القاهرةمن سعد القرش:في ديوان "زلة أخرى للحكمة" للشاعر الاردني جريس سماوي استعادة للتاريخ تنطلق من ايمان بدور القصيدة في اعادة انتاج الاساطير وصياغة الوقائع التاريخية بهدف الوصول إلى الغاية والجوهر بدلا من الاكتفاء بمجرد اعادة سرد الاحداث. فقبل تصفح الديوان يشعر القاريء بأنه بصدد قصائد تشتبك مع موروث ديني حيث يثبت الغلاف الأخير اعترافا ممن يقول إنه من "بقايا النساطرة التائهين" في اشارة إلى أتباع نسطور بطريرك القسطنطينية عام 428 والذي حرمه مجمع افسوس عام 431 . والاعتراف جزء من قصيدة (الصديق) يقول.. "خانني أسقفي ورعاتي ومدى الابرشية ضاقت بي ملتي./ النساطرة انقرضوا يا بني / ولكنني يا أبي لم أزل./ ان روما التي سرقت ديننا / مثلما سرقت حنطة الروح من كل أهرائنا / لم تزل تستبيح الذرى / هل ترى يا أبي / هل ترى.."
ويضم الديوان الذي أصدرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت قصائد كتبها الشاعر بين عام 1987 و2004 في 174 صفحة من القطع المتوسط. ويبدو جريس سماوي مسكونا بحكايات وأساطير إذ تتناثر في قصائده مفردات ذات ايحاءات أو دلالات دينية أو أسطورية أو تاريخية منها (البسوس) التي سميت باسمها احدى أطول الحروب في الجزيرة العربية قبل الاسلام. و(ثور جلعاد) في اشارة إلى جبال زراعية في منطقة البلقاء في الاردن ذكرت في العهد القديم.
ففي قصيدته (خيانة الفضة) يقول "فضتي / بثلاثين منها استبيح دم الشمس / بيع / وأهداه بائعه القبلة الشائنة / ثم أغفى على جرحه / ورماه الظلام / بحربته الطاعنة/ فضتي خائنة."
وتتناص هذه القصيدة مع واقعة أثبتتها الأناجيل حين أعطى يهوذا علامة لرؤساء الكهنة الباحثين عن السيد المسيح كما في الاصحاح الرابع عشر من انجيل مرقس. إذ كان يهوذا "أعطاهم علامة قائلا الذي أقبله هو هو. أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلا يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه."
وفي الاصحاح الثاني والعشرين من انجيل لوقا "فقال له يسوع يا يهوذا أبقلبة تسلم ابن الانسان."
ولا يبدو اللجوء إلى استعادة واقعة ما نوعا من الاحتماء بالتاريخ إذ لا يراهن سماوي إلا على الشعر الذي يسفر عن نفسه في مواقف تبدو مألوفة كما في قصيدته (كرسي الاعتراف). وفيها سرد شعري حول كاهن يستمع وهو مستغرق في وقاره بالكنيسة إلى أخطاء تبدو صغيرة يذكرونها على الكرسي..
"لذنا إلى مقعد الاعتراف / أختنا الراهبة / الفتاة العفيفة الواهبة / نفسها للنذور./ رأينا أنوثتها من خلال ثقوب الجدار / تسيل هناك على درج الدير / لذنا سريعا إلى الاعتراف..
أبانا الذي في السماء / أبانا الجميل الحبيب الغفور المقدس / اغفر لنا يا أبانا / سرقنا النبيذ المقدس / ثم شربناه حتى ثملنا / أبانا رأينا بقصد ) بكامل شهوتنا / جسد الراهبة / ولمحنا كما يبرق الضوء فضتها العارية."
وفي القصيدة اشارة إلى أن الانسان يكتمل بنقصه وبأخطاء صغيرة تؤكد بشريته. ويستوي في ذلك الجميع كما تقول القصيدة في جزئها الأخير..
"وذات مساء / وبعد اعترافاتنا / ونداماتنا / رأينا أبانا / ذا الحجى والمهابة / يلصلص من فتحة في الجدار / على جسد الراهبة / فلذنا إلى هيكل الرب / نسرق منه النبيذ المقدس / حتى نطهر أبصارنا / يا أبانا."
ويؤرح سماوي لتاريخ كتابة قصيدة (كرسي الاعتراف) بعام 2001 وتحمل القصيدة التالية لها بالديوان تاريخ عام 2004 وعنوانها (امرأة متخيلة) وتبدو كأنها مراة لسابقتها حيث يسفر الجسد عن رغباته.. "وهي الخبيئة خلف أستار المواعظ والتقاة / عينان عاريتان / حائرتان بالمعنى ( وخلف نقابها أسرارها / كشف واخفاء / نسك واغواء / والكحل مبلول بأسرار النعاس / وخمارها بوح الحواس إلى الحواس."
وليس الشعر مجرد كلام يخلو من موقف لشاعر يبدو كالنذير في قصيدته (زبد الموج) التي تبدأ بكلمتي "أيها الناس" ويقول فيها "العدو يقاسمني الماء / والشاطيء الضيق المرتخي عند باب المضيق / وأنا لا أفيق / نائم فوق رمل المرارات / حولي انكسارات أهلي." كما يهدي جريس سماوي قصيدته (هو ذا يولد من جديد) المؤرخة بعام 1988 إلى "أطفال الانتفاضة الفلسطينية" في اشارة إلى الانتفاضة الأولى التي انطلقت في أكتوبر تشرين الاول عام 1987 وفيها يؤرخ لتحولات اعتبرتها القصيدة احدى ثمار الانتفاضة.
"الطوابين صارت مصانعنا / والدخان الخرافي يصعد / نحو السماوات مثل ابتهال المساء./ الجميلات عدن من الحقل / غادرن تين البساتين / ودعنها / وجلبن السلال وعبأنها بالحجارة والاغنيات / الصغار أتوا مثل نهر الضياء أتوا من جميع الجهات / شغب رائع يملأ الطرقات / الممرات تكتظ بالشدو / ثم ملائكة أشقياء / تمر وتتلو صلاة الحجارة / تركض خلف جنود يفرون / هذا ضجيج بهيج يلاحق جيشا / صغار يدوسون زهو البساطير والارض في نشوة تبتهل."