عمارة الحداثة المتجددة

ثمة إنجازات معمارية حقيقية يمكن للمرء أن يتلمسها في مسيرة العمارة العراقية الحديثة. وهذه الإنجازات التي تركت بصماتها وآثارها بوضوح على تطور الفكر المعماري المحلي، كان ظهورها وتحقيقها الفعلي رهيناً دائماً بوجود إما "مؤسسات تصميمية" متكاملة، أو من خلال نشاط معماري "شخصي متفرد". وعمارة عبد الله إحسان كامل (1919 -1985)، الذي نستعيد هذه الأيام ذكرى مرور عشرين سنة علي رحيله ، تقع ضمن المفهوم الثاني، فقد مثل بطروحاته التصميمية وصدقه وإخلاصه المهنيين حالة مؤثرة من العمل المعماري الجاد والدؤوب والمقتدر. بحيث أمسى عطاؤه المعماري بمثابة الحدث المهم في مجمل النشاط التصميمي لثلاثة عقود في الأقل من ميدان الممارسة الاستشارية بالعراق!ولقد بات واضحاً الآن، (وأزعم بأن هذا الوضوح سيتكرس بصورة أدق مستقبلاً) مدى أهمية الخطوة الجريئة والطليعية التي خطاها عبد الله إحسان كامل، في مهمة إرساء المفاهيم الجديدة وتثبيتها في الممارسات المعمارية المحلية، بل وربما عد دوره التجديدي وتأثيره في النشاط المعماري العراقي بمنزلة أولئك الرجال المجددين الذين تقترن أسماؤهم عادة بمراحل مهمة وخطيرة ومتميزة في ثقافة بلادهم وشعوبهم!!.

يمكن للمرء أن يلحظ في بواكير أعمال عبد الله إحسان كامل ذلك التوق الشديد والرغبة العارمة (العارمة حقاً بكل مدلولات هذه الكلمة) للسير بالعمارة المحلية نحو آفاق جديدة وغير مطروقة وقد ظل هذا الهاجس النبيل يلف ويكتنف جميع أعمال " عبد الله " منذ رجوعه إلى العراق سنة 1943 (بعد أن أكمل تحصيله ونيله شهادة بكالوريوس عمارة من ليفربول بالمملكة المتحدة) وحتى اعتكافه الطوعي عن الممارسة الفعلية في منتصف السبعينيـات. عندما تتهيأ الظروف المناسبة وتتجمع تراكمات" نقض " المألوف المعماري، فان "عملية التغيير" في العمارة حاصلة لا محالة، بيد أن اشتراطات حدوث تلك العمليـة ميدانياً تتطلب وجود مصمم بارع بمقدروه أن يدرك أهمية هذه الظروف وان يعي مسؤوليـة مثل تلك التراكمات، ويفهم استحقاقاتهـا بمعنى آخر تتطلب عملية التغيير من يصغي لنبضها ليكون بشيرها وداعية لها. وهذا بالذات ما اضطلع به عبد الله إحسان كامل في مجال العمارة العراقية، وأنجزه على أتم وجه فقد أحس مبكراً بان (صدمة) الحداثة التي ضربت العمارة في العشرينيات واستمر زخمها طيلة العقد الثلاثيني قد وصلت إلى منتهاها في بدايـة الأربعينيات فضلاً عن قناعته بأن مفهوم تلك " الحداثة " كان أصلاً أمراً متكلفاً ومتصنعاً، بل وربما زائفاً، ذلك لأن حلول مجمل تكويناتها كانت مستقاة كما هو معلوم من الزمن الماضي وتحديداً من عمارة القرن التاسع عشر.

لقد رأى "عبد الله إحسان كامل" نفسه فجأة أمام كمّ من المعالجات التصميمية المكررة والمنسوخة، كم من الممارسات التي تنطوي حلولها على قدر كبير من السذاجة المهنية التي لا ترتقي في أحسن أحوالها إلى مثيلاتها ذات الحل الوظيفي / النفعي : العاري والمباشر. ومنذ البدء انحاز عبد الله احسان،تماماً لنهج معماري جديد بعد ان ترسخت لديه قناعة تامة بضرورة إيجاد مسار آخر للعمارة العراقية، مسار يمكن أن يفضي إلى مفاهيمية مغايرة كفيلة بتكريس معالم أفق جديد لها (أي للعمارة)، وبسرعة فائقة طرح تصوراته عن نهجه الجديد المتسم : بنبذه الواضح لاستخدامات " العناصر التراثية "، وعدوله عن الطرز التاريخية، وتوقه الشديد نحو" بساطة الأشكال المعمارية وهندستها "، والنزوع إلى استعمال "المواد الإنشائية الجديدة " المصنعة وبمعنى آخر فان سمات العمارة التي ينشدها ينبغي أن تكون وفقاً لرؤياه مكافئة لأساليب العمارة العالمية الطليعية من حيث اللغة والتكوين ولهذا فان مهمته لم تكن سهلة، مثلما لم تكن مفهومة. وتبدو محاولته في تثبيت مفهوم (مأوى) مناسب لظروف معوقات الحرب العالمية الثانية التي قام بها لإسكان موظفي وعمال السكك الحديد بالشالجية ببغداد في منتصف الأربعينيات بمثابة اختبار حقيقي لمصداقية الطرح التصميمي الذي يؤمن به. وقد جاءت حلوله على قدر كبير من الواقعية التي تعي طبيعة الظروف المعاشة : تلك الحلول المنطوية على ايلاء الجانب الوظيفي اهتماماً زائداً مع التركيز على اقتصادية متقشفة لاستعمالات المواد الإنشائية والاستثمار الخلاق لمزايا هذه المواد ولأساليب إنشائها. وبالطبع، فلم يكن متوقعاً أن تحظى نوعية القرارات التصميمية وحلولها على إدراك وفهم كافيين لا من قبل زملائه المعماريين ولا، خاصة، من قبل زبائنه الذين كانوا في حيرة حقيقية إزاء جدوى وكيفية استخدام فضاءات الأشكال التي ينتجهـا. وعندما صمم بيتاً سكنياً في المسبح ببغداد في بداية الخمسينيات، ذا شرفة واسعة في الطابق الاول هي بمـــثابة نـواة التكوين الاساسية للدار (والذي أعده واحداً من اجمل البيوت البغدادية الخمسينية وأكثرها أناقة) كانت ربة البيت تجاهر علناً برأيها عن مسكنها بألا يمتلكون بيتاً.. انهم يمتلكون طارمة!!) كناية عن سخرية تهكمية حول جدوى وجود مثل هذه الشرفة الواسعة في بيت سكني!!. وأياً كان نوع الجدل والتقييم الذي أثارته عمارة " عبد الله احسان كامل " فإنها من دون شك قد أأسهمت في تأسيس مرحلة جديدة في العمارة العراقية، مرحلة لها مفاهيمها وقيمها وإنجازاتها، وبالإمكان أن ندعوها " بتجديد ظاهرة التحديث "، تلك الظاهرة التي ضربت بجذورها عمارة العراق في عقد العشرينيات واستمرت حتى نهاية الثلاثينيات.

إن عملية تسريع وإيصال ممارسات العمارة العراقية لمستوى، التعامل الندي " مع أساليب العمارة العالمية ما كانت تتم بتلك السهولة واليسر اللذين رأى معماريو الجيل الثاني أنفسهم فيها لولا إنجازات " عبد الله احسان " المميزة : المعمارية منها والتخطيطية فمجرد ذكر قائمة تصاميمه لوحدها كفيل بإعطاء صورة صادقة عن مستوى الإنجاز الرفيع الذي حققـه للعمارة العراقية، فبـدءاً من " محطـة قطار " يعقوبـة ومصرف الرافديـن بالبصرة و"مصرف الرهون " ببغداد ومبنى " خان الباشا " الصغيـر (الذي يمكن أن نعد عمارته بمثابة أحد كنوز عمارة الشرق الأوسط في الخمسينيات) وتخطيط مدينة ازادي بأربيل وكذلك "تخطيط مدينة الرشاد " وإضافاته التصميميـة لعمارة " الدفتر دار " ببغداد وغير ذلك من الممارسات الجادة والرصينة يجعلنا نرى بوضوح وندرك مأثرة عبد الله احسان كامل المعمارية على حقيقتها.

لقد منح الرجل جيلاً كاملاً من المصممين العراقيين إمكانية الإقتداء والمعايشة الميدانية مع تصاميم اتسمت لغتها بحداثة حقيقية، الأمر الذي أدى بعطائه لأن يلعب دوراً ريادياً وتأسيسياً، وأن تكون تصاميمه مؤشراً واضحاً لظاهرة تجديد عمارة التحديث بالعراق. مرة، تكلم " تورغينيف " عن أهمية " غوغول " في المنجز الأدبي الروسي قائلاً عنه " كلنا خرجنا من معطف غوغول!. نعم، كلنا خرجنا من " عباءة " عبد الله احسان كامل المعمارية : "زملاء " مهنـة، و"مريديون وتلاميذ " … وعلى الرغم من لوعة الفراق الأبدي التي يحسها أهله وذووه وأصدقاؤه بوفاتـه عـام 1985، فانه لا يزال معنا مرشداً، وأستاذاً، ومرجعاً لإنجازاتنا المعمارية.

مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون