لا تستطيع أن تدخل القاهرة، لكي تعرفها جيدا، قبل أن تستأذن تاريخها وسلاطينها وملوكها القدماء وأحفادهم وأحفاد أحفادهم الذين صنعوا مجتمعين هذه البدعة الكونية التي تسمى "القاهرة"، لو دخلت هذه المدينة قبل أن تقوم بهذا الفعل فسوف تخرج منها كما دخلتها، أو كما لو أنك زرت أية مدينة أخرى من مدن العالم، فالقاهرة لها مفتاح خاص هو تاريخها، عندما تقرؤه سوف تتعرف على بعض ملامحها الحقيقية وربما تمنحك بعضا من نفسها، فهذه المدينة ليست فقط تلك الشوارع والمطاعم والشقق والفنادق والمكتبات والملاهي، والوجوه الجميلة في المحلات التجارية، القاهرة هي كل هذا بالإضافة إلى لهجة عربية ناعمة وتاريخ كبير من الدول المتعاقبة، وتاريخ كبير في الفن والأدب والحرية والنضال، والحب، تراكم ثقافي كبير جعل لهذه المدينة شخصية مميزة عن كل مدن العالم، وهذا ما يجعل أفواج السياح تتوافد إليها من كل أنحاء العالم وفي كل فصول السنة، ومثلما تحمل هذه المدينة من حب كبير لكل زوارها العرب في مواسم الصيف من خلال الكثير من البرامج الفنية والثقافية والسياحية على ضفاف النيل الخالد الذي يحتفل به كل عام في يوم "وفاء النيل".

هل قرأت "شخصية مصر" دراسة في عبقرية المكان للمفكر والأديب الدكتور جمال حمدان، هذا الكتاب يصلح أن يكون مفتاحا قبل أن تدخل مصر.
كنت إلى وقت قريب أعتقد أنني أعرف القاهرة بعد أن زرتها ثلاث مرات في الثمانينات وفي كل مرة لا تتجاوز الزيارة أسبوعين، ولم أدرك أنني في الحقيقة لم أر القاهرة بعد، ولم أتعرف سوى على نقطة واحدة صغيرة من هذا البحر الهائل، وأنه لكي تعرفها عليك أن تدرك أنها مدينة صعبة وواسعة وغامضة وأنك تحتاج إلى وقت كبير لكي تتعرف على بعض ملامحها، لكن حين مكثت ثلاثة أشهر متواصلة على أرض مصر الرطبة وتحت سمائها الجميلة شعرت أن سحرا خاصا يملؤني، ويبلغ هذا السحر ذروته ويأخذ مداه وعمقه في ساعات الصباح الأولى وشيئا فشيئا ومع مرور ساعات النهار تبدأ في التكيف مع وقت القاهرة، إذ يتحول السحر هنا إلى واقع عليك أن تعيشه بكل طاقاتك على الاستمتاع، إذ بعد مرور شهر ونصف الشهر تحولت التجربة إلى شيء له طعم خاص، لا زلت أشعر به حتى الآن، وحين يقدر لك مع هذه الأوقات القاهرية المنعشة أن تقرأ رواية "ذات" لصُنع الله إبراهيم، فإنك سوف تكون بحاجة إلى أن تتهيأ نفسيا لنوع جديد من الحب يملأ أوقاتك لهذه المدينة الساحرة.

"ذات" إ مرأة تحلم مثل كل عباد الله الحالمين، ولم تكن تعرف أنها تحلم في مناخات ضد الحلم أصلا، فعندما تريد أن تحلم فإنك لا تختار المكان الذي تريده أن يكون موطنا لمولودك الطفل، وإذا أردت أن تقارب مستقبلك في هذه المدينة فلا بد أن تقرأ مستقبل الآخرين حولك، حتى تتعرف على اللاعبين معك في هذا الحلم، وحتى تتعرف على موقعك في الملعب، فهذا الحلم يجب أن يستند على أساس في الواقع حتى لا يظل حلما يتبخر مع ماء النيل أو تذروه رياح المدينة التي تذرو أشياء كثيرة وهي تلوب في شوارع القاهرة، تكتسح كل شيء حتى أولئك الذين آثروا السلام وأقلعوا منذ سنوات طويلة عن الحلم!!، و "ذات" بطلة القاهرة لم تكن أقل واقعية من "صُنع الله إبراهيم"، لكنها كانت أقل معرفة بهذا الواقع إذ استطاعت أن تكشف لنا أنها ليست مجرد امرأة حالمة تريد أن ترتفع بمستوى المعيشة لأسرتها الصغيرة بأية طريقة كانت، لكنها من ذلك النوع من النساء اللاتي يعتمدن على قراءة الواقع بطريقة تقليدية، فهي تتعرف على كل شيء من أحاديث الناس، وتبني أفكارها وتوقعاتها على هذا الأساس، وغالبا ما ينجح حدسها الرهيب وهذا ما كان يذهل زوجها المسكين عبد المجيد، كانت أحلامها الكبرى أن تقنتي شقة في أرقى أحياء القاهرة وهذا ما استطاعت توفيره فعلا من خلال زوجها المحظوظ عبد المجيد..

في تلك الأيام قبل أكثر من عشر سنوات كانت الأمور أيسر كثيرا، فقد حصل الموظف عبد المجيد على شقة في عمارة العرسان التي كانت مشروعا اجتماعيا وإنسانيا جيدا، و"ذات" التي تزوجت من هذا البطل المتواضع كانت قد طلبت من زوجها الموافقة على أن تواصل دراستها في كلية الإعلام لكي تعمل بعد التخرج في إحدى الصحف، لكن إعلان النوايا هذا قابله رفض صارم من جانب عبد المجيد الزوج، الذي أكد لزوجته أن البيت سوف يحتاجها خصوصها بعد أن تبدأ "المفرخة" في العمل: الأطفال فضلا عن أنه –أي الزوج عبد المجيد- قادر على تلبية كل احتياجاتهم من الآن، فما بالك بعد أن يحصل على الشهادة الموعودة، وكان ينظر لزوجته "ذات" نظرة صارمة تذكرها بأبيها فتسكت، لكن حين تبدلت الأحوال و واصلت الأسعار الارتفاع لم يجد عبد المجيد بدا من الموافقة على عملها بإحدى الصحف اليومية في عمل لا يحتاج إلى الشهادة التي لم تحصل عليها ولا إلى أي موهبة.
فالعمل يتطلب منها أن تقدم تقريرا يوميا بعد مراجعة المواد المنشورة في الجريدة عن الأخطاء المطبعية واللغوية والمهنية، ومقارنة ذلك بما تنشره الصحف الأخرى، لإثبات أوجه السبق، لكن كل هذا لم يجد نفعا، والطريق الأقصر ليس لمواجهة ارتفاع الأسعار فقط، لكن لأجل أن يعيش عبد المجيد وزوجته ذات بطريقة تناسب طموحاتهما الشرهة التي تليق بالحي الراقي الذي يسكنان فيه، هو أن يدخل هذا الزوج في طريق جديد هو "التسهيل والتسليك"، مقابل عمولات ونسب كبيرة تجعل هذه العائلة الفقيرة تقفز إلى مستوى العائلات الأرستقراطية الكبيرة في مستواها وتملأ هذه الشقة بكافة أنواع الأجهزة الكهربائية، وكل هذا بالتقسيط، وشغالة للمطبخ ومدرسة خاصة لابنها تفاخر به أمام النساء، وكل هذا بالتقسيط، وعبد المجيد لا يعلم في أي بحر واسع ومتلاطم سوف يغرق في قادم الأيام.

وهكذا تتطور حياة "ذات" بعد زواجها من عبد المجيد وسقوطها فريسة للاستهلاك المادي، ويؤكد الناقد علاء الديب في مقال له عن "ذات" : "إن الرواية جديدة في الجرأة السياسية والاجتماعية إلا أن المسألة الأساسية في أن هذا التجديد ظل ظاهرا ومقصودا ومتعمدا، لأن الرواية نفسها شكلا ومضمونا تقترح تطورا أصيلا وهذا التطور المفتقد والمطلوب هو أن تذوب الوقائع التوثيقية في الوقائع السردية داخل شخصيات الرواية وداخل ذات الرواية، بهذا كان سيتحقق التجديد الفني تلقائيا وكنا سنكسب واقعا حيا، وكانت الدلالة السياسية الصارخة ستكتسي ملحما فنيا ويسري فيها دم أدبي خالص".
ويختم علاء الديب رأيه، بأن صُنع الله إبراهيم لم يكتب رواية عن القرية ولا عن الفقراء العمال والفلاحين، لكنه اختار أعقد الطبقات وأغناها بالدلالات تلك الطبقة الملعونة بلعنة الصعود والطموح والإحباط، كما اختار أن تدور روايته في مصر الجديدة ذلك الحي الراقي الذي بناه الخواجات وأفسده المصريون، وذات صُنع الله إبراهيم شأنها شأن بقية الشخصيات في الرواية: محبطة على كل المستويات إذ تتحرك في محيط شخصيات دون العادية ويساهم بعضها في مساهمة فردية لا تكاد تذكر في صنع الفساد ومساهمة فعالة في الترويج لقيم الاقتناء والتسابق على تغيير أثاث الشقة وغير ذلك من مظاهر الانفتاح الترفي الاستهلاكي المظهري الذي تسعى من خلاله لاكتساب أهمية أمام حاراتها وصديقاتها.

كثيرا ما تقلع الطائرات وتهبط، ثم تقلع.. و..
لكنها هذه المرة سوف تحلق طويلا، حين يفرض المكان ألفته وسطوته..
حين تزور مدينة مختلفة مثل القاهرة لمدة أيام قلائل وعابرة تحاول فيها أن تغير أجواء المكان، فأنت تعتبر مثل طير خرج من عشه في تحليقة صغيرة خارج فضائه لكن أن تمكث ثلاثة اشهر متواصلة وتتوفر لك فرصة أن تقرأ هذه اللوحة التاريخية بعمق، فإنك تكون مثل من أراد أن يربط أوقاته بخيوط كثيرة دقيقة ومتداخلة، سوف تعود يا صديقي معبأ بالتاريخ والمشاهد الجديدة والمفردات والأحلام والذكريات. والتعب اللذيذ.

في تلك اللحظة التي حطت فيها قدماي على أرض الرياض، انتابتني مشاعر غير واضحة، بالأحرى، تعمقت تلك المشاعر التي كانت خفيفة وسطحية خلال المسافة الجوية ما بين القاهرة والرياض، لم أكن بتلك الحالة من الأسى أو الازدهار، وليست حالة بينهما، لكن إحساسا صغيرا كان يكاد يجرح الروح كالموسى، إنه إحساس مثل غيمة معبأة بالأسئلة والماء، أسئلة حول معنى أشياء كثيرة تركتها، أحداث ومشاهد وحالات بكل عمق لحظاتها، كنت أرى قلبي يخرج من صدري ويشركني ليحلق سابحا في فضاء صالة القدوم بمدينة الرياض، وكنت أرى خلفي هالة من ظلال رمادية تلتصق بملابسي، مثل خيط طويل يمتد مسافة آلاف الكيلومترات ليستقر في القاهرة وكنت أشعر أنني أسير برأس غير صاف وجسد مرهق، رأس مشوش وجسد محاط بظلال وضباب وأسئلة وخوف ورماد وغبار وأشياء كثيرة.. كثيرة.

هل أنفض جسدي في هذه الصالة مثل عصفور خرج من حوض ماء، هل سوف أستريح بعد ذلك من هذه الظلال وهذه الأشياء الرازحة، كنت ما بين وقت وآخر أشعر برغبة خفية في الهرب، أن أبتعد قليلا عن هؤلاء الناس ثم أبكي لحظات صغيرة وعابرة، أو فقط أجلس في أي مكان من هذه الصالة لأستريح من تعب قديم، لم أكن سعيدا أو حزينا، كنت أشبه بطير مربوط من ذيله بخيط، يطير في فضاء واسع فلا يقبض سوى على الهواء، حالة غير منتهية من الغموض والقنوط.

خرجت من المطار ورأيت سماء الرياض، وبدأت أتيقن من حقيقة وجودي بعد هذا الغياب، كان للهواء نكهته القديمة وكنت قد بدأت أدخل في غمار حالات ومشاعر سوف أعرفها جيدا بعد قليل، إنها امتداد لكل شيء مضى وانقضى، لكل لحظة عشتها تحت سماء مصر، ماذا أمامي الآن. في الطريق إلى حي المروج بمدينة الرياض ماذا احمل ؟.. كانت عمارات شعر جامعة الدول العربية بالقاهرة تصطف على طول الطريق المؤدي من مطار الرياض إلى بيتي، وكانت (ذات) تسير في خط مواز.

كنت أتساءل بعد وصولي مباشرة، لماذا لا نكتب الرواية، لماذا لا نبتعد قليلا عن المفهوم التقليدي للرواية ونجرب، نكتب قصصا طويلة تتماهى كثيرا مع الواقع الذي نعيشه بكل سلبياته وإيجابياته، لماذا لا نمنح أنفسنا القليل من الوقت للتأمل وقراءة واقعنا الاجتماعي الذي خرج جديدا بعد عواصف الطفرة الاجتماعية الاقتصادية.
إن رواية ذات تعتبر من الروايات الساخنة وكاتبها غاضب، لكنه لا يرفض قارئه ولا يحيره تحت دعاوى الحداثة والتجديد، إنه يصر على الوضوح الصارخ والجارح، ولا شيء يكشف التناقضات التي يقوم عليها فن صنع الله إبراهيم الساخر سوى الضوء الباهر الذي يسلطه على الشخصيات والأماكن والكائنات من جميع الاتجاهات، لا شيء يجدي هنا سوى الكلمات المدببة والجمل المرتبة في دم بارد وقصدية وتعمد وسخرية مرة ومؤلمة من "الذات" ومن "الأدب" ومن "...." ليس لمجرد السخرية.. بل لهجائه.
هكذا يتحدث الأديب علاء الديب عن رواية ذات بكل وضوح يوازي وضوح ذات الرواية وذات المرأة وذات الإنسان العربي.

حين قرأت هذه الرواية أول أسبوع وصلت فيه إلى القاهرة شعرت أن ذات امرأة تمشي في وسط الناس بالقاهرة، أشاهدها في أي شارع أو حي أمر به، امرأة متوسطة الحال، ليست بالفقيرة ولا بالغنية، وهي طموحة مثل كل الناس لكنها في الغالب لا تستطيع الصمود كثيرا في المنافسة التي تخوضها مع الناس من أجل هذا الطموح، فهي تحقق بعض الأشياء لكنها تفشل في تحقيق أشياء أخرى تعبئ رأسها، فأحوالها المالية مثل أحوال المضاربين في البورصة مرة في الأعالي ومرة في أسفل سافلين.
امرأة غريبة حقا، تشعر في بعض الأحيان أنها كل رجال ونساء العرب، وكل شيء يسكن في داخلها، إنها تدعي معرفة كل شيء، فهي تسكن أرقى أحياء القاهرة وتتحدث عن الاقتصاد والسياسة والأدب، لكنها في نفس الوقت جاهلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهذا ما يحير زوجها الأستاذ عبد المجيد الذي دائما ما يرميها بنظرات نارية، ولكنه أيضا رغم طموحه ورضاه نحو عالمه وثقافته، هناك ما يوحي بأنه جاهل أيضا.

ربما كان أجمل ما في القصة والرواية المصرية أن كتابها يبدون مثل جزر غير متشابهة، كل جزيرة لها عالمها الخاص وطريقتها الخاصة، وبقدر هذا التمايز تجمع هذه الجزر مياها إقليمية واحدة تشعر بطعمها الواحد وأنت تشرب من مياهها المتناثرة في كل أنحاء مصر.

كان كتابي القصصي "إذعان صغير" قد صدر في ذلك الشهر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مختارات فصول، وكنت أراه عند الباعة وفي أكشاك الكتب و على الأرصفة وفي المكتبات، يباع بجنيه واحد فأشعر برضا حقيقي، أحيانا أمر مع زملائي في العمل على الكشك الذي خلف فندق lt; شيبرد gt; فيشترون الكتاب، وأحيانا خلال عطلة نهاية الأسبوع يزورني الأصدقاء الكتاب إبراهيم أصلان وعفيفي مطر وسعيد الكفراوي ويوسف أبو ريه وخيري عبد الجواد وإبراهيم داوود وغيرهم من الأصدقاء، الذين مشيت معهم كثيرا في شوارع القاهرة. ثم صدر بعده من نفس هذه السلسلة المحترمة كتاب أظافر صغيرة و ناعمة، وكتب عنه الأديب الفنان سيد الوكيل، وكان الشاعر وليد منير قد كتب قبل ذلك، عن إذعان صغير.

والآن أريد أن أذهب لهذه القاهرة المجيدة، وفي يدي رواية كائن مؤجل، لأقول لها ألف شكر يا أم الدنيا.

أذكر أن أحد الأصدقاء قرأ على الأديب المعروف نجيب محفوظ، قصة تجريبية لي باسم lt; الذي لم يحدث gt; نشرتها أخبار الأدب عام 92م، وكان محفوط ذلك الصيف في الأسكندرية، وكان هذا الصديق يتوقع من هذا الأديب الكبير أن يهجوها لأنها تجريبية، فكانت إجابتة بعد الاستماع لها، أنها جيدة و أنه من حق الأدباء الجدد التجريب في الفن.

قصة lt; الذي لم يحدث gt;:

دخل الوقت في رماد ثم في عتمة في سواد، وهو نائم بخوف، وهي على كرسي نظيف أمام طاولة زجاجية لامعة تحدق في لا شيء، وتنتظر حركة في الغرفة المجاورة:
- ربما يفيق.. الآن. كان لها اسم فرحى وقلب فرحى ولون سعيد، وصوت وردي مشبع بفرحة كل الأصوات، كان لها ضحكة تأتي دائماً عبر فتحات البيت من تلك الطفولة، وكانت لها ذاكرة متفجرة.. وكان..
ربما يفيق من هذه النومة الطويلة، يخرج، يطلب مني كأس شاي، أو ربما يخرج ويجلس إلى، يحدثني عن متاعبه، وأحدثه عن متاعبي، ثم نضحك بفرح، يبدد هذا الفراغ الهائل في وقتنا. وها هو الوقت دخل رماد الوقت، سواد الوقت، ها هو الليل يرخي جدائله العظيمة، فيمنح الأشياء ظلمة وعظمة، وهي، على الكرسي تلف المكان بكسل وتراخ، تلف أشياء المكان، تبعثر أشياء المكان، تعيدها إلى أماكنها، وهي في مشروعها هذا، ربما ترهف السمع إلى الغرفة المجاورة.
ربما يخرج الآن، أو يفيق ولا يخرج، يقبض على لوحته أو على أوراقه.
ما أقسى الوقت.
وما أقسى أن يخرج أخيراً، يصل الصوت إلى رأستها المعذب فتملؤها لحظة ابتهاج صغيرة، تمتزج مع هزة رعب صغيرة في صدرها.
وها هو قد استيقظ، ترك غرفته إلى الحمام، ثم عاد إليها، يغير ملابسه، يخرج إلى بهو البيت الصغير، عيناه آثار للنوم، وخلفه أثر من كآبة وجوع وأسئلة، يلف المكان بنظرة سريعة، الطاولة، الشاي، الكرسي، هذا الكيان الذي يجلس على الكرسي، كل شيء في لحظة عابرة، كل شيء صامت، وهو يخرج من البيت بطيئاً لا يلوى على شيء.
لكنها لم تكن أمه ولم تكن زوجته، ولم تكن لوحة رسمها منذ تلك الأزمنة القديمة.

أنهض في الثامنة صباحا ثم أنزل من العمارة إلى شارع الأعناب بضاحية المهندسين، ثم سيرا على الأقدام ثلاث دقائق لأصل إلى شارع جامعة الدول العربية،مرورا بجامع مصطفى محمود، تستطيع وأنت تعبر هذا الشارع المكتظ بالشجر أن تشم روائح الفاكهة والماء وحب الناس للحياة، ومن شارع جامعة الدول العربية أخذ سيارة الأجرة إلى عملي مرورا بشوارع سوريا والرياض ودمشق وجدة والسودان، حتى ميدان لبنان، ومرورا بعشرات الأركان المكتظة بالكتب الساخنة التي صدرت حديثا في كل المجالات: من فكر وأدب وفن.. وفي أركان أخرى تستطيع أن تقف على أفضل ما تنتجه أرض مصر من الفواكه هذا الموسم، وهكذا قرابة ثلاثة أشهر متميزة وريانة بالماء و الحب والصور والذكريات والقصص والقصائد والروايات والأدباء والأديبات والناس الفقراء.. والنيل الخالد قاسم مشترك عظيم.