ـــ من جدل ـــ "السياسي ــ الثقافي"

يبدو الحديث عن الوعي المستريب يفيض بالجدل والفلسفة التي تؤلف جزء من وعي مستريب لدى الأستاذ إلياس فركوح فخلال صفحات ومقالات متنوعة يصل القارئ الحفيص الى استنتاج مرده ان الكاتب يقحمه في صلب المواضيع المتعلقة والمرتبطة بحياته وحياة الآخرين في تصور جزئي وكامل لما يدور حوله من القضايا العصرية الراهنة لكنها متصلة بالماضي من أجل تفحصها والتأكيد على ان الجزء هو الذي يشكل الكل والكل يمتد من الجزء في تكامله وتكامل حدوده القانونية وشكله بموصفات جمالية أولا جمالية ولهذا بدأ تقديمه للكتاب في "لست نزيل فندق" مؤكداً "أشير بداية إلى أنني لا أكتب مقالاً صحفياً، بحسب المفهوم السائد والقاضي بوجوب الأخذ بالاعتبار، عند الكتابة، المستوى المعرفي العام لقارئ الصحيفة اليومية " في مقدمته هذه يحاول فركوح الجمع ما بين ما هو سائد في وعي القراء وربما يحاول ان يقول " الجماهير" ووعي الكاتب الباحث الذي لا يريد ان يكون الآمر الناهي ذو تعليمات مملوءة بالتقاليد التقيمية، ولأنه يريد أن يشذ عن القاعدة فهو يريد الكتابة ان تكون ذات مساحة ضيقة للتقليد المقالي الصحفي إلا انه يتمسك بالحرية الواسعة ليحتفظ بخصوصية لغته " واسلوبه المجافيين لسهولة الصحافة المفترضة" لكنه يصر على الاختيارات الثقافية راضياً ولو بنسبة غير كبيرة لا تتعدي ( 15 % ) من الذين يتابعون الصحف اليومية.. وقد يجد القارئ ميزة أخرى في فهم فركوح للوعي السياسي والثقافي المستريب عندما يجده يصر على " لم يكن لي شأنٌ بما هو آنيّ الحدوث، إلا بقدر ما يتيح لي أن أسبر القاعدة أو الأرض التي أنتجته، محاولاً فهمه مُقيماً إياه فوقها، ولم يلتفت إلا ما هو فاقع الألوان والإضاءة والصوت ".
يحاول فركوح كشف استكمال تجربته ورؤيته للعالم من خلال ثلاثين سنة في العمل الفكري والكتابي ولعله يجد ان هذه التجربة التي تمخضت بالأسئلة وحاول الأجابة باجتهاداته عبارة عن مخاض عسير يرضى حسب قوله " بنصفها.. إن اتصفت بالصواب " وهنا ما زال الشك يصيب هذه الاجتهات فهم لم يقل على الأقل نسبة أعلى من 50% لكي يميز نفسه ويبعد القارئ عن الشك أيضاً عندما يجده يتردد ليؤكد " إن اتصفت بالصواب "
ويشير الاستاذ فركوح ببساطة ولكن بوعي متميز إلى هذه التجربة في الكتابة والعمل الفكري " كأنما نصوص الرواية والقصة القصيرة أخرجت مني بعضاً من إرهاصات الأسئلة الأكثر نغلاً فيَّ " هي تجعله أكثر تطلعاً لأجوبةٍ كي تتلائم مع مجريات العصر ومكنون العالم وبالنقيض بما هو سائد من خطأ الرؤيا وشيوع الاستنتاج الجاهز، ويُشبه نفسه " مثلما يفض مسافرٌ محتوى حقيبته؟ وسرعان ما أعثر على شُبهة جوابٍ، ربما: أنت لست نزيل فندق"
في المقدمة الثانية وهي تعرفية أكثر من الأولى ولا أعرف لماذا جعلها في مقالين مختلفين( تمهيداً لما سيأتي.. لن أنتظر " غودو" ) ينتقل الاستاذ فركوح من الحالة الخاصة جداً ، من الحالة الشخصية التي تحاول أن تثبت منطق فكري معقول ولو بنسبة معينة إلى اتجاهين فلسفيين يشذان عن قاعدة الترتيب الذي وضعنا فيه الكاتب فهو يؤسس فكرة ليدخل مضمون الموقف الذي ياخذ تفسير ما يأتي من " المسلكيات اليومية
تنضفر ضمن اتجاهين متناقضين لا يلتقيان إلا في نقطة الانطلاق وحسب. ينطلقان من التوفّر على العبث كحقيقة وجود أولية يتفقان عليها، إلا أن التغاير في النظر إليها يبعدهما عن بعضهما بعضاً " يحاول بهذا ان يدخلنا في عالم العبث المطلق والعبث النسبي ليجد بعد ذلك منفذاً في تسهيل فكرته المرور عن الفرق الكبير فيما بينهما، وهنا بالذات يدخل في مجالات المسلكات اليومية، لكي يتحدث عن فلسفتين او إذا صح التعبير رؤيتين فلسفيتين تصوغان المواقف الشخصية، ولهذا يستفسر الكاتب " فما يميّز على سبيل المثال، بين البيركامو و صمائيل بيكت في نظرة كل منهما إلى موضوعة العبث ؟ " وفي هذا المجال يبدأ الكاتب " بسيزيف " وصخرته أو بالأحرى كامو وصخرته الذي لا يرى تدحرج الصخرة والتكرار انقفال في دائرة المسلك اليومي وانما دلالة على التكرار الامجدي الذي بالقراءة المختلفة التوصل الى أنه السبيل لبداية التفكير كي يجري بعدها اعتماد ميلاد فكرة تأملية عند الإنسان حتى يتمكن من معرفة كيانه في العالم ،
ثم يتوصل إلى أن " القراءة المختلفة ترى أن هذا التكرار يمكن اعتماده كنقطة بداية للتفكير في ما وراء العدمية وإحباطاتها، بما يتيح المجال لأن تولد على أثرها وبسببها، حالة تأمل بمكانة الإنسان في العالم، وكيفية تدبيره لمصيره وفقاً للقوانين التي تتحكم به وبالطبيعة في الوقت نفسه". الكاتب يريد ان يؤكد ان هذه القراءة قد تكون قادرة على استظهار وجهة نظر بجانب الأخريات من وجهات النظر في الفلسفة الوجودية، ويستشهد بالفيلسوف والكاتب المعروف جان بول سارتر ومحاولاته في استخلاص ما يدعم الفلسفة الوجودية لكن في الوقت الذي يغوص سارتر في الذات الإنسانية فيما يخص الحرية وعلاقتها بالموجودات يعتبر الحتمية التاريخية للصراع الطبقي لا تؤدي وفق قانون صراع الاضداد الى ظهور كيفية جديدة في علاقة الانسان بالانتاج والاستغلال. لكن فركوح يشير بصواب الى ان معرفة القانون بشكل واعي يجنب الإعاقة وبهذا يصل إلى نقطة مهمة بأن القوانين والمقولات الطبيعية والاجتماعية تفعل فعلها الايجابي وليس السلبي إذا ما استطاع الانسان أو الجماعة معرفة حيثياتها وتأثيراتها وتطبيقها بشكل مبدع وخلاق ليس على السلك اليومي وحسب بل باستراتيجية تعيد تكوين النظرة البعيدة الشاملة لمجريات هذه المسلكيات ووفق منظور تقدمي فعال ولا تقبل بالحالة المفروضة وكأنها قدر يجب المثول له.. هذا في السياسة بينما الجانب الثقافي له احكامه ومدارسه التي تستنبط الشكل والمضمون للحالات الجمالية في نصوص لا تعيق القانون كي تصبح في متناول الأكثرية..
ويشير الكاتب في هذا الصدد " إني أميل الى التفسير كواحد من وجوه الجوهر الإنساني القابل لملاقاة الحياة بشكل إيجابي. أو يكون الوجه الأقوى، في ملامحه البشرية، لأنه يتوفر على قدرة المراوغة والانسحاب من جبروت القدر، بمفهومه القابع بين تثنيات الميثولوجيات الأغريقية ، ومن قبلها السومرية والمصرية القديمة" وهو في هذا يتوصل الى عدم طبيعي وعدم مجترح وتبقى قدرة الانسان على المراوعة للسيطرة لكي يعيش وينجو ويستشهد الكاتب بمقطع من نص " لكمال خير بيك " " أرسم شارة الصليب وأنتظر المصيبة القادمة/ أنحني لظلٍ لم يأتِ لشريعة مشوشة/ في أقاصي الذهن" وهو ما يعيد استفسار الكاتب لتشويش الشريعة " على هذا الأساس أجيز لنفسي المجاهرة بالقول: ان جاء غودو صموئيل بيكت أم لا؟ فإني أقضي عمري بإنتظاره. ثمة زمن يكفي لأن أجترح لنفسي آلاف الـ " غودوات " يجيئون لا بد، يجيئون على خشبة المسرح، أو إلى غرفتي، أو بين السطور التي أكتبها، لا يهم، إلا أنهم يجيئون في النهاية، لأنهم الذين كانوا منذ البدء يجيئون"
نستخلص من تفسير الكاتب مع جل احترامي له بأن الافكار " جميع الأفكار مجرد أوهام قمنا باختراعها لنزيف " حقائق " تسير لنا الوجود "
وهنا قد نختلف مع الاستاذ فركوح في استنتاجاته بخصوص الأفكار لأنه يتنافى مع المسيرة الواقعية التي تتشكل الأفكار على اساسها وكذلك المفاهيم ووفق المعرفة التجريبية في هذه العملية، فالأفكار ليست فطرية بديهية " يقينية وثابتة " وليس هي جاهزة كي يتعامل الإنسان وكأنها أفكار يقينية، أو انها تتضمن في ذهن الإنسان بصور يقينية كامنة وارهاصات فقط لأنها وليدة خلق الجنس البشري وهي كونها مادية غير مثالية لأنها انتاجات عقلية مادية وبها ومن خلالها ظهرت واختلفت أبحاث واستنتجت وأوجدت الحلول وعرفت المحيط الذي نعيشه ومدى التطور التكنيكي العلموتقني وخلق مستلزمات فكرية إنسانية المحتوى دليل على القيمة الابداعية للأفكار وليس كونها أوهام قمنا باختراعها وهي منفصلة عن الإنسان ومداركه ووعيه المكتسب من خلال ممارسته وتجربته وارتباطه بالموجودات الأخرى بما فيها الفضاء الخارجي.
الكتاب يتناول موضوعات تقترب ولا تبتعد كثيراً عن هذه التصورات في السياسة والخطاب السياسي اليومي وفي الثقافة والخطاب الثقافي المتداول والمضاد على الرغم من بعض النظرات النكوصية في بعض الأحيان..
الأديب والكاتب وصاحب أزمنة للنشر والتوزيع إلياس فركوح غني عن التعريف، فهو الاديب الذي خاض غمار الادب قصة وكتب ومقالات متنوعة وله العديد من الأنشطة السياسية والثقافية لا نستطيع التوسع فيها بسبب الهدف المرسوم للوعي المستريب . بيان الوعي المستريب ــ من جدل " السياسيي ــ الثقافي " صدر في عام 2004 عن دار أزمنة للنشر والتوزيع وهو البرنامج الثقافي المشترك بين البنك الأهلي الأردني ــ وأمانة عمان، يتضمن ( 163 ) صفحة من الحجم الوسط تتصدر الغلاف الأول لوحة للفنان العراقي رافع الناصري، الترتيب والاخراج إحسان ناطور..
يحتوى الكتاب على مقالات متنوعة أضافة لمقالين للتقديم ذكرناهما في المقدمة .
أما الأبواب .. الباب الأول : ( السياسة ــ الثقافة : معاً في واحد) يحتوى على (12) مقالاً متنوعاً عن الكتابة والقراءة " قلت أن الوعي حفر لنا بداهة الايمان بأن الكتابة هي سجلنا المحفوظ، غير اني لم أذكر شيئاً كون القراءة هي أكثر وجوهالإستعادة وضوحاً وذكاء " اما المقالات الأخرى فقد بحثت في مواضيع شتى بين التهميش الثقافي والثقافة والسياسة والوطن وغيرهم.
الباب الثاني : (حرابهم في وعينا ).. يحتوي على (13) مقال تناول الكاتب فيها نوعية الصراع وحول الحرب، والدم الفلسطيني وقضايا ثقافية أخرى.
الباب الثالث : 11( أيلول/ سبتمبر: تداعيات).. يحتوي على (5) مقالات تناولت الحدث وقضايا مرتبطة بالارهاب.
الباب الرابع: (" نوبل " ومراياها).. تناول في (6) مقالات حصول الكاتب الالماني غونترغراس على جائزة نوبل للآداب عام 1999 .. وقضايا تخص الجائزة نفسها وسؤال " لماذا لم تمنح الجائزة لمبدع عربي " بعد نجيب محفوظ ، وكذلك المقالات الاخرى التي تصب في الموضوع نفسه " جائزة نوبل " وبخاصة المقالة الأخيرة ( يبقى السؤال مفتوحاً) حيث يتناول الكاتب ردود الفعل والاستدراكات والاستذكارات على فوز. س . نايبول بجائزة نوبل.. حيث يقول في خاتمة المقالة " الرجل موهوب وكبير ومميزــ تلك مسألة ليست محل جدال ــ وان كانت نظرته الى الاسلام وحكمه عليه تستحق كل الجدال، أما اختياره للجائزة ضمن ما نعيشه الآن، فإنها لمسألة أخرى"
يبقى ان نقول نحن بهذا الوعي المستريب والوعي المبني على التوافق والوعي الطبقي المبرمج وفق قاعدة المصالح التي تتحكم بهذا الشكل أو ذاك بمنح الجوائز جميعها وليس نوبل تحديداً فالكثير من كتاب وأدباء ومثقفين مبدعين غبن حقهم بسبب ارتباط هذه المصالح والاهداف التي تحقق فائدة من خلف منحها ومن الممكن ان تمنح الجائزة لأي كان وفق هذه المعايير.. لكن ليس هذا بعيداً عن الابداع المتطور والجديد المرتبط بتاريخ الكاتب وأعماله بشكل عام..
يبقى ان ان نقول الحق فيما خصه الكاتب الاستاذ إلياس فركوح من فائدة البحث وجمالية الرؤيا وان تكن نسبية لكنها أدت غرضها إذا ما قرأت بتفهم وهدوء.