في مجموعته الجديدة "مازلت تشبه نفسك2004" يعيدُ الشاعرُ خالد جمعة إيصالَ العلاقة بين الذات الفردية "مازلت تشبه نفسك"، والشارع العام " فراغ على الخارطة فراغ في الخارطة". وبهذا الصدد أشيرُ، من بابِ التعريج على النقد التكويني، إلى أنني كنتُ قد قرأتُ هذه المجموعة الجديدة للشاعر وهي مخطوطةٌ، وقد كانت- وقتئذ- تحمل عنوان "فراغ على الخارطة.." ما ولّد تعاطياً واستجابةً وانفتاحاً فيما بين اختيارِ العنوان الأوّل ومضمون الداخل، وبين المخطوطة بعنوانها ومحمولاتها والمتلقي من جهة أخرى. يذكر أنّ عنوان المخطوطة، هو في الأصل عنوانُ نصّ داخل المجموعة، إذ النصّ، المشار إليه، بمثابة الركيزة والوعاء الواسع لـ"خطاب" الشاعر في هذه المجموعة. أو "ما يسميه الناقد السويسري جان ستاروبنسكي بـ"سطح التماس" contact surface. وهو المكان الذي يلتقي فيه القاريء مع النصّ، حيث يبدو التفاعل بين العنصر الداخلي والعنصر الخارجي".(محمد شاهين، الأدب و الأسطورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر1996، ص33). غير أنّ صدور المجموعة وتداولها وهي تحمل -الآن- عنوانَ " مازلتَ تشبهُ نفسَك" إنما يولّد، من جديد، عناية الشاعر بتقييم النفس منذ العنوان المنوط بالعلاقة الدائمة بين الفردي والعامّ، بل وتأثير (الموضوعي) الواقع العام الواضح على (الذاتي). [هَوَى شرطيٌّ من ذاكرة ذاكرتي إلى خزانة الملابس* احترتُ بينَ لونِ القميصِ ولونِ الشرطة/ أحْجمتُ، عارياً، عن الخروج ذلك المساء](ص67)- وإنْ كانَ العنوانُ الجديدُ يحمل دلالةً ذاتيةً وفرديةً في تعدّد تأويلها بمرونة تدينُ لمركزية وفردية الشاعر. هذا، وكنا قد قرأنا للشاعر مجموعتين سابقتين هما: " نصوص لا علاقة لها بالأمر " 1999"، و " لذلك "2000"، ما شكّل، ذلك، خدمةً توفّرتْ في صيغة العناوين المختارة بوعي فردي خالص ينطوي على سعي الشاعر للاختلاف وتحقيق الخروج عبرَ اختياراته الفائقة الخاصة، لعناوين مجموعاته، في المتلقي، للوهلة الأولى. فيما النظرة المحايثة، دائما، هي تنفي، وعلى الدوام، إشاراتِ الشاعر من قبل القاريء. لكن، وعلى أية حالٍ، فإنّ الشاعرَ في ارتفاعٍ وخروجٍ وترفّع حثيث ومقتدرٍ عن المشاركة في كتابة النصّ الظرفيّ الحافل بطقوسه ومشاهده البارزة والمباشرة. إذ هو يكتب النصّ وهو في حالةِ عدم الإصغاء الدائم، لكن الإنصاتَ الأدقّ للمشهد المعلن في الشارع. والآنَ في " مازلت تشبه نفسك " نلاحظ حضوراً جيّداً وواضحاً لكتابة نصّ الظرف؛ لكن، كما نؤكّد دائماً، ليس المباشرَ: بمعنى ليس المتكلَّم(بفتح اللام) جماهيرياً.[أيها النصّ الذي يستفز السكون لحظة الحاجة الكبرى لأن نكون بلا أذنين. الصمت ما أعني. كيف سأتكلم لغة الجماهير فيما خطوات العاشقة تطاردني في الشارع الصغير الممطر. ولم أجد لغة نفسي كي أجدها وأخرج من ثوب الظل صائحا مثل "أرخميدس"](ص76) إنّ الكتابة لدي خالد جمعة تلمسُ لغة الشارع من ضمنه وصميمه، وتلامسُ ألمَ اللغةِ المستمر، وتأخذ منها ما يجعل الكتابةَ تملأُ ذاتَها[الكتابة أعمق من ذاتها](ص69). وكاشتغالٍ لا واعٍ ذكيٍّ على إبداعِ المفارقة داخل اللغة - بين اللغة والكتابة_ يميلُ الشاعرُ بالكتابة إلى التبسيط، فيما الكتابة وحركة الإمالة لديه محفوفتان بالمداليل المستبطنة؛ إذ نحنُ نقرأ من ذلك التبسط دعوةَ الشاعر لتبيسط الحياة بغية سحب الظرف من تعقيداته المألوفة، والتعايش مع المعطى الواقعي بأقل إرباك وارتباك. بكلّ ذلك يريد الشاعرُ ترجمةً لمفهوم الحياة بما في وعائها من حدّة ورموزٍ وممارسات. ذلك أنّ نصّ "فراغ في الخارطة فراغ على الخارطة" يشير إلى رهينةٍ دائمة(الخارطة) تتألّم وتُؤلمُ، وتكشف، صراحةً، عن المآزق العام[الخيار في الشارع مُهلِك]، وتكشف عن تفاقم التحوّل وسرعته والإرباك في هذا الظرف ذي الآصرة القوية بالظرف الكلّي الجسيم. وبلغة المَناطِقَة، فالخارطة موضوع أو قضية والمحمول فراغ، وثمة علائقية بين الفراغ والخارطة(المكان+الزمان) والاستمرار. هنا على محمل الذهنية يركّب جمعة المشهد بالكتابة، بسطور مرتّبه، مُسردة تحضر معظمها في نطاق نحوي صورته الفعلُ المضارع. وفي النطاقين النحوي والموضوعي نجدُ مزاحمةً و تكثيراً وتنويهاً، بل ومسرحةً للقضايا والمحمولات. إنّ بنية السرد وكتابة الحراك في هذا النصّ تأتي عشيةَ الإنصاتِ الأدقّ لمطالبة الصوتِ الداخلي بتأليف التعايش مع الظرف الموضوعي – خارطة الفعل التي تفعلها أيدي وآلة "الآخر" في مواجهة الاستحقاق الوطني في هذا النطاق الفيزيقي والزماني ، في.. وعلى الخارطة.

الخيارُ في الشارعِ مُهْلِكٌ * الفتى لم يعد
يسوعاً* على دراجة المشهد يتنقل في الشرود
الأخير* يسمعُ غير ما اعتاد أن ينصت إليه
جوار الحياة يوماً بيوم* الناي مزعجٌ يجرحُ
خوف المشهد من الناظرين* وربما لم يعد
لعشر رصاصاتٍ زائدةٍ أي معنىً* أيها الجيشُ
لماذا أنت جادٌّ فيما نمزح فيه* ضحكَ الجنديُّ:
خطابُكَ لأيّ لونٍ غير البياض*
يا بني: عليكَ أن تحدّدَ لون الجيشِ كي تخاطبَ
نَفَقاً لا يؤدي إلى المعنى* المعنى أخيراً تجرّدَ من
قُدرَتِه * صاحبُ المقالةِ لا يهتم إلا بحجم الخطّ
في الجريدة* والجيشُ يهتم بأشياءَ أكبر من
حجمِ الخطّ ومن طريقة سقوط المتظاهرين*(ص14)

وفيما يؤكّد ويؤشّر الشاعر، بمعنى ضمني، على حتمية الحياة والسيرورة في خارطة الحياة وعليها؛ تغيب الأنا الفردية تماماً ويحفل المشهد بحوارات وتظاهرات ومناكفات وسُخْرِيّات في إطارها المتواضع والمتصاعد، المعلن والملغّز في الشارع (الفتى، دراجة المشهد، الناي، الناظرين،، عشر رصاصات، الجيش ، الجندي، صاحب المقالة، المتظاهرين)، وهذا من جديد يكشف عن توجه شعري يمرّ على تعقيدات الخارطة بإمكانيات المسرح والسخرية والأسئلة المشمولة داخل أبنية الخطابِ الذي يحرص على كتابة الحراك وتلوين المشاهد بما يخدم القولَ بأنّ الحياة تستمرّ.

* أيها الجيشُ
لماذا أنت جادٌّ فيما نمزح فيه* ضحك الجنديُّ:
خطابك لأي لون غير البياض*

فالشاهد السابق سؤال جوقة: "أيها الجيشُ لماذا أنت جادٌّ فيما نمزح فيه". يردّ الجنديُّ بالسخرية وبتخصيص الرد للمخاطب الفرد: "خطابكَ لأي لونِ غير البياض"!. أيضا، لنا قراءة في جمال وموضوع الاستبدال في المخاطبة بين "النحن= الجوقة" وبين "الجيش= الجندي الفرد"؛ فـ "النحن"" تسألُ "الجيش" عن الجدّية التي يتخذها الأخيرُ "الآخر" في التعامل، ففيما الـ الأنا الجمعية الـ"نحن" تقول: "نمزحُ"؛ يتعجّل الجنديُّ بمفردِه ساخراً من "النحن" التي تظهرُ، بدورها، جادّةً في الطرف الآخر من ردّ الجندي على السؤال بصيغة سؤالٍ ينطوي على الجدل والمناكفة: خطابكَ لأيّ لونٍ غير البياض؟

يتابع الشاعر:

المشهدُ يتحوّل سريعاً من أبٍ يبحث عن ابنته
التي شذّت واخْتَلَطَتْ بالشبَّان الشبقين رغم
أنهم يقاتلون إلى ابنةٍ تبحث عن أبٍ سقطت
ملامحه على الإسفلتِ دون داعٍ* تعلنُ
الفضائيةُ عن مكيِّف الهواءِ الجديد* يتركُ
الفتى موقعه ليشتريه* كان شعورُ أمِّه بالحرارة
يُقْلِقُهُ* لكنه سقط في الطريق إلى المكيّفِ*
ولحسنِ الحظِّ لم يَمُتْ تماماً.

وهكذا نرى أنّ الكتابة البساطة؛ تسعى، في الوقت ذاتِه، إلى بلاغة وتبليغ المعنى، وهي كما اسميناها، منذ وهلة، بـ"كتابة الحراك" نجدها في التفاعل وصورِ التحوّل والاستبدال: من أب يبحث عن ابنته التي شذّتْ واختلطتْ بالشبان (رغم أنهم يقاتلون) إلى ابنة تبحثُ عن أبٍ سقطت ملامحُه على الإسفلت دون دَاع. وبتلخيص آخر:
- أب يبحثُ (الآن) عن ابنته التي شذّت واختلطت بالشبان(ماضي)
- ابنة تبحثُ (الآن) عن أبٍ سقطتْ ملامحه على الإسفلت دون داع(ماضي)
هكذا، إذن، هي كتابة الحراكِ إنها "تثيرُ الإعجابَ لكن بمفهومٍ"، ومعنى قادر على تبليغ ذاته في بساطة البنية النصية؛ التي تحمل، فيما هي تبلّغُ، القدرةَ على التأقلم والتبسيط [ الهمّ لم يكنْ همّا متأقلماً مع الفتى القادرِ على اللعب مع الروح التي تنفصل عنه وتعود إليه كقطة صغيرة* لم يدخل فلسفة عالية ليعرف حالته كما تقتضيها الإذاعة] (ص14) و على إنها بالأحرى بنية فوقية مترفة من الداخل متواضعة من الخارج.