1.

في العام 1909 صدر في موسكو كتاب بعنوان ( دستويفسكي ونيتشة) للمفكر الروسي والباحث الأدبي ( شيستوف) الذي اطلق فيه، ولأول مرة، صفة ( الوجودية) على دستويفسكي، مؤكدا بأن فلسفة دستويفسكي هي الرفض المطلق للعالم وعدم الثقة بالمستقبل، مثلما هي فلسفة المأساة والقسوة، كما أكد نظرته إلى ( دستويفسكي) باعتباره (وجوديا) في كتابه الثاني الذي صدر بعنوان( تأمل وإلهام)، فهل كان دستويفسكي (وجوديا) حقا؟

2.

في مقالة ( الفلسفة والشعر) للفيلسوف الألماني (هانز.ج.غادامر) هناك ملاحظتان متميزتا الأهمية، أولهما: بأن الفلسفة لاقت تحديات متعددة خلال مسيرتها، لاسيما من قبل بعض الفلاسفة العظام أمثال: كيركيجارد ونيتشة، وغيرهما، ممن تمردوا على الروح الأكاديمية للفلسفة التي تاهت عندما توغلت في مجالات البحث التاريخي، وفي أروقة المشكلات المعرفية، فأغتربت عن ذاتها، رغم إن التحدي الأكبر كان حينما سطعت نجوم جديدة وكبيرة في سماء الفكر فحجبت أضواء الفلسفة، وكانت هذه النجوم قد سطعت في سماء الأدب، ومن مدار الرواية بالتحديد، وهذه النجوم هي: ستندال، بلزاك، زولا، جوجول، دستويفسكي وتولستوي. وتعقيبا على هذه الملاحظة تأتي الملاحظة المهمة الثانية والتي تؤكد بأن الفلسفة لم تسترد عافيتها ومصداقيتها إلا حينما إقترب فلاسفة (الوجود) أمثال: هايدجر، ياسبرز، سارتر، وميرلوبونتي، بجرأة من حدود اللغة الشعرية.

هاتان الملاحظتان المهمتان تؤكدان على أن (نجوم الرواية) حجبوا أضواء الفلاسفة، ومن بين هاتيك النجوم نجد (دستويفسكي)، الذي نتوقف عنده في هذا المقال. إلى جانب تأكيد عودة العافية الى الفلسفةحينما إقتربت من اللغة الشعرية، بحيث تداخلت الفلسفة واللغة الشعرية فصار النص حما أوجه، فمرة هو نص فلسفي، ومرة هو نص أدبي. ولنا في ( هكذا تكلم زرادشت) لنيتشة المثال الأبرز. إلا أننا أردنا هنا، من خلال هاتين الملاحظتين، أن ندخل إلى إشكالية الفلسفة ( الوجودية) وحدودها بين ( الأدب) و(الفلسفة).

3.

حينما يتم تقويم (سارتر) أدبيا، مثلا، فان الفلسفة (الوجودية) هي الفنار والدليل ومفتاح الحل لفهمه وفهم عالمه الأدبي، من حيث ان سارتر فيلسوف وجودي، بالمعنلى الأكاديمي والإصطلاحي لهذه الكلمة. وقد جسد فهمه للوجود من خلال نصوصه الفلسفية الصريحة، وفي مقدمتها ( الوجود والعدم)، اما أعماله الأدبية، مسرحياته ورواياته وقصصه، فهي ترجيعات، وتباريح، وأطياف، ونبضات لتلك الفلسفة التي كان يؤمن بها. وكذا الأمر مع (كامو)، فلا يمكن التعامل مع روايات (الغريب) و(الطاعون) و(الموت السعيد)، أو مسرحياته (كاليجولا) و( العادلون)، دون الإعتماد على كتاب (إسطورة سيزيف)، الذي هو نص فلسفي إقترب إلى حدود التماهي من اللغة الشعرية والموضوع الشعري، وبالتالي ليس غريبا أن يتم التعامل مع (سارتر) و(كامو) كفيلسوفين (وجوديين)، لكن كيف إلتصقت صفة ( الوجودية) بدستويفسكي وهو لم يكتب أي نص فلسفي مباشر، ولم يبشر بالفلسفة الوجودية!!

4.

تسللت (الوجودية) الى الثقافة العربية المعاصرة ك(فلسفة) من بوابة (الأدب) ايضا، عبر ترجمات أعمال (سارتر) و(كامو) و(جبريل مارسيل) و(ميترلنك)، وغيرهم، بل حتى (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشة تم التعامل معه كنص أدبي وجودي فائق الشاعرية أكثر مما تم تفحصه كنص فلسفي، ولم يتم التعامل المباشر مع الفلسفة (الوجودية) من خلال نصوص كبار فلاسفتها، فحتى الكتب التي ترجمت إلى العربية كانت تبحث في شرح تيارات الفلسفة الوجودية وليس ترجمت نصوصها مباشرة، ناهيك اننا تعرفت\نا على (الوجودية) من خلال النقد( الماركسي) الدوغمائي الرافض لها باعتبارها تعبيرا عن أزمة الفكر البورجوازي الغربي، وباعتبارها حركة مشبوهة أنتجتها دوائر الإستخبارات الغربية لحرف الشبيبة عن خط النضال السياسي ضد الرأسمالية!!!!

فالى الآن لم تترجم الى العربية النصوص الفلسفية (الاساسية) لكيركيجارد، هايدجر، ياسبرز، هوسرل، وغيرهم، ومن هنا فان (وجوديتنا) هي وجودية (أدبية)، أي إنها تعتمد على رؤى أدبية، وليس لها أساس فلسفي نظري صلد، وربما يكون( عبد الرحمن بدوي) إستثناءا، فقد تعرف هو على المصادر الأساسية لهذه الفلسفة بلغاتها الأصلية. علما أن التراث العربي تعرف على الوجودية بهذا المفهوم الأدبي من خلال بعض أبيات معلقة (طرفة بن العبد) وخطبة (قس بن ساعة) واشعار المتنبي والحلاج!

5.

إن مفهوم ( الوجودية) في علوم الأدب له علاقة بملامح الشعرية، والعزلة، والنبرة المأساوية، والتوحد بالوجود، والإغتراب، ومن هنا فهي مفهوم فضفاض، بينما (الوجودية) فلسفة نظرية مؤسسة، وتوجه، وأسئلة، وموضوعات تحتضن جوهر الوجود، رغم أن الباحث (باول تيلخ) يؤكد على ان (الإحساس الوجودي) بالعالم سبق (الثورة الوجودية) التي (بدأت) في الأدب والفن من خلال التمرد على ثنائية الذات والموضوع، وكرد فعل على الحتمية التاريخية، أي من خلال المواجهة بين القلق الوجودي والنظريات الباردة.

إن القاسم المشترك بين (الوجودية) الفلسفية هو مفهوم (الانسان)، حيث تطرح الفلسفة(الوجودية) مصير الانسان الفرد، بل ومعنى الوجود البشري ككل، كقضية مركزية ومحورية. ومن هنا كان التقارب بين (دستويفسكي) و(الوجودية)، بل أن الحديث عن (وجودية) دستويفسكي يُقصد به تناوله لمسألة أزمة الوجود البشري، ومن هنا يرى الباحث (فالتر كوفمان)، وهو من المفكرين المتخصصين بالفلسفة الوجوديو في كتابه (الوجودية من دستويفسكي الى سارتر) بأن أعمال دستويفسكي هي مدخل إلى الفلسفة الوجودية، وبالتحديد تيار (الوجودية المؤمنة)، ويضعه الى جانب جبريل ملرسيل وبرغسون.

6.

بعض المتخصصين بالفلسفة الوجودية يرفضون إعتبار دستويفسكي (وجوديا)، والكثير منهم لا يرفض لكن يتردد في القبول، ومن بين الرافضين لإعتباره (وجوديا) هي الباحثة الأدبية الروسية (آ. لاتينيا) التي ترى بأن كل قضية لدى دستويفسكي يمكن بسهولة إيجاد نقيض لها ، ولديه أيضا. فبطل (الجريمة والعقاب) المدعو (راسكولنيكوف)، المتطرف الى أقصى حدود الحرية، والمتمرد بعنف، والمشحون بالقلق الوجودي، ليس بطلا (وجوديا)، فهو ليس مثل (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو، فهو يتألم ويتعذب، لا من ظلم المجتمع، وإنما لأنه عُزل روحيا عن الإنسانية، كما انه لا يشعر بالامبالاة التي يتسم بها ابطال سارتر وكامو، إذ ان ابطال دستويفسكي (مأساويون) لأنهم يعون ان تمردهم لا جدوى منه، فالمصير معد سلفا، كابطال التراجيدا اليونانية.

هذه الملاحظة أكدها الباحث الأدبي (غوس) في كتابه المهم (دستويفسكي وتولستوي)، فهو يرى بان تولستوي كاتب (ملحمي) يذكرنا بهوميروس، بينما دستويفسكي كاتب (تراجيدي) يذكرنا بكتاب التراجيديا اليونانية أمثال سوفكليس وإسخيلوس ويوربيدس، إذ ان ابطاله يتمردون على مصيرهم الذي لا يستطيعون أن يغيروه، لأنه أُعد لهم سلفا من قبل قوى الغيب.

7.

هناك ملاحظة مهمة للمفكر الروسي (نيقولاي بردياييف) يؤكد فيها بأن الفكر الفلسفي الروسي بشكل عام، والمعرفة الفلسفية بشكل خاص، هما فكر ومعرفة روحية يتحد فيهما العقل والإرادة والعاطفة، وتخلو من التمزق العقلاني، وان دستويفسكي هو أعظم من جسد هذه المعرفة الروحية، ومن هنا فقد كان يعتبره أعظم ميتافيزيقي روسي، واكبر وجودي، بل انه يؤكد بانه مع مع دستويفسكي يبدأ عصر جديد في تاريخ إكتشاف أعماق الإنسان، فلم يعد تاريخ الأعماق الانسانية كما كان قبل دستويفسكي، وان (نيتشة) و(كيركيجارد) وحدهما يمكن ان يشاركا دستويفسكي مجد ريادة هذا العصر الجديد.

جوهر إكتشاف دستويفسكي كما يرى (بردياييف) هو ان الانسان كائن متناقض، /اساوي، تعيس وشقي، وهو ليس معذبا وحسب، وانما هو يحب الألم والمعاناة ايضا، رغم ان ارسطو في كتابه (فن الشعرية) توصل الى هذه القضية قبل انتباه (بردياييف) لتناول دستويفسكي لها، لاسيما حينما نتوقف عند عملية (التطهير) لحظة مشاهدة (التراجيديا).

8.

المفكر والباحث (شيستوف) كان يرى بان الفضيلة الكبرى للفلسفة (الوجودية) هي انها وضعت الانسان في مركز الفلسفة، وطرحت قضية المصير البشري الفردي بصراحة مرعبة ويأس كبير، كما أعطت الجواب عن هذه القضية في ان موقف الانسان من العالم هو موقف عبثي، ولا مخرج من مأساة الوجود، كما ان التطور الاجتماعي والتكنولوجي لا يحل هذه الإشكالية، وانما يواجه الانسان مع هذه المأساة أكثر، وان الاخلاق عاجزة عن حل ÷ذه الاشكالية ايضا، رغن ان (شيستوف) ينتبه الى قضية مهمة عند (دستويفسكي)، ألا وهي إنهيار النزعة الأخلاقية، وما موقف ( إيفان كارومازوف) المتجسد في التمرد على الأديان والنبؤات المسيحية بقيام مملكة المسيح على الأرض، ورفض النظريات الطوباوية في التقدم الاجتماعي والانساني، إلا مواجهة بين الأخلاق المسيحية المتجلية في شخصية الأخ الأصغر (اليوشا) وبين عجز الأخلاق عن مواساة الانسان، مما دفعه لتفجير مشاعر القسوة والكراهية ضد الانسان الفرد، أو البشرية جمعاء.

الباحثة (لاتينيا) ترد على طروحات (شيستوف) مؤكدة على ان دستويفسكي قدم نقدا للعقل وللوجود الانساني، لكنه لم يجد الحل في العبث الوجودي ولا في الانتحار. صحيح ان بعض ابطاله ينتحرون هربا من الظلمات الباردة في الاعماق، ومن اليأس، فالحياة بالنسبة لهؤلاء هي ألم وخوف، لكن دستويفسكي كان يحتضن هذا الألم المدمر لدى أبطاله بكل حنان وتعاطف وشفقة وسمو إنساني.

9
في الأدب العربي يمكن التوقف بإمعان عند بعض التجارب الإبداعية الشعرية المشحونة بالقلق الوجودي مثل تجارب محمود البريكان، صلاح عبد الصبور، محمد الماغوط، خليل حاوي، إيليا ابو ماضي، إالياس ابوشبكة، وقبلهم كما اسلفت في التراث: طرفة بن العبد، المتنبي، الحلاج، وابن عربي، والنفري، وابن الفارض، وغيرهم، والتي تضعنا أمام خط التماس بين ( الفلسفة الوجودية) وبين (اللغة الشعرية) التي تحدث عنها (هانز غادامر) في مقالته ( الشعر والفلسفة)، وربما نجد حشدا من (الابطال الوجوديين) في الرواية العربية أيضا، لاسيما عند نجيب محفوظ، فؤاد التكرلي، عبد الرحمن منيف، الطيب صالح، حنا مينا،غالب هلسا، سهيل ادريس، حيدر حيدر، إسماعيل فهد إسماعيل، فاضل العزاوي، وغيرهم.

وإذا ما كانت (نجوم الرواية) قد حجبت أضواء اللاسفة في الثقافة الغربية، حسب طروحات (غادامر)، فان نجوم الرواية العربية لم يحجبوا النور عن أي فيلسوف في طول البلاد العربية وعرضها لأنهم لا وجدون أصلا!!! وإذا ما كانت عظمة (الرواية الأوربية) أتت من خلال الأسئلة التي طرحتها حول المصير الانساني، ومعنى الوجود، ودور الفرد في التاريخ، فمهدت بذلك الطريق أمام الفكر الفلسفي اللاحق، وأمام الفلسفة الوجودية خصوصا، فان الرواية العربية بشكل عام لم تصل الى هذه المرحلة بعدـ أو بشكل أدق، لم تمهد بعد لظهور فلسفة أو فلاسفة أو حتى لأية حركة فكرية، بل ولا حتى لأية حركة فكرية، أو لحركة نقدية أدبية متجذرة وواضحة المعالم، وكما المجتمعات العربية والثقافة العربية قد قدت من حجر، فالنقد الأدبي في الثقافة العربية يراوح ضمن مدار التجارب النقدية والفكرية الفردية، وربما تكمن (العلة) في مستوى الرواية العربية وعمقها، أو في (سكونية) الفكر العربي المعاصر، وفي (تخلف) البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات العربية، ولسطوة التراث، وهيمنة الدين، أو ربما لم يحن الوقت لذلك بعد !!