إنه الشعر ذاته فقط، بلا الانتقاص من ضميره، بلا رتوش و مساحيق، إنه ذاته تماماً منتصباً يحتوي الجميع، يصبح كإنسانٍ كبير بين يديه هذا العالم الصغير. هكذا هي القصيدة في ديوان الشاعر المصري نادي حافظ "به فتنةُ.. وتلمع عيناه" الصادر حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر. قصيدة لا تعتمد على اللغة بل تمشي فوق جسدها لتصل، تحمل موسيقى يحركها الشاعر كما يريد دون أن تكون فائضة عن الحاجة، قصيدة تحمل خيال حقيقي نابع عما يحسه الشاعر، وعن العلاقة الواضحة – أي الغير مخادعة – في الاستماع لكل الأصوات. في هذا الديوان لا أستطيع أن أجزم بحالة وحدة عضوية مشتركة بين القصائد، كل قصيدة لها حالتها المستقلة، و بنيتها الخاصة، لقد خرج نادي عن التقليد السائد في تكريس بنية ما عبرَ ديوان كامل، فهذه الاستقلالية بين قصائده، تجعل من كل قصيدة مشروعا منفصلا بامكاننا التعامل معه بعيداً عن باقي القصائد، إن ما يجمع بين هذه القصائد هو الشاعر، روح الشاعر أو بالأحرى بصمته الروحية – على حد تعبيره -.

من الواضح في تجربة نادي حافظ إنها تجربة تتعمد الكتابة البسيطة، (الكتابة الكتابة) أو ما أقصد به الكتابة دون الشعور بأن هنالك الكثير من الرغوة المفتعلة، تخفي الأماكن في زخم الحالة السيكولوجية والإنسانية التي يطرحها الشاعر. على الرغم من إيمان الشاعر بأهمية التدليل على الهوية عبر النص، لا بشكل مقصود بل بشكل تلقائي أو فطري، لكنني بصراحة لم أجد هذا الفعل مُكرس عبر قصائد هذا الديوان – على الأقل بشكل واضح -.

المشروع الشعري في هذا الديوان ليس كمشروع أي ديوان، بل إنه مشروع يتضح من خلاله كيف يملك هذا الشاعر "أصابع" مختلفة عن الأصابع الأخرى في مصافحة القصيدة. نادي يرفض هذه الفكرة في تجسيد الشعر باعتباره وحيا يتم رصده ثم نشره، بل إن العملية تتعدى ذلك لتصل إلى ما هو أكثر أهمية، إنني أشعر بأن القصيدة يتم ردها إلى قسمين، قسم صوري و آخر مادي، و القسم الصوري لا أعني به القسم المعتمد على الصور والاستعارات وما إلى ذلك بل هو الوعاء الذي يصب فيه الشاعر مادة القصيدة، إنه يتقصد البنية في كتابة قصيدة – البنية معادل موضوعي للقسم الصوري – لكنه لا يتقصد مادة القصيدة التي تندلق بتلقائية – القسم المادي -.

نادي شاعر دقيق جداً، دقيق في المقادير، مقدار اللغة / مقدار الموسيقى / مقدار التنفس.. لذا أجد قصيدته منطبقة تماماً على عبارة المبدع الفلسطيني محمد الأسعد : "القصيدة نبتة برية، يربيها الشاعر وتتمثل قدرته وإبداعه في تشذيبها بشكل صحيح". الشاعر هنا يعرف كيف يجعل قصيدته نظيفة خالصة صافية بلا إضافات والأكثر من ذلك أنه يعرف أين يتوقف.. أين يضع نقطة نهاية.

تجربة نادي حافظ تقدس الشعر باعتباره فعلا إنسانيا و يكتسب صفة الإبداع من إنسانيته، الشعر لدى نادي ليس الشعر الذي يعتمد على تفجير اللغة حسب تعبير الشاعر السبعيني حلمي سالم، فهو مبتعد تماماً عن هذه الفكرة المهترئة، ويزحف لكي يكتب قصيدته من التجربة الحسية لا من التجربة الذهنية المتعالية عن المحسوس. أنا أشعر بأن القصيدة هنا تحول الشاعر إلى شخص ذكي و خبير يعرف كيف يجعل الأشياء التي مللنا من رؤيتها إلى أشياء تتحرك تتنفس تنطق ترقص، تمنحها صورة بعيدة عن الخيال المفتعل بل قريبة منا، ونابعة عما نريده. يتعمد الشاعر في قصائده إلى ابتكار قاموس لم يعترضني سابقاً، لا أعرف إن كانت بعض جزئيات هذا القاموس متطرقة من قِبّل التجارب المصرية – فهي تجارب لا تعد و لا تحصى لذا لا أستطيع أن أحصر الأمر – فهو يعمد في بنيته على صدمنا بالمفردات، صدمة غير عبثية، مثل استخدام بعض المفردات المصرية لها أصول في اللغة العربية لكنها دارجة في اللهجة أكثر من استخدامها الفصيح..

"تعود مدركاتك إلى مكانها في حجمها الطبيعي
و ربما أيضاً رويداً رويداً يكشُّ أو يتسع الفراغ....."
/ نص : يكشّ.. أو يتسع الفراغ
"بكل ما أملك حاولت – لم يكن معي غير صوتي –
صوتي : الذي يشبه ( سقالةً ) بين غريقين في مرآة
دون جدوى"

/ نص : دون جدوى
"بكل ما أملك - حاولت –
من مزامير أن أقنع العصافير
كي تمرق من سمائي مرةً أو تطل مرةً
على روحي كل " دوريتين ""

/ نص : دون جدوى

يدعو الشاعر في تجربته إلى طرح آخر في التعامل مع الإرث، إنك لتجد في تجربة الشاعر بصورة عامة الكثير من العبارات التي تحمل التركيبة القرآنية، على الرغم من غرابة هذا الفعل بالنسبة لتجربة قصيدة نثر، إن كل تجارب قصيدة النثر العربية عدا استثناءات بسيطة تملك عداء للتراث، و تتعامل معه بفوقية ولا مبالاة و تجاوز باعتباره مرحلة مفروغ منها، خاصة إنهم يجدون في التراث – كونه جزء من ثقافة شفاهية وخطابية – نتاجا تماهى مع تنظيم القبيلة وإن التخلص منه يعني التخلص من هذا التنظيم البائس وما كان يحتويه من بلاغة مقيتة.. أما نادي حافظ فإنه يملك منظورا آخر للإرث، إنه ينطلق منه، أو بالأحرى يهضمه ليحتويه، فهو يرى ذاته في علاقة انتماء متبادلة مع هذا الإرث بكل أقسامه سواء كانت شعرا أو نثرا أو نصوص مقدسة..
"أنام ملء جفوني عن خرائب
و حرائق في الرقبة.. "
"أمشي.. و يتبعني الغزاة"

/ نص : ازددت حمرة.. و لمعانا

من السذاجة التفكير أنني أريد بناء أي شيء على الكلمات – هذا ما يقوله مايا كوفسكي الروسي. و هذا ما يؤمن به نادي حافظ المصري..


قصيدة من الديوان :

الممر

أقدام كثيرة....
غليظةُ، و خفيفة،
مرت من هنا
من على وجه هذا الممر
الرخامي
الناشف، البارد.
هذا الممر الرخامي البارد
اللامع، الناشف،
الذي يصبح في آخر الليل
مرقداً لحارس الأمن.

حارس الأمن
الذي يشتكي لي كل صباح
إحساسه بدبيب أقدام كثيرة
غليظة.. و خفيفة
على ظهره.

http://mona0.jeeran.com
[email protected]