ترجمة باسم المرعبي

شاب وحيوي. هذا هو الإنطباع الذي يعطيه الكاتب الأرجنتيني ـ الفرنسي ذو القامة المديدة التي تقارب المترين، خوليو كورتاثار. رقيق ومسالم، وحتى سنوات قليلة سبقت وفاته كان قد قسم وقته بين الترجمة لدى اليونسكو في باريس والعمل من أجل حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية، ساهم في العمل التضامني مع الثورة الكوبية ـ وبصورة خاصة ـ مع الشباب النيكاراغوي لا مع الثورة المتشددة، وذلك ليس أقل من أن يساهم بكتابته . خوليو كوتاثار الذي توفي في باريس، (12 شباط ـ فبراير ـ 1984) عن عمر 69 عاماً واحد من كتاب عصرنا الأكثر طليعية وأحد الكبار الذين أنتجتهم ثقافة أمريكا اللاتينية، بشكل خاص. كان لوفاة زوجته في السنة التي سبقت وفاته أثره الكبير عليه حيث اخذت صحته بالتدهور، فادخل المستشفى في باريس وبقي بضعة أسابيع للعلاج حتى أسلم الروح. وقد كان ثمة الكثير من المشاريع والخطط سواء في ما يخصه ككاتب أو ناشط في المجال السياسي، فقد كانت امنيته أن يعمل شيئاً حيال الإضطهاد الذي تعانيه الكثير من بلدان قارته.

ولد خوليو كورتاثار في بروكسيل 1914 لأب أرجنتيني وأم فرنسية. جذوره في ثقافتين قويتين، الفرنسية والأمريكية اللاتينية، طبعت شخصيته ونتاجه حتى النهاية. عندما تقدم عام 1981 بطلب الجنسية الفرنسية، وحصل عليها، كان من بين أسبابه الأخرى ممارسة نوع من الإحتجاج ضد نظام الحكم العسكري في بلاده، وفي نفس الوقت ليعبّرعن انه لا يزال يحتفظ بجذوره في كلا المكانين. لكن بالرغم من كل ذلك يجب أن يُنظر، أولاً وقبل كل شيء، الى كورتاثار كأرجنتيني وأمريكي لاتيني. كتب بالإسبانية حتى وان كان متأثراً، بدرجة عالية، بتيارات الثقافة العالمية، على الأقل، السوريالية فقد كانت انطلاقته، في أكثرها، أمريكيةلاتينية. شخصياً وعى نفسه كأمريكي لاتيني، على الرغم من انه عاش القسم الأكبر من حياته في فرنسا. فترة شبابه قضاها في الأرجنتين، هناك بدأ كتابة الشعر، متأثراً، من بين أشياء اخرى، بالتيارات الجديدة في العشرينات والثلاثينات التي جعلت من بوينس آيرس المركز الأدبي في أمريكا اللاتينية. البيرونية التي كانت تعم الأرجنتين منذ منتصف الأربعينات لم تكن تعني شيئاً للشاب المعتد بقوة بإمكاناته، وفي العام 1951 سافر الى اوروبا، وكانت هذه الرحلة فاتحة لرحلات عديدة طاف خلالها العالم.
في نهاية الخمسينات خطى كورتاثار بجدية، وفي الستينات أصبح واحداً من الذين يتصدرون ما عرف بـ " البوم" ـ القنبلة ـ في أدب امريكا اللاتينية، التي انطوت على أسماء مهمة مثل المكسيكي كارلوس فوينتس والبيروفي ماريو فارغاس يوسا والكولومبي، الفائز بجائزة نوبل لاحقاً، غابرييل غارسيا ماركيز.
برغم تنوعهم واختلافهم إلا ان كتاب "البوم" اشتركوا في نقطة جوهرية وهي "التجديد" الذي حملوه لأدب أمريكا اللاتينية. وبالنسبة لـ كورتاثار، على الأقل، يتوجب النظر إليه كمجدد في كل من الشكل والمضمون. لقد كسر الحدود وأجترح أبعاداً جديدة. أعطى رؤية جديدة بالنسبة لعلاقة الإنسان بذاته أو بمحيطه. كورتاثار تجريبي دائم. روايته المعروفة "Rayuela" ـ الحجلةـ 1963، تكاد تكون المثال الأكثر شهرة. وهو يدلّ شخصياً على أمكانية قراءتها بأساليب عديدة، بمعنى آخر، أن تقرأ الفصول بترتيب مختلف وبهذا يتمكن القارئ من صنع روايته الخاصة من خلال النظام الذي يقرره هو شخصياً.
غير ان قصصه أكثر شهرة، حيث وحّد طرق التعبير وحاول أن يزيل الحاجز بين الأدب وبين وسائل التعبير الأخرى. ليست كثيرة هي الأعمال التي ترجمت لكورتاثار، وهذا بسبب من صعوبتها وأيضاً صعوبة رواجها وبيعها.
في فترة الستينات، تقريباً، أصبح كورتاثار مهتماً بالسياسة. لم يخف تعاطفه مع الثورة الكوبية الفتية والتي تحدّث عنها كثيراً وبحرارة. كذلك الحال مع حكومة الليندي الإشتراكية في تشيلي، وعندما أطاح الساندينيون في نيكاراغوا عام 1979 بديكتاتورية سوموزا البغيضة أصبح كورتاثار من جديد مؤيداً متحمساً للثورة الساندينية وكان بقلبه أقرب أليها أكثر مما استطاعت تحقيقه الثورة الكوبية. اهتمامه السياسي سار متلازماً مع اهتمامه الحي بالشعوب المقهورة في أمريكا اللاتينية.
خلال سنواته الأخيرة عزز كورتاثار من اهتمامه السياسي، ليس اقله، دفاعه عن الثورة النيكاراغوية التي رمزت له الى احتمالات المستقبل في الحرية والأمن كما هو متوخى لدى شعوب أمريكا اللاتينية ـ على الرغم من انه لم يكن وبأي شكل من الأشكال يخلو من النقد حيال الثورة الكوبية أو النيكاراغوية.
يظهر هذا من خلال أشياء عدة، من بينها مقال عن رواية جورج أوريل 1984، حيث كتب: "لا يوجد تبرير أيديولوجي يسوّغ أن يضع المرء الكلّي، الشمولي قبل الفردي أو يضع الرأي القائل برفاهية عموم الناس فوق الشخصي".

كورتاثار مع كارلوس فوينتس ولوي بونويل

موت كورتاثار يرمز الى موت عصر في أدب وثقافة أمريكا اللاتينية ومؤشر على ان موجة "البوم" على وشك الإنتهاء. الأجيال الجديدة أخذت تظهر من دون أن "تتسرب" من كتّاب ـ البوم. غير ان كورتاثار كان، على سبيل المثال، في وضع يؤهله لأن يستمر في التجدد.
الأجيال الجديدة من كتاب وشعراء امريكا اللاتينية يحظون بالإهتمام كثيراً لدى جيل ـ البوم، على الأقل عند كورتاثار الذي كان ذات مرة أمريكي لاتيني وذا صفة عالمية. بالنسبة له لم يكن المنفى مأساوياً، بل العكس: "بغضّ النظر كم كانت كلماتي تبدو قاسية، أريد أن اكرر ان المنفى يغني بطبيعته وهو الذي يبقي العيون مفتوحة، يقظة. نعود الى أوطاننا ونكون أقل عزلة، أقل تعصباً للوطن، أقل انانية.
قال هذا ذات مرة في محاضرة عن "السياسة الثقافية وحركات التحرر الديموقراطية في امريكا اللاتينية" في ستيغس في اسبانيا، أيلول ـ سبتمبر1982. قال هذا بخبرته الثقيلة واهتمامه الفاعل وتجديده المؤكد. لقد كان كورتاثار مؤلفاً كبيراً وانساناً رائعاً ومجدداً تقافياً.


العنوان الأصلي لهذا المقال: كورتاثار مجدد وناشط. عن كتاب: "Kulturen i Latinamerika" "الثقافة في أمريكا اللاتينية" ـ مجموعة مقالات ـ بالسويدية، ستوكهولم 1984.