الكل يتحدث عن ظاهرة الشاعر ابي الطيب المتنبي، والكل يضعه في قاموسه واجندته حين يتحدثون عن الفحولة الشعرية وعن قوة النوع الشعري وقدرته على صنع الجزالة في اللغة والاسلوب والرؤيا وفي جعل اغراض الشعر حاضنة للكثير من المجسات التي يمكنها ان تلامس خفايا التاريخ أو ربما تشارك في كتابته ولو بطريقة مغايرة !!،، واحسب ان شاعرا يملك هذه القدرات والخصال ينبغي ان يحظى باهتمام استثنائي في ادق تفاصيل حياته بدءا من مكان ولادته مرورا بطفولته الاستثنائية ومعرفة هواياته واترابه واسرار عالمه العائلي والبيئي والكتاتيب التي تعلم فيها والمعلمين الذين اعطوه العلم والمعرفة ودروس الشعر والكشف عن الخصائص والاستعدادات التي كان يملكها والتي اسهمت في خلق شخصيته الشعرية وصولا الى تراجيديا موته الذي قد يضعه البعض في خانة الاغتيال السياسي، وبالتالي فان الاحتفاء به سيكون نوعا من الاحتفاء بالرمز العربي والذي هو شكل من اشكال المقدس او النموذج المتعالي من منطلق ان هذا الشاعر يمثل ظاهرة اتفق عليها الجميع واعطوه مكانة لم يحظى بها احد وقد اشترك في صناعتها اشترك المريدون والكارهون....

ان هذا الشاعر العربي العصابي في شعريته وفي شخصيته قد وقع ضحية للكثير من التهويمات التي تعاطت مع شعريته قدحا ومغالاة واسقاطا والتي نعرف ان مرجعياتها لم تكن شعرية أو جزءا من اختلافية الموقف ! فضلا عن ان الكثيرين قد تعمد التغافل عن نشأته الاولى في المكان العراقي واعطائه صفة الشاعر المتورط دائما في كل الامكنة والعالق في خطابها السياسي ونماذج سلطتها كشخصية كارزمية تحوّل الاغراض الشعرية الى دروس باذخة في الاسلوب وفي التصوير وفي البلاغة والكناية والمجاز، واظن ان هذا التغييب مقصود ويحمل معه الكثير من النوايا غير الحسنة !!! وربما هو جزء من تغييب مشهد من مشاهدالتاريخ العراقي الاسلامي الذي تحولت فيه المدينة العراقية الى مكان
لانتاج السياسي والشعري خاصة مدينة الكوفة التي تعد من الحواضر العراقية الاسلامية التي اهملها التدوين التاريخي رغم انها كانت عاصمة للدولة وحاضنة للمعارف وعلوم النحو واللغةو السياسة وفضاء لانتاج اكثر ازمات الصراع العربي العربي تأثيرا على مدى التاريخ. ولاشك ان مدينة بهذه المواصفات والاقدار ومزايا تشكلاتها الاجتماعية والصراعية وما حفلت به من احداث جسام وحروب دامية انعكست على سيرة المكان السياسي العربي والعراقي وعلى ظاهرة الدولة والخطاب،، يمكنها ان تضع شاعرا كالمتنبي في سياقها الصراعي وربما انعكست الكثير من مزاياها وطبائع شخصيتها القلقة والعصابية والمتمردة علي شخصية الشعرية مثلما فعلت مدن اخرى علي شعرائها مثل الموصل على ابي تمام بنمط شخصيته الهادئة المتوازنة وابي نواس الحالم والرومانسي الذي اخذ من مدينة البصرة خصائص عالمها المفتوح على الرائحين والغادين وغيرهم..
ان احتفاء الثقافة الاوربية بتفاصيل رموزها الابداعية وتهيأة كل الامكانات المادية والبحثية لدراسة هذه الرموز حدّ تأسيس المتاحف الخاصة بهم ووضع كل مفردات هذه التفاصيل امام اعين الزوار والقراء وادامة هذا الجهد بصورة دائمة،، وكأنه جزء من الاحتفاء بالتاريخ والحضارة التي اغنى وجودها بقوة الحلم وصناعة الجمال الخالد.. يضعنا امام ضرورة اعادة النظر في الكثير من خفايا هذه الموضوعات وضرورة تسمية الاشياء باسمائها دون عقد اوحساسيات من الامكنة اوسايكولوجيا الاعراق والعصبيات المسؤولة عن جزء كبير من تخلفنا !!!

ومن هذا التصور اجد ان الحديث عن عراقية المتنبي ليست دعوة لفصل شعرية هذا الشاعر عن اصوله العائمة وتجريده من ثيابه القومية او سحس جنسيته !! التي كثيرا ما يضعها الباحثون في سياقات متونهم او انهم يتغافلون عنها او يطرحونها بشيء من الحياء ‘ وكأن الكوفة المدينة العراقية والعاصمة العربية وبيت النحو العربي لاتملك حقوقا بشاعرها وان تحظى بشيء عالميته وان يكون هذا الموضوع مدعاة لان تفكر المؤسسات الثقافية العربية التي تتحدث ليلا ونهارا عن المتنبي بالتفكير في تنظيم مؤتمر سنوي لدراسة هذا الشاعر في مدينته وكذلك دعوة منظمة اليونسكو للاهتمام بتراث هذا الشاعر الانساني وحفظه وابراز التأثير المكاني على الشخصية الشعرية واعداد المطويات التي تعرف الاجيال بقيمة هذا الشاعر مثلما هو موجود عند اغلب المزارات والمدن السياحية اذ ان الثقافة السياحية وفي هذا المجال حصرا هي غائبة عن اجندة الدولة العربية الحديثة وبرامجها السياحية والثقافية..

اعتقد ان هذا الموضوع يضعنا في صلب مسؤوليات حقيقية وربما تحتاج الى تحديث حقيقي ومنهجي و تدخل في اطار التنظيم الثقافي وقراءة مظان الثقافة العربية عبر تمظهارتها في المكان والزمان وفي الضرورة الموضوعية، اذ ان الاحتفاء بالمدن العربية كمدن للثقافة يمر دائما دون انجاز او تأشيروبما يعطي لهذه المدينة دلالاتها المتجوهرة حول رموز ثقافية بارزة يمثل وجودها جزءا من شخصية هذه المدينة او تلك ! ومنها شخصية المتنبي التي تحتاج الى حقائق تؤكد صيروتها في المكان العراقي المفتوح على قلق هو اشبه بالريح التيجعلت الشاعر تحتها واخذته الى حيث القلق الانساني العظيم..