاوف وتوجّسات تنهار دفعة واحدة إذا انتظمت الثقافة على أسس نقدية واعية وواضحة. ومردّ الحاجة إلى «الاختلاف» رسوخ ثنائيات ضدية خطيرة في صلب الثقافة العربية الحديثة،، منها على سبيل المثال:الأصالة والمعاصرة، الذات والآخر، الماضي والحاضر. . . إلخ. وقد تركت تلك المفاهيم أثراً مباشراً في الفكر انقسم الوعي بسببه إلى شطرين متضادين ومتناحرين، بحيث أصبحت تلك المفاهيم بذاتها «مرجعيات» ثابتة ونهائية، توجّه عمل الفكر وتحدّد مجالاته، وتقوّم نتائجه، وكل منهما يعتصم بذاته في نسج براهين تؤكد صوابه، وتسفّه أمر المفهوم المضاد.
انشطر الفكر العربي الحديث فعلاً إلى تيارين يقصي أحدهما الآخر، ويدَّعي احتكار الحقيقة، ويؤصّل ذاته بمرجعية لا علاقة مباشرة له بها، مستخدماً الحجج السجالية في إثبات دعواه وإبطال دعوى غيره، فثمة تيار يذهب إلى أنه لا سبيل أمامنا إلاّ الاندماج التام والكلّي في ثقافة الآخر، وثمة تيار يقول إنه لا سبيل إلاّ الاعتصام بالذات والاصطدام بالآخر. التيار الأول يدعو إلى الذوبان في الغرب، بحيث نصبح جزءاً منه «لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً»، وبحيث نُشعر الغربي، بأننا«نرى الأشياء كما يراها، ونقوِّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها». وهذا تيار واسع له أنصاره ومفاهيمه ورؤاه، وقد شاع في الثقافة العربية وعُرف منذ مطلع القرن العشرين، وسعى بدعواه العقلانية إلى مطابقة الآخر رافعاً شعار التنوير على غرار ما حصل في الغرب في العصر الحديث، وذلك في نوع من «المطابقة»لا يخفى. أما التيار الثاني، فيعلن أنّ هدفه هو إيجاد هوية ثقافية صافية ونقية، تنهل عناصرها من الماضي، الذي هو بالنسبة له، ذخيرة المعرفة الحقيقية، ومورد اليقين الذي لا ينضب، والمجال الذي ينبغي أن يتأصّل فيه كلّ شيء، ومن أجل إنجاز هذه المهمة، فلا بد من القيام بعمل مزدوج، من جهة ينبغي بعث الموروث وإحياء مكوِّناته، ومن جهة أخرى الاصطدام بالآخر، وفك العقدة التاريخية بين الأنا والآخر، وقلب الموازين وتبادل الأدوار، فذلك هو السبيل لإنشاء كيان ذاتي أصيل، وهويّة خاصة محدّدة الأبعاد. وإذا كان التيار الأول يرهن عملية تحديث الفكر العربي في الاندماج بالغرب، والتماهي معه بوصفه مصدراً مشعّاً للحقيقة النهائية المطلقة، دون الأخذ بالاعتبار اختلاف السياقات الثقافية والتاريخية، التي تميّز حاضر الغرب عن حاضر سواه، فإنّ التيار الثاني يبحث عن الصفاء المطلق الذي يستعير مكوِّناته من الماضي شرط الإجهاز على الآخر.
إذا أخذنا في تحليل الأمر تحليلا معرفيا، فلا خلاف بين التيارين من حيث النتائج النهائية للأهداف والمقاصد التي يعلنانها؛ فالذات الآنيّة كائن هلامي، وأمشاج متناثرة، لا تتبلور وتتكوّن إلاّ من خلال الاندماج في الآخر بالنسبة للتيار الأول، وهي بالصفات نفسها لا قيمة لها، إن لم تُبعث فيها عناصر محتجبة في التاريخ البعيد، بانتظار أن تحقن بها، وذلك يقتضي إزالة الآخر؛ لأنه يحول دون الاتصال الحي بذلك النسغ الأصيل. وعلى هذا، فالتيار الأول يعتبر الثقافة الغربية الجوهر الوحيد في العالم، وكل الثقافات أعراض، فيما يقرر الثاني أنّ الجوهر الوحيد هو ثقافة الأصول وكل ما عداها أعراض؛ لأنها ثقافة جذب واستقطاب، فيما ثقافة الآخر ثقافة طرد واستبعاد وإقصاء. التيار الأول يتطابق مع الآخر ويفكر فيه وبه، وينسب إلى نفسه إشكاليات الآخر الثقافية، ويتبنّى مقولاته ومفاهيمه، ووجهات نظره في كلّ شيء، فيما يتطابق التيار الثاني مع ماضيه ضمن تجربة خاصّة تخطّاها التاريخ، ويعتصم بذاته في نوع من التجريد المطلق، الذي تجاوز راهنية الحياة؛ سعياً وراء لاهوت جديد تتطابق فيه المقدمات مع النتائج بمعزل عن المتغيرات التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال.
أردنا- ونحن نضع تحت الأنظار موقفين متباينين فيما يخص واقع ثقافة المطابقة- أن نؤكد على طبيعة النتائج التي ستتمخّض عنها تلك المواقف، في واقع ثقافي تمور فيه التناقضات بكل أشكالها، فالأخذ بالخيار الأول هو، في نهاية المطاف، تقويض لنسق ثقافي محمّل بجملة من الشحنات الوجدانية، والدينيّة، والنفسية، والفكرية، والاجتماعية، بما يستبدل به مجموعة من الأنساق الثقافية التي لها محمولاتها الخاصة ورهن ذاك بهذا، وهو خيار وإن ادّعى التحديث فإنه لا يسهم فيه كطرف فاعل إنما كطرف منفعل، يتلقّى ما يصل إليه دون إمكانية تمثّل حقيقي له. أما الأخذ بالثاني فهو تكريس الحاضر من أجل بنية ثقافية تتصل بنموذج فكري تجاوزه الواقع نفسه، فتحوّل ذلك النموذج إلى سلسلة مفاهيم تمارس سلطتها في الذهن التقليدي، ولا تجد في الواقع القائم الآن إمكانية حقيقية لتطبيق النموذج، ولهذا فإنّ هذا التيار يرهن الحاضر بالمفهوم الذي جرّده الزمن من زخمه، فيصادر ذلك الواقع من أجل البرهنة على صواب المفهوم. ومهما يكن، فلا بد من التأكيد على أنّ الاعتصام بالذات والتطابق معها، لا يقل خطراً عن التماهي بالآخر والتطابق معه. الأول مبعثه التعصب والانغلاق، والثاني الحيرة والضياع، وكلّ منهما موقف ولائي وامتثالي وغير نقدي، ولن يفضي إلاّ إلى مزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه. وسط تنازع هذين الموقفين اللذين يشطران واقع الثقافة العربية الحديثة، يظهر «الاختلاف» الذي كان مغيَّباً، على أنه الوسيلة لتعميق الرؤى الذاتية من جانب، والحوار مع الآخر، والتفاعل معه من جانب آخر، وجعل الحاضر موجّهاً ومنطلقاً للتصورات الفكرية وموضوعاً للبحث والتحليل، وتجاوز السجال إلى الحوار، ونقد الذات الامتثالية، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤة، وقادرة على إنتاج الفعل والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى من المقدرة والإمكانية.
تدشين أرضية صالحة للاختلاف في الرؤية والمنهج، يوجب، بطبيعة الحال، استئناف النظر مجدّداً، اعتماداً على وعي نقدي، بكلّ طبقات الثقافة العربية التي تراكمت خلال العصور التي مرت عليها، وإلى جانب ذلك استئناف النظر أيضاً بمعطيات الثقافة المعاصرة، بمصادرها الكثيرة، والغربية منها على الخصوص، وبدون منظور نقدي-حواري، يصعب تصوّر ظهور اختلاف حقيقي، فالاختلاف انفصال إجرائي عن الآخر، بما يمكّن من رؤيته بوضوح كافٍ، وانفصال رمزي عن الذات بما يجعل مراقبة أفعالها ممكنة. والنقد هو الممارسة التي يمكن اعتبارها دعامة الاختلاف الشرعية، وهو نقد لا يعني بأي شكل من الأشكال إصدار حكم قيمة بحق ظواهر ثقافية لها شروطها العامة، ولا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس في مقدوره استبدال معطىً بآخر بسهولة، لأنه نقد لا يقرّ بالمفاضلة، إنما هو ممارسة فكرية، تحليلية، كشفيّة، استنطاقية، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى.
تنبغي الإشارة أيضاً إلى أن النقد هنا، لا يؤمن بتغليب مرجعية على أخرى، وهو لا يدّعي القدرة على الإجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلّبة من الممارسات المتمركزة على نفسها سواء أكان ذلك على مستوى العلاقات الواقعية أم العلاقات الخطابية. فالنقد أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الإجهاز على ظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، «التفكير الرغبوي»تفكير انفصالي، بطبيعته عن موضوعاته؛ لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها، ولكن ليس التفكير بها. هو نوع من العمل المنهجي الذي يتّصل بموضوعه، وينفصل عنه في الوقت نفسه. يتصل بالمركزيات الثقافية على مستوى اشتغال مفاهيمها، وفروضها، وقضاياها، وإشكالياتها بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، وخلق «ألفة» نقدية من التواصل مع ركائزها وآلية عملها، ولكنه ينفصل عنها؛ لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها وإقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة. بعبارة أخرى، النقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، أن يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخلية لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكوّنة لظاهرة التمركز، ووصف شُحن الغلواء التي تمورُ بها، دون أن يعني ذلك-بأي شكل من الأشكال-انتقال تلك الشُحن إليه هو. إنه يتجاوز التذلّل والولاء، فيُدخل موضوعه في سياق نقدي شامل، دون ادعاء أية حقيقة وأي يقين، كما أنه لا يصدر عن مرجعيات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك.
هذا النقد ممارسة معرفية واعية تنتمي إلى ذاتها، تتوغل في تلافيف الظاهرة الثقافية، وتضيء الأنوار في العتمة الداخلية لها، لتكشف أمام الأنظار طبيعة الظاهرة، وآلية الممارسات التي تقوم بها، سواء في إنتاج ذات تدّعي النقاء، أو في اختزال الآخر إلى نمط يوافق منظورها. والهدف من ذلك، توسيع مديات الوعي فيما يخص طبيعة الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا المعاصر، وتخصيب تشعَّباته، وإعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات دون أسرها في نطاق النزعات التاريخية. إنه، في نهاية المطاف، ممارسة تعي شرط حريتها، وهو تفكير في موضوع التمركز، من أجل إبطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية، وفصل الوقائع المُختلطة ببعضها، والمنتجة في ظروف تاريخية متصلة بـ«الذات» و«الآخر». هو نقد لا يتقصّد إيجاد قطيعة بين الاثنين، إنما ترتيب العلاقة بينهما على وفق أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية؛ بهدف إيجاد معرفة جديدة تقوم على مبدأ الاختلاف الرمزي عن الذات المتمركزة وخرافاتها، والآخر المتمركز ومصادراته. ولا يمكن أن تكون معرفة «الآخر» مفيدة إلاّ إذا تمّ التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الإذعان والولاء والتبعية، وبعيداً أيضاً عن أحاسيس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا.
أخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، فتتشكّل ضمنها، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية؛ لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الإطار المنظّم والمكيّف القادر على إعادة إنتاج تلك العناصر، بما يجعلها مكوِّنات في هذه الذات، وليس جزءا غريبا عنها، ومهيمنا عليها، وما يحصل أنّ تلك العناصر، ستمارس أفعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهذا يقود إلى تعريض مكوِّنات الذات إلى انهيارات داخلية؛ لأن تلك العناصر نُضّدت جنباً إلى جنب، ولم تركّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد المعرفي أن يسهم في تغيير مسارات التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية؛ فالثقافة العربية أصبحت حقل صدامات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات المستعارة، وذلك سببه، فيما نرى، عدم الاهتمام بمسار تلقّي الأفكار الذي يؤدي إلى أن تحافظ المكونات الغريبة على نفسها دون الانصهار في نسق الثقافة الجديد الذي يحتضنها. وهذا الأمر يتصل بموضوع التمركز، فالأفكار تمارس أفعالها المتمركزة إذا لم تندمج في أطر الثقافة الأخرى على أنها مكوِّنات فاعلة فيها. وبالنظر إلى أن التمركز ظاهرة ثقافية-باعتبار التمايز بين الطبيعي والثقافي- فإنّ كل خروج على ما هو طبيعي يندرج في مجال الثقافي، وعلى هذا ينبغي استبعاد العامل الطبيعي من شبكة التمركز؛ لأن التمركز متصل بالمنظور الثقافي للإنسان في رؤيته لذاته ولغيره. التمركز نسق ثقافي محمّل بمعانٍ ثقافية(دينية، فكرية، عرقية) تكوّنت تحت شروط تاريخية معينة، إلاّ أن ذلك النسق سرعان ما تعالى على بعدهِ التاريخي، فاختزل أصوله ومقوّماته إلى مجموعة من المفاهيم المجرّدة التي تتجاوز ذلك البعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وهو تكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدّد، يؤدّي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات، ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل، سواء في استكشاف نفسها أو في معرفة الآخر، ويشمل ذلك الذات المفكّرة الواعية لذاتها أو تلك الذات غير الواعية التي تقيم تصوراتها على نوع من المخيال المنتج للصور النمطية لها ولغيرها.
لا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب التاريخية، إنما- وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز-لا بد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوّهة للآخر. وبين الذات الصافية التي تدّعي النقاء المطلق، والآخر الملتبس بالتشوه الثقافي(=الديني، والفكري) ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات؛ فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنّه أيديولوجيّاً يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة متجانسة لها منظور واحد. النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها؛ لأنه يتتبّع بدقّة الممارسات الملتوية والملتبسة للمفاهيم التي تكوّنها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيّئ لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل، ومتجدّد، ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكوِّنات الثقافية المنتجة، أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط التاريخية للذات الثقافية. وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجردة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارّة وكونية في آن واحد، فإنّ الهوية الثقافية التي تقوم على الاختلاف لا تقرّ بالثبات، ولا الشمول، وتحرص على بعدها التاريخي، وفيما تصطنع هوية الثقافة المتمركزة أصولاً عرقية، ودينية، وفكرية توافق مضمونها، فإنّ هوية الاختلاف المركّبة من موارد عدّة، تتجنّب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز؛ فاتصالها بالركائز المذكورة اتصال تاريخي طبيعي ليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية المختلق، الذي يفترض الصفاء المطلق والديمومة. هوية التمركز تدّعي الصفاء المطلق، فيما هوية الاختلاف رمادية، تمتزج فيها بتفاعل تام الأطياف المتنوعة، والمؤثرات المتعدّدة. وفيما تقوم هوية الثقافة المتمركزة بطمس كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية كما أنتجتها تلك الثقافة واستبعادها، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية، فإنّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكوِّنات فاعلة فيها، وهي تمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها وغيرها.
إنّ نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف، وتوفّر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها، بعد أن انقسمت إلى تيارات متضادّة لاتتشارك في المفاهيم والتصورات الأساسية، وكل هذا يسهم في إضفاء نوع من العدميّة على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها الخاصة. إنّ التنوّع الخلاّق لمكوّنات الهوية له دلالته لأنه يركّب تصوراته بمقدار ما يسعى لأن يتفاعل مع الثقافات الأخرى، ويختلف عنها في الوقت نفسه، ضمن إطار عام له قدرة على التعدّد والحوار والتواصل بما يغني فروضه، ويخصّب من إمكانات التجدّد فيه؛ وذلك بهدف أن تكون ثقافة لها أثرها في عالم تشكّل الثقافات المتنوّعة فيه عنصراً أساسياً من عناصر الوجود.
لابد من التأكيد على أن ما يمور به العالم من تنازعات كبرى مرجعه-في الغالب-الانحباس في تصورات مغلقة، وقد دار جدلٌ طويل وعميق حول تفسير تلك التنازعات، أقصد تلك التنازعات التي توجّهها أيدلوجياتٌ كبرى، وتغذيها رؤى تستند إلى تصوراتٍ ثقافية أو دينية أو عرقية، وانتهى الأمرُ إلى الأخذ بتفسيرين: أولهما صراعُ الحضارات، وثانيهما صراعُ الأصوليات، وفي موضوع جدالي مثل هذا تترتب فيه النتائجُ في ضوء زاوية النظر، ليس المهمُ الاتفاقَ الاصطلاحي حول المفاهيم فحسب، إنما المهمُ أيضا الاتفاق على الحيثيات الموجّهة لتلك التنازعات، ومع أن المجتمعات في العصر الحديث طوّرت ما يكفي من أسباب التنازع كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبدادِ، والاستغلال، والمصالح، لكن الأمرَ الذي يقترحه هذا البحث، هو أن التنازعاتِ الكبرى هي نتاجٌ لمركزيات ثقافية وجدتْ لها باستمرار تسويغا ودعما من أطراف التنازع، وبسبب غياب النقد الذي يجرّدُ تلك المركزياتِ من غلوائها، في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلّبتْ تصوراتُها، واصطنعت لها دعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدّت إلى زرع فكرةِ السموِّ والرفعةِ في الذات والدونيةِ والانتقاصِ في الآخر، ومع أن كثيرا من أطراف العالم تداخلتْ في مصالحِها، وثقافاتها، وأفكارِها، لكن ضَعفَ الفكرِ النقدي حال دون أن تتلاشى المركزياتُ الكبرى.
إلى ذلك ينبغي الالتفات إلى قضية أخرى متصلة بالموضوع، ولاتقلّ أهمية عن فكرة المطابقة والاختلاف نفسها، لأنها الحامل الذي تحمل به المركزيات حمولاتها الفكرية، قصدتُ بذلك الوسائل المعبّرة عن أفكار التمركز، إذ أنتجت المركزيات الثقافية مرويات كثيرة تضمنّت تصوّرات شبه ثابتة للأعراق والثقافات والعقائد، وكانت تلك التصورات تمثّل معيارا يتدخّل في رفع قيمة ما أو خفضها لدى أي مجتمع أو ثقافة أو عرق. وليس خافيا أنّ الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي مكانة رفيعة عليها أو تسلبها مكانتها الحقيقية، والصور التخيّلية المتشكّلة في أذهان المجتمعات، بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية، وتباين المنظومات القيمية، والأنساق الثقافية، أدّت إلى ترسيخ أفكار منقوصة عنها، فشاعت فيها الصور النمطيّة. ومادامت تلك المرويات توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والاعلاميّين والأدباء والفنانين، وكلّ مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر، وبخاصة المدونات الوصفية والسردية والعجائبية، فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف.
العودة إلى المرويات الكبرى(نقصد بالمرويات هنا كل تعبير يقوم بوظيفة تمثيلية للمرجعيات الثقافية والعرقية والدينية، بغض النظر عن الصيغة) تبين بجلاء أن صورة الآخر في الثقافات المتمركزة على نفسها مشوّشة، ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال المعبّر رمزيا وتمثيليا عن تصور المجتمعات لنفسها وغيرها، قد أنتج صورا تبخيسية للآخر. فالآخر-كما قامت تلك المرويات بتمثيله- غفل، مبهم، بعيد عن الحق، وهو بانتظار فكرة أوعقيدة صحيحة لإنقاذه من ضلاله ودونيته. ولا تخفى التحيّزات الخاصة بذلك التمثيل، فهي واضحة، وتكشف التنميطات الجاهزة للذات والآخر على حد سواء.
اتصفت المرويات الكبرى بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها، والنظام الفكري المهيمن فيها ينظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة قارّة، فالإحساس بالتغيّر محدود جدا، وثمة ثقة شبه كاملة بضرورة خضوع الظواهر البشرية، والثقافية، والدينية، لتفسيرات مركزية مطلقة، وغير خاضعة للتغيرات الزمنية، الأمر الذي جعل المعرفة في الثقافات المتمركزة على نفسها هشّة، وضعيفة، وتنطوي على تناقضات كثيرة، لم تصمد بوجه النقد؛ لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة في سياقاتها الثقافية والتاريخية، ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة، وغير متكاملة، ومتعالية على شرطها التاريخي، فمن الطبيعي أن تتّصف عموما بالنقص وعدم الإحاطة بموضوعاتها، والاختزال الواضح في الأسس التي تقوم عليها.
يقيم التصور التقليدي للآخر الذي تنتجه المركزيات الثقافية معرفة تخيلية ملتبسة مع نفسها، يتمّ تعميمها وفرضها استنادا إلى السجال، وليس التجربة والمعاينة والاكتشاف المباشر، وقد لا تراعى في كل ذلك الجدوى المستخلصة منها، ولا الهدف المراد تحقيقه، سوى الامتثال للفكرة الراسخة القائلة بالتفاضل، فالأنا مفعمة بقيم سامية، والآخر يفتقر إليها، الأنا فاعل، والآخر منفعل. حينما تصهر معا كل العناصر المكونة لظاهرة ما، يمكن الحديث عن اقتراب إلى حقيقة الشيء. وقد تضافرت المرويات من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذتْ شكلين:ففيما يخص الذات أنتج "التمثيل"ذاتاً نقيّة، وحيويّة، ومتعالية، وفعّالة، ومتضمّنة الصواب المطلق، والقيم الرفيعة، والحق الدائم؛ فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية المنتقاة على كل الأفعال الخاصة بها، وفيما يخص الآخر أنتج "التمثيل" "آخر"يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً، والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية، وبذلك أقصى كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، واستبعد أمر تقبّل النسق الثقافي له، فحُمّل الآخر، من خلال تفسير خاص، بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم السائدة. وبذلك اصطنع "التمثيل" تمايزاً بين الذات والآخر، أفضى إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني، وتخليصه من خموله، وضلاله، وبوهيميته، ووحشيته، وإدراجه في عالم الحق.
يندر الحديث عن تمثيل محايد، فالمرويات الكبرى لا تنقطع عن مرجعياتها الثقافية، وهي سرود شاملة لا تعرف البراءة في التمثيل، وليست شفافة، إنما تشتبك مع مرجعياتها في نوع من التمثيل الكثيف، وتصوغها صوغا رمزيا، فترْشَح من تضاعيفها كلُّ المواقف القيمية والثقافية. هذه الآلية التي وفّرتْ اعتصاماً بالذات وتحصّناً وراء أسوارها المنيعة، وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية، هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات، فالتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات، ويحصر نفسه في منهج معين، ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته، ويوظِّف كلَّ المعطيات من أجل تأكيد صحة تلك المقولات. ويحتاج هذا النمط من التفكير إلى نقد متحرّر من أية مرجعية ثابتة، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية، فالمرجعية التي يمكن اعتبارها الموجّه لعمله هي الممارسة النقدية التحليلية الجريئة التي تتعرّض لفكّ التداخل بين الظواهر التي تلازمت فأوجدت هذا التفكير الذي يقوم على الرغبة والحاجة، وليس على جمع المعطيات الكلية التي توفر له درجة من الموضوعية، والحياد، والصدق، والكفاءة.
تغلغل هذا التمثيل في تضاعيف التصورات العامة، وتحكّم في توجيه الأفكار وصوغها، وركد مطمورا، ولكن بفاعلية كبيرة، تحت أكداس الخطابات، والتصورات، والتخيّلات، والممارسات، فحَجَبَ، ولمدة طويلة، كلّ إمكانية للبحث في أمر تعديلها. وهو أمر يوجب إعادة النظر مجدّداً في كثير مما اعتُبر من المسلّمات الثقافية، من أجل كشف فداحة الأوهام، وخطورة المصادرات، ثم القيام، وبكيفية جديدة، بطرح القضية الملتبسة دائماً، قضية "الأنا"و"الآخر"، ليس بوصفها قضية تاريخية انقضى عصرها، إنما باعتبارها ممارسة فكرية نقدية متجدّدة، تقوم بتحرير الذات من أوهام التمركز والتفوّق والأفضلية، عبر نقدها من أصولها، وفكّ الالتباس الناشئ من علاقة غير صحيحة مع الآخر. تمارس الأصول ضغطا شديدا في تحديد مجال الأفكار، ونمط المواقف، ونوع التصورات. تمثل تلك المرويات ذاكرة يصار إلى استعادتها طبقا لحاجات متّصلة بالوعي الجماعي في ظروف معينة من أجل أهداف مشتركة، والصور المتشكّلة في المخيالات ليست موضوعا أغلق عليه كتاب الماضي، إنما هي قضية تتصاعد بفعل التوتّرات المعاصرة، ويتم استخدامها نفسيا لإعادة التوازن، فالماضي يُدفع به ليكون جزءا من صراعات الحاضر، وهذا الاستخدام لمعطيات الماضي، يجعله مباحا، وقابلا للاختلاق في كل موضوع يستعصي على الحل، وهو، فيما نرى، يحجب النظر عن القضايا الحسّاسة، ويتسبّب في عماء دائم، يحول دون التفكير الموضوعي بالواقع .
وينبغي أن نؤكّد على أن كلَّ مركزية تقوم على فكرة الاختلاق السردي الخاص لماض مرغوب يُشبع تطلعات آنيّة، ويوافق رغبات قائمة، فهذه سُنن المركزيات، وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطَنع ذاكرة توافق تلك التطلّعات، أو يتم تعويم حقب معيّنة من الماضي، لغايات خاصة. إنّ الأمثلة في عالمنا المعاصر أكثر من أن تحصى في مجال اختلاق ذاكرات تاريخية وعرقية ودينية، والبحث المسكون بأوهام كبرى للانتساب إلى ماض عريق كمعادل موضوعي لوهن قائم، أو للتعبير عن قوة جبارة منفلتة، أو لانتزاع شرعية في عالم محتدم بصراع الهويات والتطلعات والآمال، ومُشبع في الوقت نفسه بحالات انكسار للقيم التقليدية الموروثة، وانهيار لنسق العلاقات القديمة، هذا البحث المتوتر يضخّ رغبات دائمة تريد استخدام الماضي استخداما أيدلوجيا بما يضفي على الأنا سموّا ورفعة، والآخر خفضا ودونية.
إنَّ قراءة المرويات في ضوء هذه الحاجات، تسهم في هذا الضرب من الصراعات، فالأمم تتساجل فيما بينها-أيضا-عبر الصور الاكراهية التي تشكّلها بوساطة سرود تركّب صورا مشوّهة لغيرها، وقوامها إنْ هو إلا نسيج متشابك من المرويات الخاصة بها عن نفسها، وعن الأمم الأخرى. وغالبا ما تحمل تلك التصوّرات عبر التاريخ مدوّنات وصفية أو تخيلية، تتوارى فيها الصور الكلية للمشاعر والتطلعات والتجارب، والقيم الدينية والنفسية والأخلاقية. واستنطاق تلك المتون إنما هو استنطاق لذاكرة. ونقدها إنما هو محاولة لوقف استخدامها كأيدلوجيا حيّة في نزاعات معاصرة، ولم يكن تشويه الآخر، قد أثمر عن فائدة حقيقية، ولن يكون ممكنا وقف ذلك إلا استنادا إلى رؤية نقدية تكشف ذلك النسغ المتصاعد في الفكر والسلوك المعاصرين. وكشف الصور المشوهة للآخر، ونقدها لا يراد منه سوى تفريغ الأوهام المستبّدة بنا، والتأكيد على ضرورة النظر إلى التاريخ والثقافات، نظرة تستبعد أية إمكانية لإغفال التدرّج التاريخي الطبيعي للأمم، وهو يسهم، كما نرى، في وضع مسافة نقدية تمكّن من كشف انخراط فهمنا النقدي في عمل خطير، وهو يريد ألا نظل أسرى التطابق مع صور جاهزة وشائعة، إنما التفكير في نوع من الاختلاف، وهذا الاختلاف يقتضي النظر إلى الذات والآخر بعيدا عن التحيّزات الأيدلوجية الجاهزة.
يعرض هذا الكتاب الرواية الغربية والإسلامية للذات والآخر، مؤكّدا على فكرة أساسية، وهي أن المركزيات تُصاغ استنادا إلى نوع من التمثيل الذي تقدمه المرويات الثقافية(=الدينية، والأدبية، والتاريخية، والجغرافية، والفلسفية، والأنثروبولوجية) للذات المعتصمة بوهم النقاء الكامل، والآخر المدنّس بالدونية الدائمة، فالتمركز هو نوع من التعلق بتصوّر مزدوج عن الذات والآخر، تصوّر يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكّل عبر الزمن بناء على ترداف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة. تكشف التحليلات المعمّقة للمرويات الكبرى الطريقة البارعة للسرود التي تنتظم حول حبكة دينية أو ثقافية أو عرقية مخصوصة، فتخضع كل عناصر السرد لخدمة تلك الحبكة التي تظل يقظة في إثراء تمجيدي للذات، وخفض تبخيسي للآخر، وهذا يسوّغ لنا أهمية الانطلاق من واقع العالم اليوم من أجل كشف الأسباب التي تتبلور فيها أفكار التمركز، كما هو الأمر بالنسبة للمركزية الغربية، أو الأسباب التي يعاد في ضوئها أمر توظيف المركزية الإسلامية في الرهانات والسجالات القائمة في عصرنا.
النظر إلى المركزيات الكبرى في التاريخ الإنساني من زاوية كونها نتاج مرويات ثقافية متنافسة يوسع المجال أمام الدراسات المخيالية التي استبعدت بتأثير من فكرة الحداثة الغربية، الحداثة التي لا تعدو أن تكون رواية من نوع خاص للتاريخ أنتجها المخيال الغربي المتخفّي تحت غطاء العقلانية في ظل ظروف خاصة، وهذه النظرة إلى المركزيات تسعى إلى إعادة الاعتبار للمرويات الثقافية التي تتوارى أحيانا وراء الستار السميك للمفاهيم والمناهج فتأخذ شكل تحليلات موضوعية، أو تتجرّد غالبا عن ذلك فتكون مرويات سردية، فيما هي تخفي دائما درجات من التمثيل السردي الذي يتدخل في صوغ العلاقات الإنسانية، والمفاهيم الفكرية، والتصورات الخاصة بالأنا والآخر).