حاوره محمد حمدي: طفولة، غربة، معاناة، شوارع، دكتاتور، احتلال، إرهاب، أطراف لمعادلات صعبة التوقع، وتوقعات لا تحتاج الى سعة فهم بل الى تجربة محكومة بالمعرفة واستبعاد لعنصر المفاجأة المبهم الذي رحل عنا مع انكشاف قرص الشمس وظهوره على الملأ ليجر معه أحداثاً جسام وصل صراخ صداها الى أعمق الأعماق ولم يؤثر في ذلك القاع المشوش المريض، ليتنازل عن مهمته الأبدية الى عدسة صغيرة حملها مصورنا الفنان إحسان الجيزاني الى ثغور الثغور لتصطاد ضميراً تائهاً هنا وموت لم يرْ النور بعد فكانت هذه الحصيلة.

هنا حوارٌ مع الفنان الفوتغرافي العراقي الجيزاني عن معرضه الأخير والذي أقامه في ثلاث مدنٍ ألمانية والذي أفتتحته الفنانة الألمانية السيدة (Frau Heibt) وحضره الكثير من الجالية العربية المقيمة وبعض أصدقاء المصور من الفننانين الألمان.

* أطفال العراق من بين أكوام هائلة من مواضيع الساعة لماذا وهل هي فكرة لأختزالٍ آخر؟
- أجدها الأقرب الى نفسي وصورة مرة تذكرني بطفولة فقدت طفولتها في عز لحظات الجمال والرؤية والذكرى العبقة، طفولة معذبة تصور لي تسلسل الأحداث تباعاً، تغير العالم حولنا لآلاف المرات ولم تتغير هذه الطفولة وموتها وسوادها القابع بين نهري دجلة والفرات أنها صورةٌ مصغرة لعالم عشناه ونعيشه كل يوم، فقدنا الأحساس بعنصر الزمن ولم يعد ذي جدوى أوحلول، الأطفال يعانون ويموتون ويسحقون بآلة لم تعد تعرف الرحمة من قبل ولا حتى اللحظة .

*إذا تريد للعدسة ان تحمل صراخات الطفولة في العراق، الى أي مدى ستصل هذه الصرخة؟
- انطلقت عدستي لتصور الطفل وغربته في الوطن بعد ان فقد أباه ومدرسته وأصدقاءه من هول جرائم النظام السابق وحروبه المدمرة، وما رافقه من قتل على جنود الأحتلال وطائراتهم التي أحالت الوطن الى خراب والأطفال الى اشلاء صور لم أستطع جمعها بكل التفاصيل ولا بعد ازمنة من العمل الشاق.

* أجدك وقد ركزت العدسة على اطفال حفاة وغيرهم في حالة يرثى لها، هل هو امتداد لنقل واقع مؤلم الى انظار العالم بطريقة منتقاة؟
- أبداً انها حالة يدركها كل من يزور العراق اليوم انه ارث ثقيل لسنوات عجاف أكلت اللحمة ودكت العظام وحملت الطفولة اوزارها، مشاهد اعتيادية بآلات في المدينة والريف والهور والجبل، وما تراه هو لقطة حية لفنان تأثر بها وارادها للعرض كنموج ربما لتوفر عناصر الوضوح الأخرى أولأنها الأقرب الى رؤية الفنان من خلال عدسته، وهذا هوسر مضامين الصور الأخرى وجمالياتها التي عرضت في هذا المعرض.

* بالأضافة الى كل ذلك وهو مفهوم بطبيعة الحال هنا ما لا أفهمه أطفال بمهن - وأعمال مختلفة هل قصدت من ورائها شرح قضية عمالة الأطفال؟
أولاً الظروف التي مر بها الطفل وعاشه العراق في السابق وخلال فترة الحصار وهو امر مفروغ منه، وهذه جرتْ اهالي الأطفال الى اختصار فصول طويلة من حياتهم حيث يتعمدون الى عدم ارسالهم الى المدارس وزجهم في مهن صعبةٍ جداً مثل الحدادة واعمال البناء الشاقة ليضمنوا من خلال هذه الأعمال مردوداً مادياً بأسرع وقت ممكن وبأقرب الفرص وهذا ما قُتل بداخلهم روح الأحساس بطفولتهم كبقية اطفال العالم وجعلني اعيشه معهم بمرارة والم واتوق الى ذلك اليوم الذي يسايرون فيه بقية اطفال العالم ويقاسمونهم الرخاء والرفاهية واحلام الطفولة.

* في أغلب اعمالك الفنية هناك مضامين سياسية، لماذا التركيز على ذلك؟
- منذ البداية كان هناك صراع حياتي مرير مع الأشياء التي أعيشها، فمنذ الطفولة وحينما كنت بائعاً متجولاً للحلويات والتي تسمى بالعراق ( الطاطلــي) والماء البارد على ارصفة بغداد في ذلك الصيف القائظ لغرض توفير مستلزمات المدرسة والمعيشة من هنا بدأ الشعور بالصراع من اجل البقاء في بلدٍ يعتبرُ منأغنى دول العالم قاطبة أضافة الى موقفي المعارض للظلم والسياسات القائمة حينذاك والذي ادى بي الى للدخول الى السجن في بدايات حياتي وتلك كانت بالنسبة لي من التجارب المريرة التي لايمكن نسيانها والتي تبلور من خلالها ايضاً مفهومي للحياة والفن على وجه الخصوص وهذه الأعمال هي انعكاس لرؤيتي السياسية والثقافية معاً فكلاهما امتدادٌ للآخـر.

* كم هو عدد الأعمال الفوتغرافية التي أعدتها لمعرضك والمعنون أطفال العراق؟
- لقد أعددت لهذا المعرض ما يقارب الثلاثون صورة فوتغرافية ملونة وبإحجامٍ مختلفة وهي جزء من حصيلة كبيرة جلبتها معي من زيارتي الأخيرة لبلدي العراق بعد غياب طويل أمتد الى أكثر من أربعة عشر عام.

* ما هي أقرب صورة تراها لديك؟
- هناك صورتان بقيتا عالقتان في ذهني هما بائع الحلويات أوما يسمونه في العراق( الطاطلي) وتلك المرأة الحاملة لطفلتها وسبب اهتمامي بهاتين الصورتين يرجع الى ان هذا الصغير الذي يمتهن بيع الحلويات والتي سقطت منه على الأرض وبقي محقاً الى هذه المأساة والتي دفعته للتساؤل ماالذي سأفعله الآن؟؟ اما تلك الطفلة الصغيرة التي تحملها امها فهي غير مبالية للكاميرا وليس لديها الرغبة في أي شئ وقد اخبروني بعض زوار المعرض من الألمان بمدى اهتمامهم بهاتين الصورتين بشكل نادر. واود ان احيطك علماً بان المعرض ستعاد اقامته في مدن اخرى نزولاً لرغبة بعض الفنانين الألمان المهتمين بفن التصوير الفوتغرافي كي استطيع ايصال هذه المعاناة الى اكبر عدد ممكن من المهتمين بالشأن العراقي.

* ما هو سر اهتمامك بالطفولة؟
- سؤال مجحف بعض الشئ ولكن دعني أخبرك بشئ ان الطفل في مجتمعاتنا العربية لم يلق ذلك الأهتمام به بالشكل الذي يحفظ طفولته، اضافة الى العادات والتقاليد البالية قد حرمته من ممارسة الكثير من طموحاته وهواياته فالطفل يعاني من اهمال شديد واحباط خصوصا اذا كان يعاني من عاهة او فقر فدائما يتعرض الطفل للكثير من التوبيخ وز الأهانة والتي تنعكس عليه في المستقبل . وليس هناك من يلتفت الى هذه الحالة التي تفاقمت لدينا .

* ما هي الأضافات الفنية والفكرية التي قدمتها لك تجربتك في اوربا؟
- على الصعيد الفني قدمت لي الكثير من الفرص للآطلاع على التقنيات الحديثة فيما يتعلق بالتصوير الفوتغرافي والاطلاع كذلك على تجارب المصوريين الغربيين بوجه عام والمصورين الألمان بوجه خاص. اما على الصعيد الفكري فانت تعرف باننا مملوئين بالحزن الكربلائي الموروث وهنا حاولت ان اقدم مفهوما جديدا ياخذ صورة شاملة لموضوع الحزن، فالحزن والآلام هما واحد كما تعرف ولا يختلف بطبيعة المكان سواء كنت هنا او في أي بقعة من الأرض.

* ما هوغرضك من أقامة هذا المعرض في هذه الفترة؟
- أريد أن انقل الى الغرب طبيعة هذه المأساة التي يعاني منها الطفل العراقي بشكل مجرد وبدون رتوش منذ مدة طويلة وادعو في ذات الوقت جميع المنظمات الأنسانية والأهلية وبالأخص منظمة الطفولة ( اليونسيف) للنظر في كيفية تقديم العون للتخفيف من هذه المأساة وقد قمت بعرض هذه الأعمال للبيع وخصصت ريع هذه الأعمال للأطفال الذين يحتاجون للمساعدة هذا هو غرضي وهذه هي رسالتي.

* ترى إلى أي مدى قد وصل صدى هذا المعرض؟
- لقد قامت بعض المنظمات الأنسانية بعمل أجندة من صور المعرض الذي يتعلق باطفال العراق وجمع ريع هذه الأجندة( على شكل تقويم سنوي) وارسالها الى العراق على شكل مساعدة للأطفال العراقيين المتضررين كما قام بعض القائمين على مدارس الأطفال في ألمانيا بجمع بعض المبالغ واللوازم المدرسية الأساسية وارسالها الى مدارس الأطفال في العراق أفضل من اولئك الذين يهدوننا ويبعثون لأطفالنا هدايا على هيئة سيارات مفخخة هذا هو المدى الذي حققته من خللا اقامتي لهذا المعرض.

* هل لديك أقتراحات لمعالجة مشكلة الطفولة؟
- هذه مشكلة كبيرة وعليه نتمنى من الجهات المسؤولة عن عملية الأهتمام بالطفولة ان تلتفت الى عدة جوانب لمعالجة هذه المشكلة المستعصية فمثلا ندعو لأيجاد واستحداث مراكز ترفيهية ونوادٍ تهتم بالمواهب الفنية والعلمية وحتى الرياضية وتشكيل لجانٍ لذلك كما ارى ان ينتبه القائمون على رعاية الطفولة بايجاد ضمانات اجتماعية وصحية تكفل للطفل الرعاية الأجتماعية والصحية كما هو معمول بها في الدول المتطورة واعتقد ان لدينا في العراق المكانيات المادي والمواهب البشرية التي تحتاج الى صقل ونجاح مثل هذه الطموحات من اجل الحفاظ عل الطفل من التشرد والأهمال والجوع. هذا جل ما اتمناه وادعو اليه ليكون عراق المستقبل خالياً من كل شكل من اشكال المعاناة والأهمال.

jezany@ freenet.de