بلغة اقتحامية، غاضبة مستنفرة، يصبّ الروائي "الياس الديري" محنة المثقف العربي الحديث في 191 صفحة من الغضب المتواصل. انّ "سمران الكوراني" نموذج ناصع للمثقف المستلب، الذي شكلته سلسلة من النكسات، لا نكسة واحدة، وعلى جميع الصُعُد. انه خلاصة الضحايا وتاجها لبطش لا يعرف الحدود. ليس الضحية من يقع تحت طائلة تعذيب مباشر، اذ ثمة وسائل تعذيب تبتكرها الأوضاع، تفوق أشدّ طرق التعذيب، المعروفة، وحشيةً وسادية. وسمران الكوراني، هو ضحية مثالية لمثل هذه الظروف، وان كان يمتلك حرية ما، في حيز مهما كانت مساحته، إلا انه ازاء القمع الكوني الذي يحمله ويعيشه، يعدّ هذا الحيز ذاته اختناقاً. فما جدوى حرية ما لمن يعيش اغتراباً شاملاً!
في كل سطر من سطور الرواية وكلما ضربنا عميقاً فيها يتكشف لنا لا توافق البطل مع ما يعيشه، بل حتى مع أعذب الأشياء واسماها! ونستطيع ان نسمي هذه العلاقة من خلال محورين مهمين في الرواية:
الأول: "أسيلا"، والثاني: "المهمة" التي يحضر من أجلها الى باريس.
فهذه اسيلا التي يوقف لها المؤلف ـ البطل، صفحات تفوق بعذوبة لغتها الكثير من القصائد:
"وانت أسيلا، تقولين أشياء مضيئة على عتمة الأزمنة المضيئة.
وأنت أسيلا تقولين أشياء مضيئة على عتمة الأزمنة المظلمة":16
أو "والحب مشنقة. جميل وساحر، هذا الحب. مثل وجه الله الغامض..": 38
الإستشهاد بهذه "الأبيات" هو للتدليل على، كم من الحب يعلق عليها. إلا انه في لحظة ـ فصام ـ وخراب شامل يطْلق
عصفورته الوحيدة في أفقه المتجهم. وكنتيجة طبيعية لليأس والخراب الذي يعمه، وايمانه بلا جدوى الأشياء، يترك الأمور، احياناً، هكذا.. هي التي توجهه أو تسير لوحدها:
"جاء الى باريس، وهو ليس متأكداً من تآلفه مع المجموعة. طلبه "مالك" فحضر. لم يسأل. لم يستفسر. طلبه فحضر، مع انه ليس مؤمناً بأهداف المجموعة وجدوى الإرهاب": 24
بل انه يتخلى في لحظة من لحظات ـ وهي كثيرة ـ شروده الشاعري، الذي ينشد فيه عالمه الصافي. العالم ـ الحلم، البديل عما يتخبط فيه من شظف وضياع، يتخلى تحت ضغط الظروف القاهرة، عما كان يعده و يؤمن به كواجب وتضحية:
" هيا نستقل، نستعيد براءتنا، نستعيد وجوهنا. نفر الى العرتوق وهناك نحطّ الرحال. نزرع، نكتب، نصطاد، نغني… لست مقتنعاً": 30
هذا التذبذب والإنسلاخ ضروريان لمن يرى أكثر مما ينبغي. وسمران الكوراني راءٍ من الطراز الأهم، ولو لم يكن كذلك، لما تردّى في فخاخ القلق وانسكن بهاجس الرفض، آخذاً على عاتقه مهمة "الأنبياء" في تخليص الروح وفضح اللعبة الكبرى.. " الأفخاخ لا تنس الأفخاخ. لا تنس اللعبة الكبرى. الأفخاخ هي المسألة. العالم شيطان كبير لا يتوقف عند الجسد انه دائماً يخطط للإستيلاء على الروح، لقتل الروح، لقتل القصيدة، الأفخاخ كثيرة، لا تضحك مني. لكلّ منا فخّه. لكل شيطانه المتربص": 31
وبإخلاص اسطوري، يمضي سمران الكوراني الى آخر مديات اقتناعه وقلقه الذي تشعّ به روحه. انه يذكرنا بأبطال
الأساطير لشدة "واقعيته" واتضاحه في الغموض، فهاهو يتخلى عن الحلم ـ العرتوق الذي ظل يوقّع عليه آماله ـ الى جانب أسيلا ـ على طول الرواية، مختاراً أو مدفوعاً الى موته "الرجراج" متيحاً له وحده الحسم:
لقد افلت الحصان البرّي من مروضه، قطع الحبل. قطع القيد، قطع المسافة بين الحب والموت. والذئب يفاجئه في المغارة فيفترسه ولا تتبلغ فهيدة النبأ": 190
ولا ينسى الياس الديري، وفي ذات الصفحة التي يقتل فيها سمران الكوراني، أن يفجّر الحقيبة بمالك، رفيق سمران ومعلمه. والديري يسوق أبطاله الى ميتاتهم، هادئين، باردين كما لو انهم يردون تحية عابرة، وهو ما فعله هنا بـ "سمران" و "مالك" و"عواد" في "الفارس القتيل يترجل" وربما بأبطال قادمين!
هكذا يدأب الياس الديري لتُكمل عنده النهايات انفتاحها على العذاب والإنقماع ووأد كلّ نأمة امل، وهو بذلك يذكّر برومان بولانسكي ـ المخرج السينمائي ـ، عندما كان يُسأل عن نهايات افلامه: لمَ يتركها، هكذا، مفتوحة على الفجيعة، فكان يجيب، بما مؤداه: هذا هو الواقع ولا أريد أن اغشّ المشاهدين بطمأنتهم".

عودة الذئب الى العرتوق: خطوط عريضة

"سمران الكوراني" رجل ينمّ عن الخيبة والهزيمة. مناضل ذو تنظيم سابق في حزب ـ الحزب لا يفصح عنه في الرواية، سوى بالقول، انه حزب عقائدي ـ يتخلى عنه الحزب بعد ان نفذ له الكثير من المهام، متهماً اياه بالإنهزامية، وهو في الحقيقة، حالم. يفصل من وظيفته التدريسية لأن الإدارة دأبت على اتهامه بـ "الإنحراف الفكري والإنحلال الأخلاقي": 13.
يعيش فترة ضياع وتشرد الى ان يتصل به "مالك" من باريس ـ مالك هو مسؤوله الحزبي وهو الذي أشرف على اعداده للحزب ـ، يطلبه في مهمة فيحضر الى باريس من بيروت. وفي الطائرة التي تقله الى باريس يتعرف على" أسيلا" التي سيكون لها شأن كبير في الرواية. تنحصر المهمة التي يُطلب لأجلها، في اعداد حقيبة متفجرة، تستخدم ضد احدى الجهات.
سمران من ضمن المجموعة التي تساهم في المهمة، وان لم يكن هوالمكلف المباشر بالعملية الإنتحارية. يصل الى باريس، لا ينبهر بها، بل يكنّ لها عداءً، فهو يسميها: "عاصمة الحجارة الداكنة":80، ولا ينفك يشتاق ويشيد بـ "ضهر المهر"، قريته والعرتوق، حيث الطبيعة والهدوء والحميمية في العلاقات، وملاعب طفولته وصباه.
"سمران" يلتقي بأسيلا في باريس، إثر موعد تمّ في الطائرة.. يلتقيها، يكتشفها، يتعلق بها حدّ الجنون، تصبح اغنيته على طول الرواية، إلا انه خائف من هذا التعلق، لأن ثمة لا تكافؤ في العلاقة ـ فهي من طينة غير طينته ـ كما يقول، مردداً ذلك في غير موضع: "متخصصة في ثقافة الأزياء والمطاعم والملاهي": 76. وهو الرجل الذئب الذي نخره التعب والزمن، رجل يحمل هموماً وتطلعات كبيرة يحلم بتغيير العالم: "هدفنا تغيير العالم المتحجر القلب، بلادنا تعيسة، متخلفة، ممنوعة من التغير والتقدم":81. إذاً فالنقاط التي تفرقهم أكثر مما تجمعهم، إلا انه رغم قناعته بذلك يبقى مشدوداً إليها، كأنه يمارس نوعاً من تعذيب الذات، وهذا يظهر ـ أي مازوشيته ـ في غير موقف خلال الرواية. لكن، في الأخير يقرر سمران إنهاء علاقته بأسيلا، بعد ان وصل ذروة اليأس من كلّ شيء:
" العالم ليس معه وقت للحالمين والشعراء":66، وبالتالي يترك باريس، متخلياً بذلك عن المجموعة ومهمتها، وأسيلا وعالمها، والتي أضحت هي مهمته الأولى والأخيرة. يترك الجميع متوجهاً الى حلمه العتيق، الى العرتوق، حيث الذئب ـ ونبع صغير، مياهه صافية كعين الديك ـ:43. وجبرون الكوراني، والده و"مرتا" هذه التي لا نتعرف عليها إلا في الصفحات الأخيرة للرواية، والتي من اجلها يرمي سمران بنفسه الى غابة الرصاص والذئاب، كتكفير عن.. حياته:
".. وسمران الكوراني لا يزال يركض لاهثاً، صوب ايامه الأولى، صوب غابة من الرصاص والذئاب، فيما عينا مرتا الجامدتان ترمقانه باشمئزاز":119. مرتا ترمقه باشمئزاز، رغم تضحيته بحياته من أجلها، لماذا؟.. تكرهه لأنه تخلى عنها في موقف صعب ـ موقف غير مشرف ـ ففي احدى المناسبات الدينية التي لايني يقيمها أهل القرية ـ لا بدّ من الإشارة هنا الى ان بطل الرواية مسيحي ـ وبالتالي فان القرية التي يتحدث عنها وعن طقوسها، هي مسيحية. تعجب هذه الفتاة التى تدعى مرتا بـ سمران، وهي صبية جميلة، متزوجة من رجل يكبرها بكثير، فتشتهيه، وحين تسنح لها الفرصة، تقترب منه وتحاول ان تقبله، فيما هما يهمان بذلك، يفاجَئون بأهل القرية يترصدونهم وهكذا تكون الفضيحة من لا شيء. وهنا وبعد ان شعر بوجود الآخرين، وهو في غمرة انفعاله بها، يتركها نهباً للألسن والعيون، ونتيجة ذلك ينشأ موقفها المبغض له. وعندما يدفع سمران بنفسه الى الموت، فهوـ في جزء من خياره هذا ـ يحاول أن يكفر عن ذنب قديم، بالحقيقة هو ليس مسؤولاً عنه، أو بالأحرى ليس له يد فيه. وعليه يكون موته تلخيصاً لخيباته واندحاره وعدم تواؤمه مع الكل، الذي يفصح عن غربة شاملة. ومن هنا ليس مفاجئاً أن نكتشفه لم يعد متحمساً لحلمه القديم حين اقترب منه: " ثمة تحول مفاجئ في شعوره، اكتشف انه لم يعد متحمساً للحرج وبيت الطين وسكون الأودية وصراخ الذئب":181. وهذا متأتٍ من كون: "الشعور مهزوز، الجسد مهزوز، الإنتماء مهزوز، والحب مهزوز" وهذا ما اعترف هو به.


من أعمال الياس الديري الأخرى:
ـ الرجل الأخير (رواية) ـ جدار الصمت (رواية) ـ تبقى وحيداً وتندم (رواية) ـ الفارس القتيل يترجل( رواية) ـ حديث الساعة(كتابات) ـ من يصنع الرئيس( كتابات) ـ الموسوعة السياسية.


bassemmeraiby@ hotmail.com