اذا كان تشيخوف قد قال قديما اننا خرجنا جميعا من معطف غوغول... فهل يمكن لشعراء الحداثة ان يقولوا انهم خرجوا من معطف الشاعر بدر شاكر السياب؟ فهذا الشاعرالمعلول والساخط حمل مغامرته الشعرية عند زمن البداية الحداثية في الشعرية العربية وكأنه يمارس لعبة خبيئة في موروثات المسكوت عنه! ولهذا حملت هذه المغامرة نزوعا غرائبيا اثار الكثير من الاسئلة ازاء المرجعيات التقليدية في التاريخ الشعري حدّ ان هذا النزوع تحوّل الى تمرد على الايقونة الشعرية،، لكنه وبحكم اليات اعادة انتاج الخطاب الثقافي التقليدي تحول النموذج السيابي ذاته الى ايقونة اخرى!!!
ان البحث عن اسس موضوعية في مجال الحداثة الشعرية العراقية والعربية ياتي في اطار البحث عن عوامل خارجية لهل فاعلية التاثير والمغايرة فضلا عن ضرورات الوعي الذاتي لاشكالات تحررنا من مهيمنات انماط تاريخية معقدة ارتبطت بمكونات السلطة والنظام الاجتماعي والاقتصادي مثل مهيمنات (الفكر العمودي ) التي كرست الكثير من القداسات والمطلقاتوالتي جعلت في بعض منها الشعر خطاب الامة والممثل الوطني لديوانها و تاريخها غير القابل للغش والتخريب.
وهذا مايفسر اتساع الكثير من التابوات في شجون التعاطي مع انزياحاتثقافتنا الشعرية بدء من اثارات ابي نواس مرورا بتغايرات ابي تمام وصولا الى
مغامرة السياب ومجايليه والتي يبدو انها كانت اكثروفرة في المشروعية من غيرها!! لقد اقترنت مرحلة الاربعينات والخمسينات في العراق بتحولات وعي الثورة الاجتماعية وحركة التحرر الوطني والتي انعكست بدورها على واقع الكثير من البنيات الثقافية واستحقاقات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية،، اذ اثارت هذه المرحلة اسئلة جديدة ومهدت لتصورات وتصادمات ثقافية مغايرة وجدت في مشروع الحداثة والتجديد والخروج عن الذوق الادبي والتقاليد الادبية السائدة فضاء غير مألوف في اجندة القوى الاجتماعية والسياسية وانماط خطابها الايديولوجي والادبي والذي مهد بالضرورة لانتاج مفاهيم جديدة في مجال اللغة الثقافية والشعرية خاصة باتجاه الذات والرؤيا واستنطاق ابجديات جديدة غير خاضعة بالكامل للسياق الاجتماعي.... وسط هذه الاجواء المفتوحة على التغاير كتب الشاعر بدر شاكر السياب اول قصائده التجديدية ( انشودة المطر ) التي نشرتها مجلة الاداب البيروتية عام 1954،،وكما هومتوقع، انطلقت حولها الكثير من الطروحات النقدية بين مؤيد ورافض،، لكنها اشّرت حقيقة التحول في مجال النظر الى دور الثقافة الشعرية وما يمكن ان يحمله التغاير الشعري من تجليات تعبيرية متميزة تعبّر عن المتغيرات الجديدة في الواقع وفي الثقافة الشعرية والايذان بدخول زمن شعري له بضاعة غير مألوفة التداول تمتزج فيها مفاهيم الحياة بالموت والخصب والجفاف من منطلق الانكشاف علىاسطورة الانسان وقوته في المواجهة ممزوجة برؤياحلمية ذات محمولات لنظام دلالي يحمل سياقه العام استشراف الانسان لعالم جديد، لاحدود لجغرافيا الوعي فيه، ولاسيطرة فيه لسلطة الوهم والخرافة.انه عالم اللانهائيات.
ومن هنا فان ما يميز مرحلة السياب الشعرية انها كانت مرحلة انفتاح ومحاولات غير امينة للمغامرة !! وان نمطها التاسيسي اقترن بقسوة العالم وتحولاته بكل ما تحمله من تطلعات الى عالم مغاير،، ولكن هذه التجربة تحولت الى نوع ايقوني جعل منها النقاد بحكم ادواتهم النقدية المحدودة وضعف الوعي المنهجي فضاء للترهل الشعري،ولم تجد قراءات واعية ودقيقة لمشروعها التجديدي،وهذا ما يجعلنا اميل الى القول بان اسطروة السياب الشعرية صنعتها عوامل غير عراقية !! قديكون الفضاء الشعري المغاير في بلاد الشام اكثر ميلا لاستعراض هذه المغامرة وتغريب نمطها التعبيري والحداثوي
،،وربما هو ذات السبب الذي جعل السياب قريبا من تجربة مجلة شعر وجزء من فضائها التجديدي ومغامرة شعرائها بكل نزوعهم التمردي، فضلا عن ان شخصية السياب القلقة وغرابة سلوكها
ومعاناته مع المرض والعقد الاجتماعية انعكست على سلوكه السياسي وخياراته الايديولوجية وربما جعلت منه شخصية هي الاقرب الى نموذج
المازوكي الباحث عن العذاب اللذة الغريبة وتحولاته غير المتوازنة !! كما ان شعراء مرحلة الستينيات مارسوا نوعا من التمرد على الفضاء السيابي، وقد قلل البعض منهم من شأن مغامرته ومشروعه الحداثي، وكأنهم يمارسون في لاوعيهم طرد شبح ايقونته الشعرية المهيمنة.
ان قيمة السياب الشعرية والتاريخية لاتكمن في مجموعة التغايرات الشعرية في النموذج الشعري حسب بقدر ما تتمثل لقوة الصدمة التي طرحها هذا النموذج بكل معطياته ومكوناته ومرجعياته ونموذج بنيته للجملة الشعرية وصياغتها الوزنية والعروضية وانفتاحه على التجارب الشعري الكونية وترجماتها،، وهذا مايجعل المشروع السيابي لاينتمي لمشروع ( الاسلاف المباشرين) كما يرى انسي الحاج وانما ينتمي لمشروع الاباء الباسلين الذين القوا الحجر على البرك الساكنة، وهو ماينبغي اعادة قراءته في اطار مسؤولية الوعي النقدي واشكالاته ضمن دراسة السياق التاريخي للحداثة الشعرية العربية ومؤثراتها واستحقاقاتها وتحولاتها واسئلتها دون مغالاة او تعقيد او اسقاطات غير دقيقة تستعير خطابها من اجندة نقدية وتاريخية خارج وعي هذا السياق.. لذا فان الحديث عن المعطف السيابي هو حديث تطهيري قد يجد البعض فيه لذة للخلاص بعد ان ازدحم الطريق بالراحلين الى الجلجلة !!!!!

[email protected]